المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ت مشهور - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ نسبة الكتاب لمؤلفه:

- ‌(ضبط اسمه)

- ‌ حجمه:

- ‌ موضوعه ومباحثه:

- ‌ توطئة:

- ‌ رد مؤاخذة، وبيان أمر كلّي على عجالة:

- ‌ فصول نافعة وأصول جامعة في القياس:

- ‌ عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء:

- ‌ هل كتاب "الأعلام" شرح لكتاب عمر في القضاء

- ‌ مباحث كتاب "الأعلام" لغاية إيراد المصنف كتاب عمر في القضاء:

- ‌ مباحث (الفتوى) في الكتاب:

- ‌ الرأي وأنواعه:

- ‌ أصول الإمام أحمد:

- ‌ كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء

- ‌ عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب:

- ‌ إلماحة في رد كون كتابنا شرحًا لكتاب عمر في القضاء فحسب:

- ‌ تحريم الفتوى بغير علم:

- ‌ تفصيل القول في التقليد:

- ‌ وجوب إعمال النصوص:

- ‌ الزيادة على النص:

- ‌ العرف وحجيته:

- ‌ تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:

- ‌ المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات:

- ‌ الحيل:

- ‌ سد الذرائع وتوظيفه للمنع من الحيل:

- ‌ مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد:

- ‌ حجية قول الصحابي:

- ‌ فوائد تتعلق بالفتوى:

- ‌ فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ أمور جملية لا بد منها:

- ‌ جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب:

- ‌مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا

- ‌ توطئة:

- ‌ كتب البيهقي:

- ‌ كتب الشافعي:

- ‌ كتب الشافعية:

- ‌ كتب الحنفية:

- ‌ كتب المالكيّة:

- ‌ كتب الإمام مالك

- ‌ شروح "الموطأ

- ‌ كتب ابن عبد البر الأخرى:

- ‌ كتب المالكية الفقهية الأخرى:

- ‌ كتب الإمام أحمد والحنابلة:

- ‌ كتب الإمام أحمد ومسائل أصحابه له:

- ‌ معرفة المصنف لمذهب أحمد وإعجابه به:

- ‌ كتاب "الجامع الكبير" للخلال:

- ‌ كتب القاضي أبي يعلى الفراء:

- ‌ كتب ابن القاضي أبي يعلى:

- ‌ كتب أبي الخطاب الكلوذاني:

- ‌ كتب الحنابلة الأخرى:

- ‌ كتب فقهية أخرى:

- ‌ فتاوى بعض السلف:

- ‌ كتب ابن المنذر:

- ‌ كتب أخرى:

- ‌ كتب ابن حزم:

- ‌ كتب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام:

- ‌ كتب الفتوى:

- ‌ كتب أصول الفقه:

- ‌ كتب الحيل:

- ‌ كتب التفسير:

- ‌ كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ:

- ‌ كتب التوحيد والعقائد:

- ‌ موارد المصنف الحديثية:

- ‌ الصحف والنسخ الحديثية

- ‌ دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم):

- ‌ السنن:

- ‌ المسانيد والمعاجم:

- ‌ كتب أحاديث الأحكام وشروحها:

- ‌ كتب العلل:

- ‌ كتب مسندة تعتني بالأحاديث وآثار السلف:

- ‌ كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل:

- ‌ المصادر الشفهية وما في حكمها:

- ‌ بين المصنّف وشيخه ابن تيمية:

- ‌منهج ابن القيم في كتابه

- ‌المحور الأول: الاستدلال والاستنباط:

- ‌ وجوب ذكر الدليل والتحقق من صحته:

- ‌ معنى كتاب اللَّه عند ابن القيم

- ‌ منزلة القرآن والسنة من الاستنباط:

- ‌ ضرورة الاحتجاج بالسنّة:

- ‌ الاحتجاج بالصحيح من السنة دون الضعيف:

- ‌ مؤاخذات حديثيّة على المصنّف:

- ‌ تقديم الأدلة النقلية على غيرها:

