الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونقل في كثير من الأحايين النصوص بطولها، واستقصى أدلتها واستوفاها، وعرضها عرضًا كاملًا، دون نقص أو تحريف أو تجاهل أو تزايد في صورة مفصلة موفية بالغرض المقصود من حيث الدقة والبيان، وبموضوعية متناهية وأكثر ما ظهر هذا في المسائل التي تفرد بها عن سائر فقهاء عصره.
ثانيًا:
نجد من منهج ابن القيم أنه يفسح المجال واسعًا لمناقشة الأقوال، وردِّ كل طائفة على الأخرى، ويبيّن مستند كل منهما، وسبب اختلافهما، ويسوق الأدلة النّقلية والعقلية لكل واحدة منهما، ويعرضها على صورة التأييد والتقوية، ويحللها كما يفهمها أصحابها وينتصرون لها، على وجه واضح، وبترتيب منطقي.
ثالثًا:
همُّ ابن القيم من ذلك إظهار الحق، ولذا ربما أبهم بعض أسماء المردود عليهم (1)، سواء من الفقهاء بأعيانهم، أو المذاهب، ولذا اضطر في بعض الأحايين إلى بيان ما ألصق في المذاهب وهو -على التحقيق- ليس منها (2).
رابعًا:
حرص ابن القيم في ذلك كله على الإنصاف والعدل، فقال -مثلًا- في مبحث (الحيل) بعد كلام:"ونحن نذكر ما تمسَّكتم به في تقرير الحيل، والعمل بها، ونبيّن ما فيه، متحرّين العدل والإنصاف"(3).
وكان رحمه الله يميل مع الدليل، ولا يقدم شيئًا عليه (4)، ولا يميل إلى قول مذهب أو شيخ دونه، فاسمع إليه -مثلًا- وهو يقول عن (القياس) بعد أن ذكر حجج المثبتين له والنافين:
= موثوقٍ به في أمانته، لم يمكن فرضُ نقل الخفيات من غيرِ استقلال بالدراية".
قلت: وهذا المنهج الذي رسمه إمام الحرمين هو الذي سار عليه ابن القيم رحمه الله.
(1)
قال النووي في أواخر "الأذكار"(ص 341 - باب في ألفاظٍ حُكِيَ عنْ جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة): "اعلم أني لا أسمي القائلين بكراهة هذه الألفاظ لئلا تسقط جلالتهم، ويساء الظن بهم، وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نقلت عنهم" قلت: فمن فقه ابن القيم في هذه المواطن التعمية والإبهام دون التسمية والإعلام، ولو أن أهل الردود -اليوم ممن هم في دائرة (أهل السنة) - سلكوا هذا المسلك؛ لكانت ردودهم مريئة على النفس بالرغم من ثقلها ولامتازت بالعلم فيها. دون (هيشات) الأسواق، ولا قوة إلا باللَّه!
(2)
تجد أمثلة على ذلك فيما سيأتي قريبًا تحت (خامسًا).
(3)
"إعلام الموقعين"(4/ 141).
(4)
انظر: ما قدمنا تحت (المحور الأول).
"الآن حَمِيَ الوطيس (1)، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب اللَّه أن لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، وأن لا يتحيّزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكلِّ قولٍ حقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا مِنَ الّذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنًا مَنْ كان، ويردّون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا مَنْ كان، فهذه طريقة أهل العصبية، وحمية أهل الجاهليّة، ولعمر اللَّه!! إنّ صاحب هذه الطّريقة لمضمون له الذمّ إن أخطأ، وغير ممدوح إن أصاب، وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسه وهُدي لرشده، واللَّه الموفق"(2).
وعندما بحث مسألة (من أقرّ أو حَلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه، ولكن منع حقه إلَّا بذلك)، وقرر أن حكمه حكم المكره لا يلزمه ما عقده من هذه العقود، ثم قال:
"ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحبَّ إليه من التّعصب والهوى، والعِلمُ والحجّةُ آثرَ عنده من التَّقليد، لم يكد يخفى عليه وجه الصّواب، واللَّه الموفق"(3).
ويقول في (مسألة من أكره على شراء أو استئجار) وقرر أنه لا يصح منه لعدم قصده وإرادته:
". . . فإن أهل الظّاهر تمسّكوا بألفاظ النّصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأنّ المراد خلافها، وأنتم تمسّكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأنّ المراد خلافها، فأهل الظّاهر أعذر منكم بكثير، وكلّ شبهة تمسّكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظّاهرية في تمسِّكهم بظواهر النّصوص أقوى وأصح، واللَّه يحبّ الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرّجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال اللَّه -تعالى- لرسوله:{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، فورثة الرّسول منصبهم العدلُ بين الطَّوائف وألَّا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحقّ مطلوبه يَسيرُ بسيره وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف، ويحكم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو العلم الذي قد شمّر إليه، ومطلوبه الّذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عَذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه
(1) انظر ما قدمناه عنها في التعليق على (ص 114).
(2)
"إعلام الموقعين"(2/ 277).
(3)
"إعلام الموقعين"(4/ 397 - 434).