الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الجامدين على اللفظ والعاملين بالمعنى والقصد. قال في (3/ 513 - 514):
"فانظر ملتقى البحرين، ومُعْتَرَكَ الفريقين، فقد أبرز كل منهما حجته، وخاض بحر العلم فبلغ منه لُجَّتَه، وأدْلى من الحجج والبراهين بما لا يُدفع، وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم: قل؛ يُسْمَعْ، وحُججُ اللَّه لا تتعارض، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يُصدّق بعضه بعضًا، ولا يقبل معارضة ولا نقضًا، وحرامٌ على المقلد والمتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقَت الحقائق المُعَوَّل، فليجرب المدعي ما ليس له والمدعي في قوم ليس منهم نفسَه وعملَه وما حصَّله في الحكم بين الفريقين، والقضاء للفصل بين المتغالِبَيْن، وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين، ليسلم له قول إحدى الطائفتين، وإلا؛ فليلزم حدَّه، ولا يتعدى طَوْرَه، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يَتَّجر بنقدٍ زائفٍ ولا يروج عليه، ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد للَّه مسافرًا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي، مُنْزِلًا نفسَه منزلَةَ من يتلقاه غضًّا طريًّا مِنْ في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها".
وأخذ في تقرير قاعدة الإعمال لا الإهمال، وعدّ عشرة أشياء (1) لا يؤاخذ اللَّه المكلف بها، لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به، وراح يدلّل عليها، بما لا يدع مجالًا للشك في ذلك، ورجع إلى بيان أقسام الألفاظ الثلاثة (2) بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونيّاتهم وإراداتهم، وبيَّن متى يحمل الكلام على ظاهره، ومتى لا يحمل؟
-
الحيل:
وبعد هذه التوطئة المهمة، أخذ في الكلام المفصَّل على (الحيل) وصوره، وأقسامه، وقرر أنّ أصحاب الحيل وقفوا مع الظواهر والألفاظ ولم يراعوا المقاصد والمعاني، وأنهم استحلوا (حقائق) المحرمات، بتسميتها بأسماء لا نصيب لها من الشرع إلا (الألفاظ) ومن الأمثلة على ذلك قوله في (3/ 530) بعد كلام: "وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تُسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسًا
(1) انظرها في (3/ 515).
(2)
انظرها في (3/ 518).
وحرمة للملك، فهو أظهر من أن يذكر" (1) وقوله في (3/ 532):
"ولو أوْجَبَ تبديلُ الأسماء والصور تبدُّلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبُدِّلت الشرائع، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامَهم آلهةً وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نَفَعهم تسمية الإشراك باللَّه تقربًا إلى اللَّه؟ وأي شيء نَفَع المعطِّلين لحقائق أسماء اللَّه وصفاته تسميةُ ذلك تنزيهًا؟ وأي شيء نفع الغلاةَ من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون اللَّه تسمية ذلك تعظيمًا واحترامًا؟ وأي شيء نفع نُفَاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعة أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلًا؟ وأي شيء نَفَعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيدًا؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن اللَّه لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث مَنْ في القبور ولا يعلم شيئًا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلًا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلًا معيشيًا وقَدْحَهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُدَاهن في دين اللَّه؟ وأي شيء نفع المَكَسَة تسمية ما يأخذونه ظلمًا وعدوانًا حقوقًا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع اللَّه ودينه شرع الديوان؟ وأي شيء نفع أهل البِدَعِ والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم، وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوّفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ".
وبناءً عليه، ذكر أن المحتال لا يجوز أن يحصل على مقصوده، وفرق بينه وبين المكره واستطرد في ذكر الهازل وحكم عقوده، وفرع عليه حكم نكاحه وأن الشارع رتب عليه حكمًا، لأن "عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه"(2)، وخلص من خلال ما مضى إلى أن "ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يُقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة اللَّه ورسوله، ولم يُؤمر أن يُنقِّب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم، بل يُجْرِي عليهم أحكام اللَّه في الدنيا إذا دخلوا في دينه، ويجري أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونيّاتهم؛
(1) صدق رحمه الله، ولا أدري ماذا يقول لو رأى الذي رأيناه، ولا قوة إلا باللَّه!
(2)
انظر: (3/ 542).