الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النُّكْثِ، وحلَّل تحليلاً عامًّا، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قُدْرته وحِكْمته في سَطْرَيْنِ، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بهذا إلّا في أجلاد.
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: خطابٌ للمؤمنين حقًّا ألَاّ يتعدَّوْا حدودَ اللَّهِ فِي أمْرٍ من الأمُور، قال عطاء بنُ أبي رَبَاحٍ: شعائرُ اللَّه جمِيعُ ما أَمَرَ به سبحانَهُ، أوْ نهى عنه «1» ، وهذا قولٌ راجحٌ، فالشعائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ، أيْ: قد أَشْعَرَ اللَّه أنَّها حَدُّهُ وطاعَتُهُ، فهي بمعنى مَعَالِمِ اللَّهِ.
وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: أي: لا تحلُّوه بقتالٍ ولا غَارَةٍ، والأظْهَرُ أنَّ الشهر الحرام أُرِيدَ به رَجَبٌ ليشتدَّ أمره، وهو شَهْرٌ كان تحريمُهُ مختصًّا بقريشٍ، وكانَتْ تعظِّمه، ويُحتملُ أنه أريد به الجنْسُ في جميع الأشهر الحُرُمِ.
وقوله سبحانه: وَلَا الْهَدْيَ: أي: لا يستحلُّ وَلَا يُغَارُ عليه، ثم ذَكَر المُقَلَّدَ مِنْهُ تأكيداً ومبالغةً في التنبيه علَى الحُرْمَة في التَّقْليد، هذا معنى كلامِ ابْنِ «2» عبَّاس.
وقال الجمهورُ: الهَدْيُ عامٌّ في أنواع ما يهدى قُرْبَةً، والقَلَائِدُ: ما كانَ النَّاس يتقلَّدونه من لِحَاءِ السَّمُرِ وغيره أَمَنَةً لهم.
وقال ص: وَلَا الْقَلائِدَ: أي: ولا ذَوَاتِ القلائدِ، وقيل: بل المرادُ القلائدُ نَفْسُها مبالغةً في النهْيِ عن التعرُّض للهدْيِ. انتهى.
وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: أيْ: قاصِدِينَهُ مِنَ الكفَّار المعنى: لا تحلُّوهم، فَتْغيِرُونَ عليهم، وهذا منسوخٌ ب «آية السَّيْف» بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فكلُّ ما في هذه الآية ممّا يتصوّر في مسلم حاجّ، فهو
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 392) برقم (10941) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 126) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 450) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(2)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 395) برقم (10951) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 449) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
مُحْكَمٌ، وكلُّ ما كان منها في الكُفَّار، فهو منُسُوخٌ.
وقوله سبحانه: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً، قال فيه جمهور المفسِّرين:
معناه: يبتغونَ الفَضْلَ من الأرباحِ في التِّجَارة، ويبتغُونَ مَعَ ذلك رِضْوَانَهُ في ظَنِّهم وطَمَعهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ، وفيها استئلافٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه للعَرَبِ، ولُطْفٌ بهم لِتَنْبسطَ النفوسُ بتداخُلِ النَّاس، ويَرِدُونَ المَوْسِمَ، فيسمَعُونَ القرآن، ويدخل الإيمانُ في قلوبهم، وتَقُوم عليهم الحُجَّة كالذي كان، ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذلك كلَّه بعد عَامٍ في سَنَةِ تِسْعٍ إذْ حَجَّ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه ، ونودِيَ في الناسِ بسورة «بَرَاءَةَ» .
وقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا: مجيءُ/ إباحة الصَّيْد عَقِبَ التشْدِيدِ فيهِ حَسَنٌ في فَصَاحة القَوْل.
وقوله سبحانه: فَاصْطادُوا: أمرٌ، ومعناه الإباحةُ بإجماع.
وقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: معناه: لا يُكْسِبَنَّكم، وجَرِمَ الرجُلُ: معناه: كَسَبَ، وقال ابن عبَّاس: معناه: لا يَحْمِلَنَّكم «1» ، والمعنى: متقارِبٌ، والتفسيرُ الذي يخُصُّ اللفظةَ هو معنى الكَسْبِ.
وقوله تعالى: شَنَآنُ قَوْمٍ: الشَّنَآنُ: هو البُغْض، فأما مَنْ قرأ شَنَآنُ- بفتح النون-، فالأظهرُ فيه أنه مصدَرٌ كأنَّه قَالَ: لا يُكْسِبَنَّكم بُغْضُ قومٍ مِنْ أجْل أَنْ صَدُّوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ سَنَة ثمانٍ، حين أراد المسْلمونَ أنْ يَسْتَطِيلوا على قريشٍ، وألفافِهَا المتظَاهِرِينَ على صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصْحَابِهِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، وذلك سنَةَ سِتٍّ من الهجرةِ، فحصَلَتْ بذلك بِغْضَةٌ في قلوب المؤمنين، وحيكة للكُفَّار، فنُهِيَ المؤمنُونَ عَنْ مكافأتهم، وإذْ للَّه فيهمْ إرادةُ خَيْرٍ، وفي علمِهِ أنَّ منهم مَنْ يُؤْمِنُ كالذي كان.
وقرأ أبو عمرو «2» ، وابن كَثِيرٍ:«إنْ صَدُّوكُمْ» ، ومعناه: إنْ وقع مثل ذلك في
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 402) برقم (10993) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 8) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 148) .
(2)
وحجتهما: أن الآية نزلت قبل فعلهم وصدهم، قال اليزيدي: معناه: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا إن صدوكم.
