الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رياستهم أقْدَرُ على الغَدْرِ والمَكْرِ ورُكُوبِ الباطلِ من غيرهم ولأن كثرة المال والجاه يَحْمِلَانِ الإنسان على المبالغةِ في حِفْظهما وذلك الحِفْظُ لا يتمُّ إلا بجميع الأخلاق الذميمةِ كالغَدْر والمَكْر والكَذِب والغِيبة والنَّميمة والأَيْمَان الكاذبة ولو لم يكن للمالِ والجاهِ سوى أنَّ اللَّه تعالى حَكَم بأنه إنما وصفَ بهذه الأوصافِ الذميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه، لكفى ذلك دليلاً على خَسَاسة المالِ والجَاهِ. انتهى، وما ذكره من المال والجاه هو الأغلَبُ.
وَما يَشْعُرُونَ، أي: ما يعلمون.
وقوله سبحانه: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ، أي: علامةٌ ودليلٌ على صحَّة الشرع، تشطَّطوا، وقالوا: لَنْ نؤمن حتَّى يُفْلَقَ لنا البَحْرُ، ويحيى لنا الموتى، ونحْوَ ذلك، فردَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كَفَرَ، وجعل يتشطَّط على اللَّه سبحانه، قال الفَخْر «1» : قال المفسِّرون: قال الوليدُ بْنُ المُغِيرَةِ «2» :
لو كانتِ النبوَّة حقًّا، لكنْتُ أولى بها، قال الضَّحَّاك: أراد كلُّ واحد من هؤلاء الكفرة أنْ يُخَصَّ بالوحْيِ والرسالةِ كما أخبر عنهم سبحانه: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] انتهى.
ثم توعَّد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند اللَّه صَغَارٌ وذلَّة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 129]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَاّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 143) .
(2)
الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد شمس: من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش، ومن زنادقتها. يقال له «العدل» لأنه كان عدل قريش كلها: كانت قريش تكسو «البيت» جميعها، والوليد يكسوه وحده. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وضرب ابنه هشاما على شربها. وأدرك الإسلام، وهو شيخ هرم، فعاداه وقاوم دعوته. قال ابن الأثير: وهو الذي جمع قريشا، وقال: «إن الناس يأتونكم أيام الحج، فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهن:
ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون وليس يشبه واحدا مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه:
«ساحر» لأنه يفرق بين المرء وأخيه، والزوج وزوجته!» وهلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر، ودفن بالحجون. وهو والد سيف الله خالد بن الوليد.
ينظر: «الأعلام» (8/ 122) ، «الكامل» لابن الأثير (2/ 26) ، «اليعقوبي» (1/ 215) .
وقوله سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ
…
الآية: مَنْ:
شرط، ويَشْرَحْ جوابُ الشرط.
والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدى المؤمن، وضلالَ الكافر، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا: هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ، وشَرْحُ الصدرِ: هو تسهيلُ الإيمان، وتحبيبُه، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ، والصَّدْر: عبارةٌ عن القلب، وفي يَشْرَحْ ضمير يعود على اسم اللَّهِ عز وجل/ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنى، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، والقولُ بأنه عائدٌ على «المَهْدِيِّ» - قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ، والحَذَرُ منه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ، انشرح لَهُ الصَّدْرُ، وانفسح، قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ عَلَامَةٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: نَعَمِ، الإنَابَةُ إلَى دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، قَبْلَ المَوْتِ» ، والقول «1» في قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ كالقول في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، وقرأ حمزة وغيره:«حَرَجاً» - بفتح الراء-، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها يوماً بفتح الراء، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء، فقال: ابغوني رجُلاً من كِنَانَةَ، وليكنْ رَاعياً، وليكُنْ من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يَا فتى، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ؟ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة، قال عمر: كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير «2» .
وقوله سبحانه: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ، أي: كأنَّ هذا الضّيّق الصّدر متى حاول
(1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 83) عن ابن مسعود. وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي في «الشعب» وعزاه إلى عبد بن حميد، عن الفضيل بنحوه. [.....]
(2)
أخرجه الطبري (5/ 337) برقم (13865) ، وذكره البغوي (2/ 129) وابن عطية (2/ 343) ، وابن كثير (2/ 175) ، والسيوطي (3/ 84) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن أبي الصلت الثقفي، عن عمر بن الخطاب.
الإيمان أو فكَّر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذُ باللَّه، كصعوبةِ الصُّعود في السماء، قاله ابن جريج وغيره «1» ، وفِي السَّماءِ، يريد: مِنْ سفل إلى علوٍ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء، ويَصْعَدُ: معناه: يعلو، ويَصَّعَّدُ:
معناه: يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه.
وقوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ، أي: وكما كان الهدى كله من اللَّه، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ، قال أهل اللغة: الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ، ويأتي بمعنى النَّجَس.
وقوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً
…
الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرْعِ الذي جاء به نبيُّنا محمّد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس، وفَصَّلْنَا، معناه: بيَّنا وأوضحنا «2» .
وقوله سبحانه: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عائد عليهم، والسَّلام: يتجه أن يكون اسما من أسماء اللَّه عز وجل، ويتجه أن يكون مصدراً بمعنى السلامة.
وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليّهم، أي: وليّ الإنعام عليهم، وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ، أي: بسَبَبِ ما كانوا يُقَدِّمون من الخير، ويفعلون من الطاعة والبر.
وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، والمعنى: واذكر يَوْمَ، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: نقول: يا معشر الجنِّ، وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ: معناه: أفرطتم، ومِنَ الْإِنْسِ: يريد: في إضلالهم وأغوائهم قاله ابن عباس وغيره «3» ، وقال الكُفَّار من الإنْس، وهم أولياء الجنِّ الموبَّخين على جهة الاعتذار عن الجنِّ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، أي: انتفع وذلك كاستعاذتهم بالجنِّ إذ كان العربيُّ إذا نزل وادياً، ينادي: يا رَبَّ الوادِي، إنِّي أستجيرُ بك في هذه الليلة، ثم يرى سلامته إنما هي بحفْظِ جَنِّيِّ ذلك الوادِي، ونحو ذلك، وبلوغ الأجل المؤجّل: هو
(1) أخرجه الطبري (5/ 340) برقم (13878، 13879) ، وذكره ابن عطية (2/ 343) ، وابن كثير (2/ 175) ، والسيوطي (3/ 84) ، وعزاه لأبي الشيخ عن ابن جريج.
(2)
أخرجه الطبري (5/ 442) برقم (13886) ، وذكره ابن عطية (2/ 344) .
(3)
أخرجه الطبري (5/ 442) برقم (13888) ، وذكره ابن عطية (2/ 345) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
الموتُ، وقيل: هو الحشر.
وقوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ
…
الآية: إخبارٌ من اللَّه تعالى/ عما يقولُ لهم يوم القيامة إثْرَ كلامهم المتقدّم، ومَثْواكُمْ، أي: موضع ثوائكم كَمُقَامِكُمُ الذي هو مَوْضِعُ الإقامة قاله الزَّجَّاج، والاستثناءُ في قوله: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قالتْ فرقة: «مَا» بمعنى «مَنْ» ، فالمراد: إلا مَنْ شاء اللَّه مِمَّنْ آمن في الدنيا بعد، إن كان مِنْ هؤلاء الكَفَرة، وقال الطبريُّ «1» : إن المستثنى هي المُدَّة التي بَيْنَ حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الطبريُّ «2» ، عن ابن عباس: إنه كان يتأوَّل في هذا الاستثناء أنه مبلغ حالِ هؤلاء في علْمِ اللَّه «3» ، ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحَدٍ أنْ يحكم على اللَّه في خَلْقه لا يُنْزِلُهم جنَّةً ولا ناراً.
قال ع «4» : والإجماع على التخليد الأبديِّ في الكُفَّار، ولا يصحُّ هذا عن ابن عباس رضي الله عنه .
قال ص: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ: قيل: استثناء منقطعٌ، أي: لكِنْ ما شاء اللَّه مِنَ العذابِ الزائِدِ على النَّار، وقيل: متصلٌ، واختلفوا في تقديره، فقيل: هو استثناء مِنَ الأشخاصِ، وهم مَنْ آمن في الدنيا، ورُدَّ بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون منقطعاً لا متصلاً لأنَّ مِنْ شرط المتصل اتحاد زمانَيِ المُخْرَجِ والمُخْرَجِ منه. انتهى، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً، قال قتادة «5» : معناه: نجعل بعضهم وليَّ بعض في الكفر والظلم، وقال أيضاً: المعنى نجعلُ بعضهم يَلِي بعضاً في دخول النار، وقال ابن زيد: معناه: نسلِّط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء النقمة «6» منهم.
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 343) .
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 343) .
(3)
أخرجه الطبري (5/ 343) برقم (13895) ، وذكره البغوي (2/ 131) ، وابن عطية (2/ 345) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(4)
ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 346) .
(5)
أخرجه الطبري (5/ 344) برقم (13896) ، وذكره البغوي (2/ 131) ، وابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.
(6)
أخرجه الطبري (5/ 344) برقم (13898) ، وذكره ابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن زيد.