الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّه عليهم بقوله: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: في الكلام حَذْفٌ «1» ، تقديره: ولو أنزلنا مَلَكاً، فكذبوه لَقُضِيَ الأمر بعَذَابِهِمْ، ولم يُنْظَرُوا حسبما سَلَفَ في كل أمة اقْتَرَحَتْ بآية، وكذبت بعد أن أُظْهِرَتْ إليها.
وقالت فرقة: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: لَمَاتُوا من هَوْلِ رؤية المَلَكِ في صورته، ويؤيد هذا التَّأْوِيلَ ما بعده من قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا فإن أَهْلَ التأويل مُجْمِعُونَ أن ذلك لأنهم لم يكونوا يُطِيقُونَ رؤية المَلَكِ في صورته، فإذ قد تَقَعَّدَ أنهم لا يطيقون رُؤْيَةَ المَلَكِ في صورته، فالأولى في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: لماتوا لِهَوْلِ رؤيته، ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، أي: لا يُؤَخَّرُونَ.
ومما يؤيد هذا المعنى الحَدِيثُ الوَارِدُ عن الرجلين اللذين صَعَدَا على الجَبَلِ يوم بَدْرٍ ليريا ما يَكُونُ في حَرْبِ النبيّ صلى الله عليه وسلم للمشركين، فَسَمِعَا حِسَّ الملائكة، وقَائِلاً يقول في السحاب: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِ أحدهما، فمات لِهَوْلِ ذلك، فكيف برؤية مَلَكٍ في خِلْقَتِهِ.
وَلَلَبَسْنا أي: لفعلنا لهم/ في ذَلِكَ فِعلاً مُلْبَساً يطرق لهم إلى أن يَلْبَسوا به، وذلك لا يحسن.
قلت: وفي البخاري «2» : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ: لشبهنا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 12]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
وقوله سبحانه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالأُسْوَةِ في الرسل، وتقوية لنفسه على مُحَاجَّةِ المشركين، وإخبار يَتَضَمَّنُ وعيد مُكَذِّبِيهِ، والمستهزئين به.
وفَحاقَ معناه: نزل، وأحاط، وهي مَخْصُوصَةٌ في الشر يقال: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقاً.
وقوله سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ حَضٌّ على الاعتبار بآثارَ من مضى ممن
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 270) .
(2)
ينظر: صحيح البخاري (8/ 136) كتاب «التفسير» ، باب سورة الأنعام.
فَعَلَ مِثْلَ فعلهم.
وقوله سبحانه: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ.
قال بعض أَهْلِ التَّأوِيلِ: تَقْدِيرُ الكلام: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السموات والأرض، فإذا تحيروا فلم يُجِيبُوا قل للَّه.
والصحيح من التَّأويل أن اللَّه- عز وجل أمر نبيه- عليه السلام أن يَقْطَعَهُمْ بهذه الحُجَّةِ، والبرهان القطعي الذي لا مُدَافَعَةَ فيه عندهم، ولا عند أَحَدٍ ليعتقدَ هذا المعتقد الذي بينه وبينهم، ثم يَتَرَكَّب احْتِجَاجُهُ عليه، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العَادِلُونَ بربهم لمن ما في السموات والأَرْضِ، ثم سَبَقَهُمْ فقال: للَّه أي لا مُدَافَعَةَ في هذا عندكم، ولا عند أحد.
ثم ابتدأ يخبر عن اللَّه تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ معناه: قضاها وأَنْفَذَهَا.
وفي هذا المعنى أحاديث صَحِيحَةٌ ففي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مَائَةً جُزْءٍ، فأمسك عنده تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فمن ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلَائِقُ حتى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أن تُصِيبَهُ» «1» .
ولمسلم في طَرِيقٍ آخرُ: «كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طبَاقُ مَا بَيْنِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فإذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذه الرَّحْمة» «2» .
وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال:«لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» «3» .
وفي طريق: «سَبَقَتْ غَضَبِي» إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.
قال ع «4» : فما أشقى مَنْ لم تَسَعْهُ هذه الرَّحَمَاتُ. تغمّدنا الله بفضل منه.
(1) أخرجه مسلم (4/ 2108) كتاب «التوبة» ، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث (17/ 2752) والبخاري (10/ 446) كتاب «الأدب» ، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، حديث (6000) وفي «الأدب المفرد» (100) ، والدارمي (2/ 321) ، والمروزي في «زوائد الزهد» لابن المبارك (1039) ، وابن حبان (6148) كلهم من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به.
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2109) كتاب «التوبة» باب في سعة رحمة الله- تعالى- وأنها سبقت غضبه، حديث (21/ 2753) من حديث سلمان.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ينظر: «المحرر» (2/ 271) .