الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جمهورُ العلماءِ على أَنَّ توبة السارق لا تُسْقِطُ عنه القَطْعَ، وقال الشافعيُّ: إذا تاب السارق قبل أنْ يتلبَّس الحُكَّام بأخْذه، فتوبته تَدْفَعُ عنه حُكْمَ القطع قياساً على توبة المُحَارِبِ.
وقوله سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي: فلا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا معتَرِضَ عليه، يفعلُ ما يَشَاء لا إله إلا هو.
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
- محمّد لقطع محمّد يدها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع اليد إلّا في ربع دينار فصاعدا» وأمثال ذلك كثير كله متعلق بقطع اليد، ولم يرد الرجل فيها ذكر، وفي ذلك دليل صحيح على أن القطع إنما يتعلق باليدين دون الرجلين وأجيب عنه من قبل الحنفية، والحنابلة بأنه لا دلالة في الآية على أن اليد اليسرى محل للقطع، فإن المراد من قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أيمانهما. لقراءة عبد الله بن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وقطع الرجل اليسرى قد ثبت بالسنة الصحيحة، وإجماع الصحابة على ذلك مما يقطع بصحة السنة الواردة بقطع الرجل اليسرى بعد قطع اليد اليمنى.
واستدل عطاء بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] .
فإن المراد من قوله: «أيديهما» أيمانهما لقراءة عبد الله: «فاقطعوا أيمانهما» ، فإنها مقيدة لإطلاق الآية، فاليد اليسرى ليست مرادة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح قطع غيرها من الأطراف، فوجب الاقتصار عليها.
وأجيب عنه: بأن السنة الصحيحة قد أثبتت قطع الرجل اليسرى في السرقة، وقام الإجماع على ذلك.
هذا والراجح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، من أن محل القطع إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لقوة أدلته، أو لأن القطع إنما شرع للزجر لا للإتلاف، وفي استيفاء الأطراف الأربعة بالقطع إتلاف، أو شبهة إتلاف، وشبهة الإتلاف منزل منزلة الإتلاف فيما يدرأ بالشبهات، والزجر يتحقق بالقطع مرتين، فإن إزالة عضوين من الجسم لهما قيمتهما في البطش، والمشي لأبلغ عظة وأقوى زاجرا لمن خبثت نفسه، ومال به هواه.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
…
الآية: تسليةٌ لنبيِّه- عليه السلام وتقويةٌ لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره:
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون «1» /.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك.
وقوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ «2» عن جابر أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ «3» ، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ بمعنى: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ «4» .
قال ع «5» : وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عز وجل؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
وقوله سبحانه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ: هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، أي: من بعد أن وضع مواضعه، وقصدت به وجهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: استفتوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فاحذروا الرجْمَ قاله الشعبيُّ وغيره «6» وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب هذا إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، على قولٍ، ثم قال
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 574) برقم (11931) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 191) .
(2)
ينظر: «الطبري» (4/ 575) .
(3)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 574) برقم (11933) ، وذكره ابن عطية (2/ 192) .
(4)
ذكره ابن عطية، (2/ 192) .
(5)
ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 192) .
(6)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 577) برقم (11940) . [.....]
تعالى لنبيِّه- عليه السلام على جهة قَطْع الرجاء منهم: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: محنَتَهُ بالكفر، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألَاّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة.
قال ص: سَمَّاعُونَ، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى.
وقوله سبحانه: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: فعَّالون بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال.
وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: تخييرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» [المائدة: 49]، وقال كثيرٌ من العلماء: هي مُحْكَمَة، وهذا هو الأظهر إن شاء اللَّه، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها، فالحاكمُ مخيَّر، وإذا رضي به الخَصْمان، فلا بد من رضا أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم قاله ابن القاسِمِ في «العتبية» ، قلت: وعبارة الداوديُّ قال مالك: ولا يَحْكُمُ بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالم، فيحكم بينهم بما أنزل اللَّه، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه، ثم يردُّون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة. انتهى.
وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : إنما أَنْفَذَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ بينهم ليحقِّق تحريفَهُم، وتبديلَهم، وكَذِبَهم، وكَتْمَهم ما في التوراة، / ومنه صفته صلى الله عليه وسلم فيها، والرجْمُ على زناتهم، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] فيكون ذلك من آياته الباهرةِ، وحُجَجِهِ البيِّنة، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة للأَمَّة المُخْزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً: أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم، إذا أعْرَضَ عنهم، وحقَّر في ذلك شأنهم، وَإِنْ حَكَمْتَ، أي: اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، أيْ: بالعدل، ثم قال سبحانه:
(1) ذكره ابن عطية (2/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 503) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» ، والطبراني، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.