- ‌الاستدلال بالنظر والقياس الصحيح والمعقول:

- ‌ عمل أهل المدينة:

- ‌ أقسام العمل عند ابن القيم:

- ‌ الاستصحاب:

- ‌ كلمة في حجية القياس:

- ‌ الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال:

- ‌ عنايته بمحاسن الشريعة وحِكَمها

- ‌ ابن القيم ومقاصد الشريعة:

- ‌المحور الثاني: التفصيل والتأصيل والتحليل والاستيعاب وطول النَّفس مع التكامل والانسجام:

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌ثامنًا:

- ‌تاسعًا:

- ‌المحور الثالث: الإنصاف والأمانة والتقدير والموضوعية والترجيح:

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌المحور الرابع: طريقته في العرض وأسلوبه في البحث:

- ‌أولًا: أسلوبه الأدبيُّ:

- ‌ثانيًا: حسن الترتيب واتّساق الأفكار وتسلسلها:

- ‌ثالثًا: التكرار:

- ‌رابعًا: الاستطراد

- ‌خامسًا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني

- ‌سادسًا: بين التواضع والاعتزاز:

- ‌الجهود المبذولة في كتابنا هذا

- ‌ أهمية الكتاب وفائدته:

- ‌ أثر الكتاب في مؤلفات ودراسات من بعده:

- ‌الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية:

- ‌ النسخة الثالثة:

- ‌ النسخة الرابعة:

- ‌أشهر طبعات الكتاب وتقويمها:

- ‌ تقويم الطبعات التي وقفت عليها وعملي في هذه النشرة والدافع لها:

- ‌ ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في الطبعات السابق ذكرها:

- ‌ طبعة عبد الرحمن الوكيل

- ‌ طبعة دار الجيل

الفصل: ‌ عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها

هكذا يتضح لنا أن ابن القيم قد انتفع بالقياس الفقهي. وكان قياسه أحكم لأنه كان يوائم من الأقيسة وما أوتي من علم واسع شامل بالسنة وفتاوى الصحابة وأقضيتهم وطرائق استنباطهم، فهو قياس يستقي من ينابيع الأثر، ويشاكل تمام المشاكلة اجتهاد السلف الذي هو المشكاة لهم.

ونجد في أقيسة ابن القيم أمرين:

- أنه نظر في الأحاديث التي زعم الحنفية وغيرهم أنها ليست متفقة مع القياس، وأنها استثناء يؤخذ بها إن لم يعارضها، وبين اتفاقها مع القياس وعدم بعدها عن مراميه وغاياته.

- أنه نظر في الأوصاف المشتركة بين الفرع والأصل في أقيستهم نظرة جامعة كلية. فاتجه إلى المقاصد الشرعية السامية التي تتجه إلى إيجاد جماعة فاضلة، تقوم على رعاية المصالح ودفع الأضرار في حياة دينية وخلقية تستمد النور من السماء.

ونرى من هذا أن ابن القيم قد خص القياس ببيان أوفى، سلك فيه مسلك السلف الصالح وخاض فيه على ضوئهم، وبين مرامي الأقيسة التي نقلت في فروع الإمام أحمد، ووضح المقاصد التي سيقت لها الأحكام، وعرج في ذلك على مقاصد الشريعة وغايات الأحكام فيها، وهو في ذلك يوضح مناهج الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، دون أن ننسى الإشارة إلى أن لشيخه أسبقيةً في ذلك.

فابن القيم إذًا قد أفاد عمَلَه في القياس الفقهي اتساعًا في أبوابه، وسموًّا في غاياته، ونموًا في طرائقه، كما استفادت الآثار منه مدافعًا، يبيِّن غايتها ومقاصدها واتفاقها مع ما تنتجه المقاييس العقلية السليمة، وأفاد الاستنباط الفقهي عمومًا، فاستبان الشرع الإسلامي متجانسًا غير متنافر، فالأحكام الشرعية تشتمل على التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين (1).

