الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من جهة، وضيَّقه من جهة أخرى، وأحسن في الحالتين.
أما من حيث التضييق، فعلى ما قدّمنا من حيث تقديم النصوص عليه (1).
وأما من حيث التوسّع، فبناءً على إعمال المعاني، وعدم إهدارها، ولذا فإن "النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان للكتاب والميزان، ولا تخفى دلالة النص، أو لا تبلغ العالم، فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص، فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له، فيكون فاسدًا"(2).
واستشكل العلماء هذا التقرير من ابن القيم، ومحل بسط ذلك في:
*
الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال:
نادى ابن القيم باستثمار الأحكام الشرعية من النصوص، باعتبار دلالتها في ذاتها، وباعتبار دلالة إضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف باختلاف الناس وتفاوتهم في مراتب الفهم عن اللَّه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم (3).
وبهذا يكون ابن القيم قد ضيق الخناق على القياس (4)، ومن مؤسسي بناء
= صاحب "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية"(ص 199)"إن اعتناء ابن القيم بأدلة إثبات العليل فاق اعتناء كل من ابن تيمية والشاطبي".
(1)
من بديع كلام إلكيا الهراسي قوله: "إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهب الرياح"، انظر:"طبقات الشافعية الكبرى"(7/ 232)، وانظر في تقرير هذا المعنى كتابنا (3/ 134).
(2)
"إعلام الموقعين"(2/ 97)، وهذا شيء زائد، على ما ذكره الأصوليون في كتبهم عند الاحتجاج للقياس، كفول الغزالي -مثلًا- في "المستصفى"(3/ 625)، و"شفاء العليل"(190 - 195)، "حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من تلقاء أنفسهم، بل فهموا من مصادر الشرع وموارده، ومداخل أحكامه ومخارجه ومجارله ومباعثه، أنه صلى الله عليه وسلم كان يَتَّبعُ المعاني، ويُتبعُ الأحكامَ الأسبابَ المتقاضيةَ لها من وجوه المصالح، فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا أن الشرع جوّز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه، فعُلِمَ من الصحابة رضي الله عنهم اتباعُ العلل"، فتأمل.
(3)
انظر: "ابن القيم أصوليًا"(166).
(4)
"حفريات المعرفة العربية الإسلامية"(التعليل الفقهي)، لسالم يفوت (ص 173).
الشريعة وأحكامها على مقاصدها وحِكَمِها وأسرارها القائمة على النصوص الشرعية، وعدم الإسراف في القياس. وثمرة ذلك بناء الأحكام على اليقين المنبثق من (تعليل الأحكام)، و (استقراء) المقاصد، والاعتناء بـ (الأشباه والنظائر) و (تتبع الحكم والأسرار) لنصوص الوحيين الشريفين وذلك خير من بنائها على الظن والتخرص المستند إلى القياس (1).
هذا هو عمدة الاجتهاد الذي نادى به ابن القيم، وهو مدار الفقه عنده، والخصوصية التي يتميز بها الفقيه -عنده- هي "الدليل، وقوة الفهم، وجودة الفكر، ووفور العلم، والاستنباط، فلا أثر للكثرة، فالشخص الواحد، قد يكون أكثر تحقيقًا وتدقيقًا وفهمًا من كثيرين"(2).
وضرب ابن القيم أمثلة عديدة مما اختلف فيه السلف ومن بعدهم، وقد بيّنت النصوص أحكامها، ومع هذا فقد سلك (القياسيون) طريقًا وعرًا، من مثل (المسألة المشتركة في الفرائض) (3) و (مسألة ميراث البنات) (4) وكذلك دخول (النباش) في عموم قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
ثانيًا: كأني بالمصنف -بناء على ما سبق- يقرر الآفة عند الفقهاء، وهي التوسع في (إِعمال الرأي) مقابل (النصوص) و (فتاوى الصحابة)، ولجوئهم إلى (العقل) دون (النقل)، ذلك "أن الفقيه قد يجد قولًا للسلف في حكم معين، ولكنه لا يهتدي إلى كيفية استخراج ذلك القول من نصوص الكتاب والسنة، فالذي ينبغي لمثل هذا الفقيه هو أن يبحث ويجتهد حتى يتوصل إلى القول الراجح، وإلى كيفية استنباطه من الكتاب والسنة، ثم ضبط الاستنباط بضوابط تعم أفراد النوع الواحد، غير أن بعض الفقهاء إذا وجد مثل تلك الأقوال، ولم يعرف كيف استخرجها الصحابي أو التابعي أو الإمام من النص، فإنه يستسهل أن يزعم بأن القضية لا نص فيها من الكتاب والسنة، وإن الصحابي أو الإمام قال قوله كدليل أو حكم ثالث: هو الرأي أو القياس أو المصلحة!! وكتب المتأخرين والمعاصرين مملوءة بهذا النمط من التخريج، وهو مسلك فاسد جدًّا، يصرف طلبة العلم عن وسائل الاستنباط،
(1)"مقاصد الشريعة عند ابن تيمية"(536 - 537).
