الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يدل على سعة معرفة المصنف ودقته (1)، عدم عثوري على ألفاظ أوردها المصنف، مع محاولة شد النفس، والنظر في الفهارس والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية، انظر -مثلًا- (3/ 386، 390، و 5/ 335).
*
تقديم الأدلة النقلية على غيرها:
ومن المباحث التي تعرض لها ابن القيم، ولها صلة بـ (ترتيب الأدلة): تقريره تقديم خبر الآحاد على عمل أهل المدينة (2)، خلافًا للمالكية، وأن "السنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة"(3) وأن العمل الذي يؤخذ به إنما هو "عمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه والصحابة، فذاك هو السنة" بخلاف العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال، "فالواجب المصير إلى الخبر، فإنه دليل منفرد عن مسقط أو معارض"(4)، فلا ينبغي أن "يخلط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا العمل أشد تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركًا"(5).
وأن المعارضة بين الخبر والعمل على نوعين:
- نوع لم يعارضه نص، ولا عمل قبله، ولا عمل مصر آخر غيره.
- نوع عارضه واحد من الثلاثة.
والتسوية بين النوعين تسوية بين المختلفات، التي فرق العقل والنص بينها، والتفريق بينها يتوقف على دليل يعتمد في التمييز بين ما هو معتبر وما هو غير معتبر، وأكد ابن القيم أن أي دليل يذكر لتقديم العمل، إلا كان دليل تقديم النص أقوى (6).
وكذلك رد على الحنفية الذين ردوا خبر الواحد إذا كان الراوي له غير فقيه على زعمهم (7)! ورد قول من قال بعدم أخذ رواية الراوي المخالفة لرأيه (8)، إذ
(1) انظر التدقيق في الألفاظ والعناية بهما في التخريج (2/ 144، 185 - 186، 227 و 3/ 284، 285، 286 و 5/ 284، 285، 344).
وانظر تعديلًا للفظ المصنف في (2/ 189)، وانظر: إدراج لفظة في (5/ 304).
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(3/ 339، 340) وسيأتي الكلام بنوع من التفصيل على (عمل أهل المدينة).
(3)
"إعلام الموقعين"(3/ 340).
(4)
"إعلام الموقعين"(3/ 369).
(5)
"إعلام الموقعين"(3/ 369).
(6)
"إعلام الموقعين"(3/ 349).
(7)
انظر: "مختصر الصواعق المرسلة"(2/ 346 - 347).
(8)
انظر: "إعلام الموقعين"(3/ 388 - 389). =
"من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفتُهُ لما رواه سقوطَ عدالَتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك"(1).
وهذا يتمشى مع ما رسمه ابن القيم من منهج له في تقديم نصوص الوحي على غيرها، ومن هذا الباب: تقديم فتوى الصحابي على الحديث المرسل، لضعفه.
والمرسل عنده حجة إذا توفرت فيه شروط، قال:"والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفًا باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عمل به"(2).
وأما بالنسبة للإجماع، فقد رد كثيرًا من الإجماعات المكذوبة، التي يعطل بعض المنتسبين للفقه بسببها العمل بأحاديث صحيحة خالفتها، وقرر أن الإجماع المعترف بوجوده هو إجماع الصحابة، ولذلك جعله وراء النصوص مباشرة، ومقدمًا على الأحاديث الضعيفة غير الموضوعة (3)، قال:
"فإن علِمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة، أَسْهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذّرًا فهو أصعب شيء وأشقه، إلا فيما هو من لوازم الإسلام"(4).
= وقد اعتنى الأستاذ عبد اللَّه بن عويض المطرفي في "حكم الاحتجاج بخبر الواحد إذا عمل الراوي بخلافه" بكلام ابن القيم في كتابنا هذا، قال (ص 10)، "وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثًا وعشرين مسألة في مخالفة الراوي لما رواه، وقد استفدتُ منها، وزدت عليها بما وقفت عليه" وانظره (ص 203).
(1)
"إعلام الموقعين"(3/ 408).
(2)
"زاد المعاد"(1/ 379).
(3)
"إعلام الموقعين"(1/ 53 - 54).
(4)
"إعلام الموقعين"(2/ 558) وانظر -لزامًا-: "المدخل إلى مذهب أحمد" لابن بدران (129).
ويرد على المتوسعين بدعاوى الإجماع، بأنه "ليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله (1)؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به؟ وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه، متساويًا أو راجحًا"(2).
ورد بقوة على من زعم اشتراط انقراض عصر المجمعين، وأنه لما "نشأت هذه الطريقة، تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُجَّ عليه بالقرآن والسنة، قال: هذا خلاف الإجماع! وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه"(3).
والخلاصة: أن إجماع الصحابة فقط حجة قاطعة، بل هي أقوى الحجج وآكدها (4)، و"إنما يصار إليه فيما لم يعلم فيه كتابًا ولا سنة، هذا هو الحق"(5).
ومما ينبغي أن يذكر في هذا الباب: رد ابن القيم بالآثار السلفية الشهيرة على دعوى الإجماع وما عليه السواد الأعظم، حيث جعلوا ذلك عيارًا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، لقلّة أهل الحق، وقال عنهم:"قلبوا الحقائق" وذكَّرهم أنه في زمن الإمام أحمد شذ الناس كلهم إلا نفرًا يسيرًا، فكانوا هم الجماعة، وكان القضاة والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذُّودن، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة (6).
والذي جعله يذكر هذا عدم الاغترار بما عليه الناس في مقابل النصوص.
وكذلك مبحثه في (أقوال الصحابة) وحجيّتها، فاجزاء الكتاب جميعًا لا تخلو من هذا الموضوع، وأن القول بالحجيّة راجع إلى إعمال النصوص وتقديمها على الرأي، إذ "أنهم شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم"(7) ولذا فـ "أفهام الصحابة فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقواعد دينه وشرعه، أتم من علم كل من جاء بعدهم"(8) وقد أطال ابن القيم في ذكر الأدلة على حجية أقوالهم، ودعَّم ذلك بست وأربعين وجهًا (9)،
(1) يريد النصوص الشرعية.
(2)
"إعلام الموقعين"(2/ 558).
(3)
"إعلام الموقعين"(2/ 558).
(4)
"إعلام الموقعين"(4/ 91).
(5)
"إعلام الموقعين"(2/ 560).
(6)
"إعلام الموقعين"(4/ 389).
(7)
"إعلام الموقعين"(1/ 149 - 150).
(8)
"الطرق الحكمية"(122).
(9)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/ 556 و 5/ 30).