الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكانه في الجنَّة، وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسلمانُ الفارسيُّ «1» ، وقيل: هي رؤيةَ بَصرٍ في ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبارِ ورؤيةِ القَلْب: ما لم يقعْ لأحد من أهل زمنه الذين بُعِثَ إليهم قاله ابن عباس «2» وغيره، وقيل: هي رؤية قَلْب، رأى بها ملكوتَ السمواتِ والأرضِ بفكرته ونظره، ومَلَكُوتَ: بناءُ مبالغةٍ، وهو بمعنى المُلْك، والعربُ تقول: لفلانٍ مَلَكُوتُ اليَمَنِ، أي: مُلْكُه، واللام في: لِيَكُونَ: متعلِّقة بفعلٍ مؤخَّر، تقديره: وليكونَ من الموقنين، أَرَيْنَاهُ، والمُوقُنِ: العالِمُ بالشيء علماً لا يمكنُ أنْ يطرأ له فيه شك، وروي عن ابنِ عبَّاس في تفسير: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال: جلى له الأمورَ سرَّها وعلانيتَها، فلم يَخْفَ عليه شيْءٌ من أعمال الخلائق «3» ، فلما جعل يلْعَنُ أصحابَ الذنوبِ، قال اللَّه له: إنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هذا، فَرَدَّه لا يرى أعمالهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 79]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
وقوله سبحانه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي
…
الآية: جَنَّ اللَّيْلُ: ستَرَ وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس/ وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه وقبل البلوغ والتكليفِ «4» ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ، وقالتْ: إنه استفهم قومَهُ على جهة التوقيفِ والتوبيخِ، أي:
هذا ربِّي، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأى له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك على يديه، فجعل يَتَتَبَّعُ الحبالى، ويوكِّل بهن حُرَّاساً، فمن وضَعَتْ أنثى، تُركَتْ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً، حمل إلى المَلِك فذَبَحه، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ، وكانَتْ شابَّة قويةً، فسَتَرَتْ حملها، فلما قربت ولادتُها، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى
(1) أخرجه الطبري (5/ 242) رقم (13455، 13456) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 108) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 45) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن سلمان.
(2)
أخرجه الطبري (5/ 241) رقم (13445) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 108) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) .
(3)
أخرجه الطبري (5/ 243) رقم (13464) ، وذكره ابن عطية (2/ 312) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) .
(4)
أخرجه الطبري (5/ 245) رقم (13468) بنحوه عن ابن عباس، وذكره ابن كثير (2/ 151) بنحوه.
سَفَر، وتحيَّلت لمضيِّه إليه، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ، فولدَتْ فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذى بأنْ يمصَّ أصابعه، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ونحو هذا، وحُكِيَ: بل كان يغذِّيه مَلَكٌ، وحُكِيَ: بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن، واللَّه أعلم، أيُّ ذلك كان، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته، ويشدِّد في طلبه، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ، وقيل: خمسَ عَشْرة سنةً، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ، فرأى الكواكِبَ، وجرَتْ قصة الآية، واللَّه أعلم «1» .
فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصّة في الغار في حال الصّبوة، وعدمِ التكليفِ على ما ذهب إليه بعض المفسّرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينفسم على وجْهين: إما أنْ يجعل قوله:
هذا رَبِّي تصميماً واعتقادا، وهذا باطلٌ لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء- صلوات اللَّه عليهم-، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي إن عضّدت ذلك الدلائل.
وإنا قلنا إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ، وهو مكلَّف، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ، وهو- عليه السلام منزَّه معصوم من ذلك كلِّه فلم يبق إلَاّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي، وهو يريد: على زعمكم كما قال تعالى:
أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27]، أي: على زعمكم، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك، ثم في الشَّمْس كذلك فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ أنها لا تصلح للربوبيَّة، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أنْ يبين ذلك فيها ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، قلت: وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في «الشفا» قال: وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه، ومستدلاًّ عليهم.
قال ع «2» : ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ونظرٍ في الأفلاك، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ، رأى الكوكب، وهو الزّهرة في قول
(1) ذكره ابن عطية (2/ 312) .
(2)
ينظر: «المحرر» (2/ 313) .