*‌

‌ عنايته بمحاسن الشريعة وحِكَمها

(2):

اعتبر ابن القيم رحمه الله معرفة حكمة الشريعة وأسرارها ومقاصدها ومحاسنها رأس أمر الفقه وذروة سنامه.

(1)"ابن القيم أصوليًا"(193).

(2)

انظر في ذلك أيضًا: "الحدود والتعزيرات عند ابن القيم"(ص 9)، و"أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية"(ص 12 - 13) كلاهما للشيخ بكر أبو زيد.

ص: 186

وقد تفوق ابن القيم على غيره في هذا المضمار، وعلى الرغم من تبنِّيه كلام شيخه ابن تيمية فيه، إلا أنه جاء -ولا سيما في كتابنا هذا- بما هو متمم ومكمل له، وقد وسع الكلام عليه. وفصّله في المسائل الفقهية، موظفًا ذلك في خدمة الدليل الشرعي، وقد أفاد وأجاد في ذلك، وأتى بما لم يأتِ به أحد قبله.

يقول بعض الباحثين (1) تحت عنوان (العلماء الذين قالوا: إن الأصل في العادات والعبادات التعليل). وذكر منهم (ابن القيم)، وقال:

- "يؤكد ابن القيم -متبعًا شيخه- على أن اللَّه تعالى عرف عباده عموم جلائل خلقه وأمره دون دقائقها وتفاصيلها، وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها، وأما تفاصيل أسرار المأمورات والمنهيات فلا سبيل إلى علم البشر بها، ولكن اللَّه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها (2). فهذا "أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله، ويحصر اللسان عن التعبير عنه" (3) قال رحمه الله:"الحق أن جميع أفعاله وشرعه سبحانه لها حكم وغايات لأجلها شرع وفعل، وإن لم يعلمها الخلق على التفصيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها"(4).

ويرى رحمه الله أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله، ويخفى على من خفي عليه (5). ويرى -كما يرى شيخه (6) - أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر (7).

وفي معرض رده على الذين لا يعللون تقديرات العقوبات يقول: "إن من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة، كما أن التخصيصات والتقديرات

(1) هو الدكتور يوسف البدوي في كتابه "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية"(ص 176 - 180) والمنقول بتصرف.

(2)

"مفتاح دار السعادة"(328، 434).

(3)

"شفاء العليل"(78 - 79).

(4)

"شفاء العليل"(395، 451، 501).

(5)

"إعلام الموقعين"(2/ 294).

(6)

انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية"(20/ 505).

(7)

"إعلام الموقعين"(2/ 165).

ص: 187

الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعًا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإِحكام أولى وأحرى. ومن لم يعرف ذلك مفصلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهله بحكمة اللَّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغًا له إنكاره في نفس الأمر" (1).

ولقد خصص ابن القيم كثيرًا من كتبه لبيان حكم اللَّه ومقاصده في أفعاله وأحكامه سبحانه مثل: كتابنا هذا، و"مفتاح دار السعادة"، و"شفاء العليل". ولقد ذكر عللًا كثيرة لكثير من أحكام الشريعة، ففي الطهارة والصلاة ذكر حكمًا عديدة لقراءة سورة الفاتحة في الصلاة، وطهارة الأعضاء والثياب والمكان، وأخذ الزينة، واستقبال القبلة، ثم حكم هيئات الصلاة من الركوع والقيام منه ثم السجدتين والجلوس بينهما والجلوس للتشهد والترتيب بين هذه الأركان، كما أنه أفاض في ذكر حكم غسل أعضاء الوضوء والاغتسال (2). وبين الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار (3). وفي الصوم والزكاة والحج وفيما يتعلق بها من أوقات وأماكن ومقادير بين حكم الشريعة ومحاسنها فيها، إلى غير ذلك من المعاملات وأحكام الأسرة والعقوبات (4).

كل ذلك قوى ظني وشد أزره بأن المراد من كلام الشاطبي الآتي هو ابن القيم -مما يثبت اطلاعه على كتب ابن القيم وابن تيمية واستفادته منهما، حيث يقول الشاطبي: "الحِكَم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه، ولا تطور (5) نحوه، فيأتي بعض الناس فَيُطرِّق إليه حِكَمًا

(1)"إعلام الموقعين"(2/ 348، 2/ 120).