(2)
"فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد"(ص 40) للسلمي الشافعي.
(3)
انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 127 - 130).
(4)
انظر في "إعلام الموقعين"(2/ 147 - 151).
ويقطع عليهم سبل الاجتهاد؛ وذلك لأن الطالب هنا جعل جهله حجة فقطع على نفسه السبيل، ووقف قبل أن يبلغ غايته التي هي الفقه في الكتاب والسنة، ثم يفني هذا الفقيه عمرًا يتبحر في دليل أو حكم لا تتناوله نصوص الكتاب والسنة بعموم ولا إطلاق ولا مقتضى أمر ولا نهي ولا منطوق ولا مفهوم ولا ظاهر عبارة ولا عبارة مصروفة عن ظاهرها ولا شبه ذلك مما يفيده الاستنباط المباشر من النص، فلا شك أنه حكم موهوم ودليل لا حقيقة له، ومن المحال ضبطه وإتقانه لأنه مما افتعله البشر، وليس مما أنزل اللَّه تعالى.
ولذلك تجد مسالك القياس عند المتأخرين في غاية الوعورة والتعقد إلى حد يعجز القائسون أنفسهم عن إدراكها، والانتفاع بها، لما يتجدد من الوقائع ويحدث من القضايا، ولننظر مثلًا إلى لفظ المؤثر والمناسب والمخيل وقياس الشبه والطرد، وهي من الاصطلاحات المهمة في القياس، واعتمد عليها الأصوليون في فهم القياس وضبطه، بحيث يتوقع أن عامة أهل القياس يفهمونها حق الفهم، ولكن قال أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه تعالى:"وقد أطلق الفقهاء المؤثر والمناسب والمخيل والملائم والمؤذن بالحكم والمشعر به، واستبهم على جماهير العلماء والأفاضل، إلا من شاء اللَّه دركُ المَيزِ والفصلُ بين هذه الوجوه، واعتاص عليهم طريق الوقوف على حقائقها بحدودها وخواصها. واتصل بأذيال هذه الأجناس قياس الشبه والطرد، وهي المغاصة الكبرى والغمرة العظمى، فلقد عز على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر ويحسن تمييزه عن المخيل، والطرد وإجراءه على نهج لا يمتزج بأحد الفنين"(1).
ومن أراد شهودًا على كلام الغزالي، فلْيقرأ مباحثَ القياس في كتب المتكلمين. وقد شعر بعضهم بأثر القياس في الصد عن الاستنباط المباشر من القرآن والسنة، ونقل بعض القائسين هذا الأثر كحجة لنفاة القياس، قال علاء الدين البخاري:"قال القاضي الإمام في "التقويم": قالوا: وفي الحجر عن القياس أمران بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين، فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان. وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت، وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب؛ فتموت البدع بظهور القالب، ويسقط الهوى بحياة القالب؛ لأن القالب لا يحيى
(1)"شفاء العليل"(143 - 144).
إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص، ومعانيها غائرة جمة لن تنزف بالرأي وإن فنيت الأعمار فيها، فلا يفضل الرأي للهوى؛ فيتم أمر الدين" (1).
الحاصل من ذلك: أنه ينبغي توجيه الرأي في الدين على أنه القدرة العقلية على تفسير الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وخدمة أحكامهما، وليس هو دليلًا ثالثًا معهما، فإذا أخذ الرأي هذه الوجهة صلح أمر أهل العلم الذين هم رؤساء الناس.
وعلى أي حال؛ فإن كان القائسون يرون حصر الدين بالكتاب والسنة، ويريدون بالرأي الذهن المتوقد والقدرة العقلية على الاستنباط من الكتاب والسنة، وتنفيذ أحكامهما فلا خلاف معهم ولا إشكال في ادعاء إجماع الصحابة. وأما إن كانوا يريدون بالرأي أو القياس دليلًا ثالثًا في الدين سوى الكتاب والسنة فلا شبهة في بطلان ذلك، بل ليس ببعيد أن ندعي إجماع الصحابة على بطلانه" (2).
وما أقعد ما قاله ابن القيم: "وقد تقدم مرارًا: أن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلما كان الرجلُ إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد"(3)!
ثالثًا: من الأمور التي أخذها ابن القيم على نفاة القياس والمثبتين له والمتوسطين، موقفهم من التعليل:
النفاة سدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح.
