الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني
(1):
من السمات الظاهرة في كتابنا هذا:
عناية ابن القيم بالجانب الوجداني، فإنه لم ينس أن يخاطب الإحساس والشعور الإيماني، فإن من متطلبات الفقيه حتى يكون ربانيًا، موفَّقًا في اختياراته، مصيبًا للحق فيها أن يكثر اللجوء إلى اللَّه عز وجل، فاسمع إليه وهو يقول في (الفائدة العاشرة) من (فوائد تتعلق بالفتوى):
"ينبغي للمفتي الموفّق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحالي لا العلم المجرّد إلى مُلْهِم الصّواب، ومعلِّم الخير، وهادي القلوب، أن يلهمه الصّواب، ويفتح له طريق السّداد، ويدلّه على حكمه الّذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التّوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربّه أن لا يُحرِمَه إيّاه، فإذا وجد من قلبه هذه الهمّة فهي طلائع بشرى التّوفيق، فعليه أن يوجّه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصّواب ومطلع الرّشد، وهو النّصوص من القرآن والسنّة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرّف حكم تلك النّازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التّوبة والاستغفار والإكثار من ذكر اللَّه، فإن العلم نور اللَّه يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النّور أو تكاد، ولا بدّ أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام -قدّس اللَّه روحه- إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فرّ منها إلى التّوبة، والاستغفار، والاستغاثة باللَّه، واللَّجأ إليه، واستنزال الصّواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن مَنْ وفّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظّه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطَّريق والرَّفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحقّ فقد سلك به الصّراط المستقيم، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم"(2).
(1) للباحث محمد خلايفية "تواظف التربية الإيمانية والتربية العاطفية عند ابن قيم الجوزية" وهو أطروحة ماجستير في علوم التربية، قدم لجامعة الجزائر، معهد علم النفس وعلوم التربية، وفيه نقل من كتابنا هذا، ففي (ص 69)(الإخلاص في طلب العلم)، وفي موطن آخر (الغضب وآثاره).
(2)
"إعلام الموقعين"(5/ 67 - 68).
وذكر في (الفائدة الحادية والستين) أن على المفتي أن يكون كثير الدعاء، وذكر أدعية كان يقولها جماعة من السلف، ومن ذلك قوله:"وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة"(1) ثم قال: "والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الرسل والأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فإنه لا يردُّ من صدق في التوجُّه إليه، لتبليغ دينه، وإرشاد عبيده، ونصيحتهم، والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيته ورغبته في ذلك لم يعدم أجرًا، إن فاته أجران، واللَّه المستعان"(2).
وظهرت هذه السمة على وجه واضح عندما وجّه خطابه للمقصّرين والعصاة، فقال مخوّفًا (أهل الحيل) من اللَّه، فذكَّرهم بيوم الدين:
"فحقيق بمن اتّقى اللَّه وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم اللَّه بأنواع الحيل والاحتيال، وأن يعلم أنّه لا يخلصه من اللَّه ما أظهره مكرًا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأنّ للَّه يومًا تكع فيه الرّجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السّرائر، وتظهر فيه الضّمائر، ويصير الباطن فيه ظاهرًا، والسّر علانية، والمستور مكشوفًا، والمجهول معروفًا، ويحصّل ويبدو ما في الصدور، كما يبعثر ويخرج ما في القبور، وتجرى أحكام الربّ -تعالى- هناك على القصود والنيّات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيضّ وجوه بما في قلوب أصحابها من النّصيحة للَّه ورسوله وكتابه، وما فيها من البّرّ والصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والكذب والمكر والاحتيال، هناك يعلم المخادعون أنّهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلّا بأنفسهم وما يشعرون"(3).
ويقول مخوّفًا من يكفّر أو يجهّل العلماء من يفتي في مسألة (اليمين بالطلاق):
"فكيف يحلّ لمن يؤمن بأنه موقوف بين يدي اللَّه ومسؤول أنْ يكفِّر أو يجهّل من يفتي بهذه المسألة ويسعى في قتله وحبسه. . . "(4).
(1)"إعلام الموقعين"(5/ 198).
(2)
"إعلام الموقعين"(5/ 198).
(3)
"إعلام الموقعين"(4/ 74).
(4)
"إعلام الموقعين"(3/ 446).
ويقول في مسألة عدم تحنيث المتأوِّل:
"فلا يحلّ لأحد أن يفرّق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الّذي قلّد فيه بغير حجّة، فإذا كان الرّجل قد تأوّل وققد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحلّ له أن يحكم عليه بأنّه حانث في حكم اللَّه ورسوله ولم يتعمّد الحنث، بل هذه فرية على اللَّه ورسوله وعلى الحالف؛ وإذا وصل الهوى إلى هذا الحدّ فصاحبه تحت الدّرك، وله مقام وأي مقام بين يدي اللَّه يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلّده، واللَّه المستعان"(1).
ويخوف من يفتي بخلاف ما تبرهن عنده من حق نصرةً لمذهبه، فقال:"ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه -سبحانه- أن يفتي السّائل بمذهبه الّذي يقلّده، وهو يعلم أنّ مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا. . . "(2).
وقال أيضًا محذرًا إياه:
"يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده وأقرب إلى الكتاب والسّنة من مذهب إمامه أو مذهب من خالفه، لا يسعه غير ذلك، فإن لم يتمكّن منه وخاف أن يؤدّي إلى ترك الإفتاء في تلك المسألة لم يكن له أن يفتي بما لا يعلم أنّه صواب؛ فكيف بما يغلب عى ظنّه أن الصّواب في خلافه ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا ألبتّة، فإنّ اللَّه سائلهما عن رسوله وما جاء به، لا عن الإمام المعين وما قاله، وإنما يسأل النّاس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقال له في قبره: ما كنت تقول في هذا الرّجل الذي بُعث فيكم؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65] ولا يسأل أحد قطّ عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غيره، بل يسأل عمن اتّبعه وائتمّ به غيره، فلينظر بماذا يجيب؟ وليعدّ للجواب صوابًا"(3).
وقال في موطن آخر:
"وعلى كلِّ حال فلا عذر عند اللَّه يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلّد من نهاه عن تقليده، وقال له لا يحلّ لك أن تقول بقولي إذا خالفَ السّنة،
(1)"إعلام الموقعين"(4/ 511).
(2)
"إعلام الموقعين"(5/ 74).
(3)
"إعلام الموقعين"(5/ 165).