(2)

"شفاء العليل"(478 - 485).

(3)

"إعلام الموقعين"(2/ 369).

(4)

"مفتاح دار السعادة"(328 - 332).

(5)

أي: تحوم.

ص: 188

يزعم أنها مقصودُ الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبنى على ظنٍّ وتخمينٍ غير مطرد في بابه، ولا مبنيّ عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ" (1).

وهذا الموقف من الشاطبي هو الذي حمل الريسوني على أن ينسب إلى ابن القيم البعد في تعليل الأحكام، بما في ذلك الأحكام العادية والتعبدية، وقال:"ورغم أن ابن القيم بسبب إصراره على تعليل كل شيء قد وقع في تعليلات ضعيفة، كما في تعليله للفرق بين بول الصبي وبول الصبية، وكما في تعليله لكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية"(2).

لكن لو أنعمنا النظر في موقف الشاطبي لتبين لنا أنه تردد وقدم قدمًا وأخَّرَ أخرى (3). فهو مع أنه أنكر على بعض الناس تعليل اختصاص الصلاة بتلك الهيئات دون بعض إلى غير ذلك مما تقدم ذكره عنه، إلا أنه يذهب إلى تفصيل وتعليل كثير من العبادات كما قال الريسوني:"والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها"(4)، فيقول الشاطبي:"وذلك أن الصلاة مثلًا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهُّب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجَّه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أمِّ القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجِّه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد، فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفُل عما هو فيه من مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدَّم قبلها نافلةً؛ كان ذلك تدريجًا للمصلي واستدعاءً للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضًا، لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة. ومن الاعتبار في ذلك أن جُعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسانُ والجوارحُ متطابقةً على شيء واحد، وهو الحضور مع اللَّه فيها بالاستكانة والخضوع، والتَّعظيم والانقياد، ولم يخلُ موضعٌ من الصَّلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان"(5).

(1)"الموافقات"(1/ 111 - 112 - بتحقيقي).

(2)

"نظرية المقاصد"(218).

(3)

حتى أن ابن عاشور قال: "اعلم أنّ الشاطبي ذكر كلامًا مطولًا في العبد والتعليل معظمه غير محرر، ولا متجه، وقد أعرضت عن ذكره هنا لطوله واختلاطه"، انظر:"مقاصد الشريعة" له (ص 48).

(4)

"نظرية المقاصد"(ص 215).

(5)

"الموافقات"(2/ 42 - 43 - بتحقيقي).

ص: 189

وفي نظري فإن ابن القيم قد تكلم في كثير من علل الأحكام سواء في مجال العبادات أو المعاملات، مما لم يتطرق إليه ابن تيمية، حتى إنه ليعلل الأعداد والمقدرات التي جاءت بها الشريعة. فيذكر أن عدة المتوفى عنها زوجها كانت أربعة أشهر وعشرًا لأنها أولى المدد التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه، فكانت على وفق الحكمة والمصلحة (1). وأن المقادير التي جاءت بها الشريعة في الزكاة تحقق العدل والمصلحة لكل من الفقراء وأرباب الأموال (2). وإن إحداد المرأة على غير الزوج يناسبه ثلاثة أيام ترتاح فيها النفس وتقضي بها وطرًا من الحزن، بخلاف الإحداد على الزوج، فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومكملاتها (3). وكما قال الجويني، عند عرضه لمذاهب العلماء في عدد من تنعقد بهم بيعة الإمام وذكره بعض العلل لذلك قال:"ولو تتبع المتتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع، لم يعدم وجوهًا بعيدة عن التحصيل في التشبيه"(4).

فلا يشترط أن تكون كل تلك التعليلات قد أصابت كبد الحقيقة، وأظهرت سر الشريعة، ولكنها اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب".