والقائلون به، غلاتهم، علقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها.
والمتوسطون، مع إقرارهم بحجية القياس، فإنهم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب، ذلك أن علل الشرع ما هي إلا مجرد أمارات وعلامات فقط، وذهبوا إلى أن جميع ما وجد من الخلق والأمر مقترنًا بعضه ببعض، فأحدهما دليل على الآخر مقارن له اقترانًا عاديًا، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة.
وابن القيم يرى أن الصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره (4).
(1)"كشف الأسرار"(3/ 274).
(2)
"تمكين الباحث"(129 - 131).
(3)
"إعلام الموقعين"(3/ 168).
(4)
"إعلام الموقعين"(2/ 96 - 97)، وانظر في مبحث (التعليل) عند ابن القيم إن أردت =
رابعًا: إذا كان الفقهاء قد افترقوا في القياس فمنهم: نفاة، وغلاة، ومتوسطون، فإن لابن القيم موقفًا حسنًا، فكان بين ذلك قوامًا، حيث لم ينف القياس نفيًا باتًا كما فعل الظاهرية، ولم يغال في القياس مغالاة العراقيين، وإنما أخذ بالقياس، كما أكد ذلك في كتابه هذا، وما كان مبتدعًا بل كان متبعًا، فإن الصحابة الذين تخرج على فقههم، وإن كان بينه وبينهم الزمن الطويل، قد أخذوا بالقياس ونقل عنهم، وكثير من الأحكام التي استنبطوها بنيت عليه، وقد قال في هذا الشأن:"كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره. . . "(1).
فالقياس ضروري لكل من يتصدى للفتوى، ولا يمكن أن يستغني عنه فقيه.
ولقد قال المزني، صاحب الشافعي:"الفقهاء من عصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهلم جرا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا بان نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس"(2).
ولعل ابن القيم من الذين أعطوا القياس عناية كبيرة، وقد دفعهم إلى ذلك حاجة الزمن، فإن الناس قد جدت لهم أحداث اضطروا فيها إلى أن يفتوا وأن يقيسوا على فتوى الصحابة والأمور المنصوص على حكمها، واضطروا أن يخرجوا على أقوال إمامهم، ولا بد لذلك من القياس، فسلكوا طريقه واجتهدوا واستنبطوا.
خامسًا: نوع القياس الذي يأخذ به:
يدل لفظ القياس عند ابن القيم على أمور ثلاثة:
1 -
الرأي: بعد أن ذكر أن يحيى بن أكثم يرى أن الرجل يجب عليه أن يفتي إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر، قال ابن القيم:"يريد بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طردًا وعكسًا"(3).
= الاستزادة: "تعليل الأحكام" للشلبي (68، 74، 304، 327، 377 - 379) وما سيأتي تحت عنوان (عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها).
(1)
"إعلام الموقعين"(1/ 354).
(2)
"إعلام الموقعين"(1/ 359).
(3)
"إعلام الموقعين"(1/ 88).
2 -
الأمثال والأشباه والنظائر: يقول ابن القيم: "إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر"(1).
3 -
الميزان: وهو اللفظ الذي يرجح ابن القيم استعماله بدلًا من استعمال لفظ القياس. فبعد أن ذكر ابن القيم بعض الآيات التي ورد فيها لفظ الميزان، كقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} [الرحمن: 7]، قال:"والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه اللَّه به، فإنه يدل على العدل، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس، فإنه ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم"(2).
فابن القيم يقسم القياس إلى صحيح وفاسد، فالصحيح هو الميزان، والفاسد غير معتبر كقياس الكفار البيع على الربا في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 274]، بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وكقياس الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق روح الميتة بفعل اللَّه، وإزهاق روح المذكى بفعل الذابح، قال ابن القيم:"ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به، وهذا حق وهذا حق"(3).
وقد حدد ابن القيم ضابط معرفة القياس الصحيح والقياس الفاسد فقال: "إن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد"(4).
وبين أن السلف قرروا العمل بالقياس عند الضرورة، وأنهم لم يلزموا أحدًا العمل به ولم يحرموا مخالفته، ولا اعتبروا مخالفه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده (5).
ومع أخذ ابن القيم بالقياس عند الضرورة، فهو يعتبر النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث وقد سبق الإشارة إلى ذلك (6).
(1)"إعلام الموقعين"(1/ 377).
(2)
"إعلام الموقعين"(1/ 350 - 351).
(3)
"إعلام الموقعين"(1/ 351).
(4)
"إعلام الموقعين"(3/ 168).
(5)
"إعلام الموقعين"(1/ 135).
(6)
"ابن القيم أصوليًا"(ص 184 - 185).