الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حد"، واستطرد في الكلام عن شهادة الزور وأنها من الكبائر، والحكمة في رد شهادة الكذاب، ورد شهادة المجلود في حد القذف، وحكم شهادة القاذف بعد توبته، ورد الشهادة بالتّهمة، وشهادة مستور الحال.
وقدم ابن القيم في هذه المباحث آراء العلماء، وأدلتهم، وتوجيه الأدلة، والكلام على صحتها، واستطرد في الاحتجاج برواية (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) ليؤكد صحة بعض اختياراته، ولم يقتصر في هذا على شرح ما جاء في كتاب عمر فقط، واستغرق ذلك (1/ 168 - 247).
-
عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب:
وتابع الشرح بإيجاز إلى وصوله إلى قول عمر:
"ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك، مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال".
فانصرف إلى تأصيل (القياس)(1)، وما ترك القول فيه حتى استوفاه في صفحات عديدة، استغرقت من (ص 247) في (المجلد الأول) إلى (نهايته)، ومن (أول)(المجلد الثاني) إلى (ص 425) منه من نشْرتنا هذه، قال في نهايته بعد استطرادات وتفريعات فيها تأصيلات بديعات:
"فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين: "واعرف الأشباه والنظائر"".
وفي لفظ: "واعرف الأمثال. . . " قال: "فلنرجع إلى شرح باقي كتابه".
فموضوع القياس بلغ في نشرتنا هذه (ست مئة وستين صفحة)، فلا غرو أن يربط العلماء بين (كتابنا) و (موضوع القياس)، كما قدمنا في مطلع هذا البحث.
وبدأ المصنف ببيان أن الصحابة كانوا متفقين على القول بالقياس، وأخذ في تقرير أنه أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه، وبيّن أن اللَّه أرشد عباده في غير موضع إليه، وقال في (1/ 248):
"وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم".
وقال في (1/ 248): "وقالوا: ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين
(1) لا تنس ما قدمناه في مطلع هذا المبحث (فصول نافعة وأصول جامعة في القياس).
على عام، أو بعام على معين، أو بعام على عام، فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال".
وبيَّنَ كل ضرب من الأربعة، واستدل له بنصوص من القرآن الكريم، ونبه على أن القياس ينقسم إلى حق وباطل، فهو إما صحيح أو فاسد، قال (1/ 251):
"فالصحيح هو الميزان الذي أنزله تعالى مع كتابه، والفاسد ما يضاده، كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها، بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح: هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل اللَّه، ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعمالَه والاستدلالَ به، وهذا حق وهذا حق. . . ".
وانتقل إلى الحديث عن الأقيسة الثلاثة المستعملة في الاستدلال: (قياس علة) و (قياس دلالة) و (قياس شبه). وقد وردت كلها في القرآن الكريم بشاهد من الآيات التي تقصاها لكل من الأقيسة الثلاثة، واقتضى الموضوع، في قياس العلة وقياس الدلالة، أن يستدل بما جاء في القرآن الكريم من آيات بتحليل الأحكام، وما ورد في السنة من علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها طردًا وعكسًا، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ليدل على ارتباطها بها وتعديها بتعدي أوصافها وعللها. . . وقد قرب النبي صلى الله عليه وسلم، الأحكام إلى أمته بذكر نظائرها وأسبابها وضرب لها الأمثال. . . وجوز للحاكم أن يجتهد رأيه، وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرًا واحدًا، إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه. وقد كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره.
وتخلل ذلك استطرادات عجيبة في الاستنباطات القرآنية، وتوظيفها في كون القياس ميزانًا، والوقوف على أسرار بديعة من الآيات، لعلك لا تظفر بها في كتاب (1).
ولم ينس ابن القيم خلال هذه المباحث ذكر لفتات تاريخية من أحداث جرت له مع مخالفيه من المنحرفين، فقال مثلًا في (1/ 272): "وقد شاهدنا نحن
(1) سيأتيك أن كلام المصنّف على (الأمثال) استُلَّ من هذا الكتاب على أنه تصنيف مفرد! وألف الطوفي الحنبلي (ت 716) كتاب "الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية"، ذكر فيه المسائل الأصولية التي تستنبط من القرآن، وهو مطبوع.
وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين. . . ".
والمتتبع لكلامه في هذا المبحث يحسب أنه يقرأ في كتاب تفسير، يركز صاحبه على أوجه الهداية منه، وفيه أيضًا بيان أثر العقيدة على صاحبها، وذكر أمثلة للمؤمنين والكفار، وبعضها يخص اللَّه رب العالمين، من حيث الأسماء والصفات، ويكاد ينسى ما بدأ به من ذكر لتوجيه عمر ووصيته لأبي موسى في كتابه المذكور.