ينظر: «السبعة» (242) ، و «الحجة» (3/ 212) ، و «حجة القراءات» (220) ، والعنوان، «إعراب القراءات» (1/ 142) ، و «شرح شعلة» (347) ، و «شرح الطيبة» (225) ، و «إتحاف» (1/ 529) ، و «معاني القراءات» (1/ 325) .
المُسْتقبل، وقراءةُ الجمهور أمْكَنُ.
ثم أمر سبحانه الجَمِيعَ بالتعاوُنِ عَلَى البِرِّ والتقوى، قال قوم: هما لَفْظَانِ بمعنًى، وفي هذا تَسَامُحٌ، والعُرْفُ في دلالةِ هَذَيْنِ أنَّ البِرَّ يَتَنَاوَلُ الواجبَ والمَنْدُوبَ، والتقوى:
رعايةُ الوَاجِبِ، فإنْ جعل أحدهما بَدَلَ الآخَرِ، فبتجوُّز.
قُلْتُ: قال أحمدُ بْنُ نصر الداوديّ: قال ابنُ عباس: البِرُّ ما أُمِرْتَ به، والتقوى ما نُهِيتَ عنه «1» . انتهى، وقد ذكرنا في غَيْرِ هذا الموضعِ أنَّ لفظ التقوى يُطْلَقُ على معانٍ، وقد بيَّناها في آخر «سُورة النُّور» ، وفي الحديثِ الصحيحِ:«وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» «2» ، قال ابنُ الفَاكهانِيِّ، عنْد شرحه لهذا الحديث: وقد رُوِّينَا في بعضِ الأَحاديثِ: «مَنْ سعى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ، قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ- غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» «3» ، انتهى مِن «شَرْح الأربعين» حديثاً.
ثم نهى تعالى عن التعاوُنِ عَلَى الإثْمِ والعُدْوَانِ، ثم أمر بالتقوى، وتوعّد توعّدا
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 406) .
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2074) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، حديث (38/ 2699) ، والترمذي (4/ 26) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في الستر على المسلم، حديث (1425) ، (4/ 287- 288) كتاب البر والصلة» ، باب ما جاء في السترة على المسلم، حديث (1930) ، وأبو داود (2/ 704) كتاب «الأدب» ، باب في المعونة للمسلم، حديث (4946)، وابن ماجة (1/ 82) المقدمة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث (225) ، وأحمد (2/ 202) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 119) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 221- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
قال النووي في «شرح مسلم» (9/ 28) .
ومعنى (نفس الكربة) : أزالها.
وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين، وقد سبق تفصيله، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، وإن كان هذا شرطا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس، ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم.
(3)
ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (2/ 143)، وعزاه للمنذري في «جزء غفران الذنوب» من حديث ابن عباس وقال: فيه أحمد بن بكار المصيصي، قال الحافظ في «اللسان» : عندي أنه أحمد بن بكر البالسي خبطوا في نسبه، والحديث موضوع.
مجملاً، قال النوويُّ: وعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ «1» : «أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ والإِثْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: استفت قَلْبَكَ البِرُّ: مَا اطمأنت إلَيْهِ النَّفْسُ، واطمأن إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَردَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» «2» حديثٌ حَسَنٌ رَوَيْنَاه في مسنَدِ أحمَدَ، يعني: ابْنَ حَنْبَلٍ، والدَّارِمِي وغيرهما، وفي «صحيح مسلم» ، عن النَّوَّاس بْنِ سَمْعَان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«البِرُّ حُسْنُ الخُلُقَ، والإثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» «3» . انتهى.
(1) وابصة بن معبد بن مالك بن عبيد. وقيل: وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث. أبو سالم. الأسدي.
قال ابن الأثير: له صحبة، سكن الكوفة ثم تحول إلى الرقة فأقام بها إلى أن مات بها. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث. روى عنه ابناه عمرو، وسالم، والشعبي، وزياد بن أبي الجعد وغيرهم
…
وتوفي وابصة بالرقّة، وقبره عند منارة المسجد الجامع بالرافقة.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 427) ، «الإصابة» (6/ 309) ، الثقات» (3/ 431) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 125) ، «الاستيعاب» (4/ 1563) ، «بقي بن مخلد» (179) ، «تقريب التهذيب» (2/ 328) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 100) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1457) ، «الكاشف» (3/ 232) ، «الجرح والتعديل» (9/ 47) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 2928) ، «التاريخ الكبير» (8/ 187) ، «حلية الأولياء» (2/ 23) ، «البداية والنهاية» (5/ 88) .
(2)
أخرجه أحمد (4/ 228) ، والدارمي (2/ 245- 246) كتاب «البيوع» ، باب دع ما يربك إلى ما لا يريبك» ، والطبراني في «الكبير» (22/ 147- 148) رقم (402) من حديث وابصة.
(3)
أخرجه مسلم (4/ 1981) ، كتاب «البر والصلة» ، باب تفسير البر والإثم، حديث (14/ 2553) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (295) ، والترمذي (4/ 597) ، كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في البر والإثم، حديث (2389) ، وأحمد (4/ 182) ، وابن حبان (2397) ، والبيهقي (10/ 192) ، وفي «شعب الإيمان» ، (5/ 457) رقم (7272) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 474- بتحقيقنا) كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الرّحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أحمد (4/ 182) ، والدارمي (2/ 322) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 457) رقم (7273) من طريق صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر القاضي، عن النواس بن سمعان به.
وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني: أخرجه أحمد (4/ 194) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 30)، والطبراني في «الكبير» (22/ 219) عنه مرفوعا بلفظ:«البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب» .