الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم، هنالك استطرادات في معالجة مسائل امتُحِن بسببها المصنف وشيخه ابن تيمية، هي ثمار لتلك القواعد والأصول والأسرار التي قامت بقوة في نفس صاحبها، وتبرهنت عنده أدلة جليّة قوية تخصّها، وقوّتها عنده لما رآها قد وردت على وجه القطع في عموم نصوص الشريعة، فزادته تقريرًا وزانت في أعين الناظرين إليها، ووزنت حجج المخالفين لما تقع المقارنة بينها.
-
رد مؤاخذة، وبيان أمر كلّي على عجالة:
وينبغي أن ينظر إلى هذه الاستطرادات بالسياق والوقت الذي كتبت فيه، فهي -في الجملة- من انفرادات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في ذلك الوقت، ووقع تشغيب عليهما بسببها، فلا أقلّ من أن تذكر بتأصيل وتفصيل، وتعالج معالجة علمية منصفة متجردة، بعيدة عن (المألوف) آنذاك، منسجمة مع (أصولها) و (حِكَمها) و (أشباهها) و (نظائرها)، لتوضع موضعها، ويراعى فيها (الحق) و (العدل)، فلا مندوحة في هذا الاستطراد لمن راعى هذه المسوِّغات (1)، وهي بمثابة (المسائل الأنموذجية) العلمية العملية، على تلك الموائمة الرائعة بين (الألفاظ) و (المعاني)، والتخريج العلمي الرزين بين (الأصول) و (الفروع)، والربط المحكم الوثيق بين (الأحكام) و (الحِكَم).
ومما ينبغي أن لا ينسى أن هذه المسائل التي نسجها ذلك العقد من (الحِكَم) و (الأسرار) وتضمنتها تلك (المسائل) و (الفروع) القائمة على (الأصول) و (النصوص) و (الآثار)، حواها جميعًا ثوبٌ زاهٍ قَشيبٌ، ربطت فيه -كلٌّ بمقداره وموقعه منه-، وهو موضوع (الفتوى) و (المفتين)، ومعالجة ما يقعون فيه من تجاوزات، والخروج عن (السابلة)، وتورطهم في الوقوع بـ (الحيل).
-
فصول نافعة وأصول جامعة في القياس:
وهذه كلمات مجموعة من العلماء والباحثين والمطلعين، فيها إبراز لمباحث مميزة في هذا الكتاب:
- قال صديق حسن خان في "ظفر اللاظي بما يجب في القضاء على القاضي" في آخر (مقدمته)(ص 28):
"وفي "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فصولٌ نافعة، وأصول جامعة في
(1) قارنه -لزامًا- بما في "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين"(151، 154).
تقرير القياس، والاحتجاج به، ولعلك لا تظفر بها في غير ذلك الكتاب، ولا بقريب منه" (1) انتهى.
قلت: نعم، في كتابنا هذا فصول ثلاثة عن القياس تكاد لا تجدها في كتاب، وهي:
الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس.
الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص.
الثالث: في بيان أنَّ أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح.
قال ابن القيم في كتابنا (2/ 116) بعد ذكره هذه الفصول الثلاثة:
"وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبيّن للعالِم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما هو عامُّ الرسالة إلى كل مكلف، فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه، ودقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحدٌ عن رسالته، فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها، وعن بيانه له".
قال: "ونحن لا نعلم أنا لا نوفِّي هذه الفصول حقَّها ولا نقارب، وأنها أجلُّ من علومنا، وفوق إدراكنا، ولكن ننبه أدنى تنبيه، ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها، وينهج طرقها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان".
قرر هذا بعد ذكره خطأ القياسيين من خمسة أوجه (2)، وركز في مباحث الفصول الثلاثة على ضرورة التنبيه على: "التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثيرٌ منه على أفاضل العلماء فضلًا عمن هو دونهم، فإن إدراك الصفةِ المؤثرةِ في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي عُلِّقت بها الأحكام من أشرف العلوم، فمنه الجليُّ الذي يعرفه أكثر الناس، ومنه الدقيقُ الذي لا يعرفه إلا خواصُّهم، فلهذا صارت أقْيِسَةُ كثيرٍ من العلماء تجيءُ مخالفةً للنصوص لخفاء
(1) ذكرها صديق حسن خان في كتابه "الجنة بالأسوة الحسنة بالسنة" وكذلك فعل ابنه محمد أبو الخير في "الطريقة المثلى في الإرشاد إلى ترك التقليد واتباع ما هو الأولى"(ص 49 - 61) الفصلان: السابع والثامن بتمامهما.
(2)
انظرها في (2/ 115).
القياس الصحيح، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (1).
ولم يأتِ في هذا الذي قرره ببدع من القول، بل هو الجادة المطروقة، وقد صرح هو بذلك؛ فأصغ إليه وهو يقول في (2/ 256):
"لم أجد أجود الأقوال إلا أقوال الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيحِ القياسِ وفاسدِه من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام، واللَّه أعلم"(2).
واشتهر هذا المبحث عن ابن القيم، وصرح في كتابنا هذا أنه كان هو السبب في تقرير شيخه ابن تيمية إياه (3)، قال في (2/ 165):"وسألتُ شيخنا -قدس اللَّه روحه- عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس (4). . . فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس" قال: "وأنا أذكر ما
(1)"إعلام الموقعين"(2/ 238).
(2)
انظر -له-: "مجموع فتاوى ابن تيمية"(17/ 182) وانظر منه: (8/ 179 و 13/ 19 و 146/ 14) و"شفاء العليل"(400 - 430) و"الجواب الكافي"(39 - 41) و"مفتاح دار السعادة"(350 - 351) كلها لابن القيم، و"تعليل الأحكام للشلبي"(14 - 22) و"أضواء البيان"(4/ 679).
(3)
ألف الشيخ عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتابًا بعنوان "المعدول به عن القياس، حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه"، وقد نشر محب الدين الخطيب ما يخص هذه المسألة في كتاب، جمع فيه كل كلام ابن تيمية وابن القيم، وانظر -لزامًا-: ما سنذكره في هذه المقدمة تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية).
(4)
توسع الحنفية في هذا، ولذا نازع متأخروهم ابنَ القيم في رده عليهم، انظر -مثلًا-: مبحث (الإجارة) هل هو على خلاف القياس أم لا؟ في "إعلاء السنن"(16/ 182 - 183)، ولأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري مبحث مطول في ذلك، راجعه في "من أحكام الديانة"(السفر الأول)(ص 336 - 357)، وهو بعنوان:"عقد الإجارة مظهر للقياس الصحيح، وتحقيق الخلاف بين الحنفية وابن قيم الجوزية، ومعنى القياس هاهنا" واعتنى عناية قوية بمناقشة كلام ابن القيم، وبيان مراده على وجه تفصيلي تحليلي، تظهر منه دقة ابن القيم الشديدة، وقارنه بما في "تمكين الباحث من الحكم بالنص بالحوادث" لوميض العمري (ص 42 - 43)، واللَّه الموفق.