واستطرد في بيان السر في ضرب الأمثال، وفرع عليه أصل (عبارة الرؤيا)، وذكر قواعد جامعة وكليات نافعة لتعبير (الرؤى)، بعضها مدلل بأحاديث نبوية (1)، ورجع إلى تأصيل كون أمثال القرآن أصولًا وقواعد لعلم التعبير، ثم ربط ذلك كله بموضوع (القياس)، من إلحاق النظير بالنظير، وإنكار التفريق بين المتماثلين.
وجره هذا إلى الكلام على (مراد المتكلم) وأن ذلك يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علّته، والأمور تتضح بأضدادها -كما يقولون- وبناء عليه قرر أنه "قد يعرض لكل من أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني ما يخلُّ بمعرفة مراد المتكلّم، فيعرض لأرباب الألفاظ:
1 -
التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة.
2 -
وبتحميلها فوق ما أريد بها تارة.
ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ".
قال في (1/ 387): "فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين" قال:
"ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك، ليعتبر بها غيره"، وأخذ في الاسترسال بذكر قواعد شرعية مبنية على النصوص، قلَّ أن يؤصلها إلا من وفقه اللَّه لذلك.
ثم عقد مقارنةً -بناءً على تأصيله السابق- بين (القياسيين) و (الظاهرية)، وبيَّن
(1) قال المصنف في "الزاد"(3/ 615 - 616 - ط مؤسسة الرسالة)(فصل: قدوم وفد بني حنيفة) بعد كلام فيه تعبير للرؤى لأبي العباس العابر: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر السن، واخترام المنية له رحمه اللَّه تعالى".
وفي ذيول العبر" (4/ 155) في ترجمة (ابن القيم): "وحدث عن شيخه التعبير وغيره".
ونقل عبد اللَّه الغماري في خاتمة كتابه "الرؤيا في القرآن والسنة"(ص 158 - 163) كلام ابن القيم هذا بتمامه، وعنون عليه (قاعدة عظيمة في التعبير)، وفي البال جمع كلامه في تأليف مفرد، يسر اللَّه ذلك بمنّه وكرمه.
أن كلًا منهما مفرط، وذلك من خلال أمثلة في فهم بعض النصوص الشرعية وذكر وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقّهما، وذكر أمثلة توضيحية تدلّل على مراده، وفيها ما يدلّل على عبقريته في وضع الأشياء في أماكنها، وبعد ضرب هذه الأمثلة، تفرغ للرد على (نفاة القياس)، وبدأه مُجمِلًا ما سبق بقوله في (1/ 400):"قد أتينا على ذكر فصول نافعة، وأصول جامعة، في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منه".
قال أبو عبيدة: وكلامه -واللَّه- حق، فقد طرق موضوع القياس بما يخدم النصوص، وبناه عليها، وفصل الجيد من الرديء، والسليم من السقيم، والصحيح من الضعيف، بوجه فيه اتباع للسلف، وبُعد عن المباحث الكلامية التي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب (الأصول) المعروفة.
وتعرض بعد ذلك في صفحات عديدة من (1/ 403 - 425) بسرد أمثلة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صاغ بعد ذلك إشكالات عليها وعلى الأمثلة السابقة، ذَكَرها من القرآن على لسان (نفاة القياس)، واستطرد في ذكر (أدلة نفاة القياس)، متعرضًا إلى ما ورد عن الصحابة والتابعين من نهيهم عنه، وأن القياس يعارض بعضه بعضًا (1)، وأن أهله متناقضون، مع إيراد أمثلة تدل على ذلك، ثم مثل على ما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات، وأنهم راعوا بعض الشروط دون بعضها الآخر في بعض المسائل، وهذا من تناقضهم، وعرض تحت هذا مسائل فقهية عديدة، أطال النَّفس في بعضها، ثم عقد مقارنة بين (القائسين) و (معارضيهم) بلغة قوية، فقال في (2/ 88 - 89) وعلى لسان (المعارضين):
"وهذا غَيْضٌ من فيضٍ، وقطرة من بحر، من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك، فليوجدنا القياسيون حديثًا واحدًا صحيحًا صريحًا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، فإن كان مخالفةُ القياس ذنبًا فقد أريناهم مخالفته صريحًا، ثم نحن أَسعدُ الناس بمخالفته منهم؛ لأنا إنما خالفناه للنصوص؛ وإن كان حقًّا، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
فانظر إلى هذين البَحْرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد
(1) هنا ينتهي (المجلد الأول) من نشرتنا.