قال أبو عبيدة: هذه المباحث وغيرها؛ تدلل على أصالة ابن القيم في علمَي (الفقه) و (أصوله)، وأن له يدًا طولى فيه، وأن عنده فيه عقلية تحليلية إحصائية استقرائية تجمع المسائل تحت منضَبَطٍ واحد، والتمس من خلال ذلك "أسرار التشريع، وعلل الأحكام، ليظهر جمال شرع اللَّه تعالى، وكمال حكمته، ولطف علمه وخبرته، فعلل تلك الأحكام بما يناسبها من سر التشريع، وعمق المأخذ، وعلّة الحكم، ليجعل من تلك الأسرار التشريعية، والحِكَم الإلهية، قواعد وضوابط يبني عليها الكثير من جزئيات الأحكام.

وهذه العلل المرفقة، والأسرار المنقحة في كتابنا الجليل -الذي لم يصنف في بابه على منواله- تدلل على غوص صاحبه في أغوار التشريع" (5) وفيها "قلائد وفوائد وموائد وفرائد، وكتب لها السلاسة مزية، ووضوح من غير تعقيد ولا

(1)"إعلام الموقعين"(2/ 395).

(2)

"إعلام الموقعين"(2/ 333)، وانظر:"حجة اللَّه البالغة"(2/ 43 - 44).

(3)

"إعلام الموقعين"(2/ 414).

(4)

"الغياثي"(ص 69).

(5)

من مقدمة الشيخ عبد اللَّه البسام لكتاب "أسرار الشريعة من إعلام الموقعين" لمساعد بن عبد اللَّه السلمان (ص 5) بتصرف يسير.

ص: 190

تكلف ولا وكس ولا شطط، ومن واظب عليها دراسة ودراية وقراءةً وبحثًا وتنقيبًا وحفظًا وفهمًا، وقرأها على من هو أعلم منه، حصل على خير كثير" (1) ولا سيما أن "الحاجة إلى معرفة أسرار الشريعة الإسلامية صار أمرًا ضروريًا، لا سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه أعداء اللَّه، حيث تحركت الأقلام القذرة والأيادي الملطخة بالكفر والزندقة لتشكك المسلم في دينه وعقيدته ليبقى في شراك الشك والحيرة يصطلي بنار الضلال ولا يبصر أمامه إلا سرمديًا.

وهذا -أعني التشكيك- منهج قديم ومسار تليد لكنه نما وازداد في هذه الآونة الأخيرة، وصار تخصصًا يتفنن فيه أساتذته وطلابه، بتنويع الشبه وتزيين الاعتراض وعدم القبول وتقبيح الانقياد والخضوع بلا اقتناع" (2).

وعلى الرغم من عناية ابن القيم المتميزة في كتابنا هذا بأسرار الشريعة (3) إلا أنه ليس خاصًا بها، وهنالك كلمة للمصنف ظفرتُ بها في "بدائع الفوائد"(2/ 179)، تدلل على أهمية هذا العلم عند المصنف، وفيها عزمه على إفراده بالتصنيف، قال رحمه الله:

"ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة، يرقص القلب فيه طربًا ويتمنى أن له الدنيا وما فيها، وعسى اللَّه أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة، التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة، ولم يحسن إليهم إحسانًا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة".

ومن الجدير بالذكر أن العناية بهذا اللون من التصنيف بقيت قاصرة (4)، على

(1) من مقدمة الشيخ إبراهيم الجطيلي لكتاب "أسرار الشريعة"(ص 7 - 8) بتصرف.

(2)

"أسرار الشريعة"(ص 10).

(3)

قال محمد رشيد رضا في "المنار"(مجلد 12، عدد شوال، 1327 هـ ص 786): "لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع. . . ".

(4)

لا تنسى في هذا المقام جهود ثلة من العلماء، من أبرزهم:

* محمد بن عبد الرحمن البخاري (ت 546 هـ) في كتابه: "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام" وهو مطبوع.

* علي بن أحمد الجرجاوي الأثري الحنبلي (ت 1331 هـ) في كتابه: (حكمة التشريع =

ص: 191