ارتفع في مُعتركِ الحَرْب عَجَاجُهما، فجرَّ كلُّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعةُ الأبطال، وأدلى كل منهما من الكتاب والسنّة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذَلَّت له الصِّعاب، وانقاد له علم كل عالم، ونفَّذَ حكمه كلُّ حاكم، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أَصَّلَاه وفصَّلاه؛ فليعرف الناظر في هذا المقام قدره، ولا يتعدى طوره، وليعلم أن وراء سويقتيه بحارًا طامية، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السُّهي عالية، فمن وثق من نفسه بأنه من فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين، ويحكم بما يرضي اللَّه ورسوله بين هذين الحزبين، فإن الدين كله للَّه، وإن الحكم إلا للَّه، ولا ينفع في هذا المقام: قاعدة المذهب كيت وكيت، وقطع به جمهور من الأصحاب، وتحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا، وصحح هذا القول خمسة عشر، وصحح الآخر سبعة، وإن علا نسبُ علمه قال:"نصَّ عليه" فانقطع النزاع، ولزم ذلك النص في قرن الإجماع، واللَّه المستعان وعليه التكلان". ثم قرر ما رضيه، فقال على لسان -ما سماهم- (المتوسطين بين الفريقين):
"قد ثبت أن اللَّه سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا".
وفصل الأمر بتقرير قاعدة مهمة هي:
بيان إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين، وبجميع الحوادث، ورد على ما هو شائع في كتب الأصول بأن الأصول متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وزيّفه من وجوه ثلاثة، وضرب أمثلة عديدة تؤتد ذلك، ثم عرج على بطلان القول بنفي الحكمة والتعليل، وربط موضوع (القياس) وبيان انحراف الغالين فيه والمنكرين له بأصول عقدية (1) تخالف معتقد أهل السنة، قال في (2/ 96، 97):
(1) مما يخدم (التوحيد) و (علم أصول الفقه) في آن واحدٍ، بيان عوار الآراء الأصولية المبنية =
"ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يُنكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط؛ فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين لِلحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل، وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية، والجهمية رؤوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة اللَّه ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة، والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته؛ فأولئك أثبتوا نوعًا من الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من الحمد بلا ملك؛ فأنكر أولئك عُمومَ حَمْدِه، وأنكر هؤلاء عموم مُلكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه؛ فله كمال الملك وكمال الحمد؛ فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيم، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به لأجله.
والمقصود أنهم كما انقسموا ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه -وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والأسباب؛ والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس، ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به" قال:
"والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية: وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا؛ وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، لكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته".
ثم قوّم أهل القياس ونفاته، بقوله في (2/ 98):
"وكل فرقة من هذه الفرق سَدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق؛
= على أصول عقدية بدعية مخالفة لأصول السلف، وهذا باب يحتاج إلى تأليف، والقياس مَثَلٌ له، كما عند ابن القيم، و (صيغة الأمر) مثل آخر، نبه عليه الشنقيطي في "مذكرته"، وهكذا، يسر اللَّه له طالبًا شادًا جادًا متفننًا من أهل السنة.
فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله؛ فنفاة القياس لما سدّوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله اللَّه احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يَسعَانه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه.
ولكن أخطأوا من أربعة أوجه. . . " وذكرها (1).
وفصَّل في أخطاء القياسيين، وتعرض إلى (الاستصحاب): معناه وأقسامه، وعاد إلى ذكر أخطاء أهل القياس الخمسة (2).
وتفرغ ابن القيم بعد ذلك للرد على من أبطلوا القياس، فتعقّب أقوالهم وفندها، وكأنه في هذا المبحث يتعقب كل ما ذكره ابن حزم في رسالة "إبطال القياس"(3) ومبحث (القياس) من كتابه "الإحكام"(4) بحيث يمكن اعتبار ما في (إعلام الموقعين) من مباحث في القياس، رسالة مستقلة في إثباته، والرد على إبطال الظاهرية له.
ويعفيني -القارئ الكريم- من متابعة التعريف بجهد المصنف في (القياس) بما ذكرته في مطلع هذا الفصل تحت عنوان (فصول نافعة وأصول جامعة في القياس)، فإنه متمم للمذكور هنا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الكتاب بين يديه، والإكثار من سياق فقراته فيه تطويل، وجميع مباحثه في هذا الباب ماتعة، نافعة، قوية، رائعة، تستحق الوقوف عندها (5)، ليُعلم الفرق بين (التحقيق) و (التفتيش) من جهة، و (الجمع) و (التقميش)
(1) انظرها في (2/ 98 - 112).
(2)
انظرها في (2/ 115).
(3)
لابن حزم ملخّص لها، منه نسخة محفوظة في المكتبة العبدلية (الصادقية) بجامع الزيتونة بتونس، وهو بخط الحافظ الذهبي، وله تعقبات قوتة وجيّدة عليه، علقه من خط ابن عربي الصوفي، وكدت أن أفرغ من تخريج نصوصه وتوثيقها، واللَّه الهادي.
(4)
انظر ما سيأتي عنه: تحت عنوان (مصادر المصنف وموارده). وقد فرغتُ -وللَّه الحمد- من مقابلته على أصلين خطيين وتخريج أحاديثه وآثاره، وتوثيق نصوصه. تمهيدًا لنشره، يسر اللَّه ذلك بمنه وكرمه.
(5)
وسيأتي كلام عنه أيضًا، انظر:"منهج ابن القيم في كتابه".