الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا صحّ الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتّى لو لم يقل له ذلك، كان هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلّا اتّباع الحجّة. . . " (1).
ونبّه المصنف على أثر أعمال طالب العلم على قلبه، وحال قلبه على علمه، فقال بعد أن سرد حكم جمع الشريعة بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم:"وهذه أمور إنما يصدّق بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة حكمها، وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقّاها صافية من مشكاة النبوة، وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف"(2).
وأخيرًا، فإن هذه السِّمة يلحظها المحظوظون والموفّقون، وهي لمن استقامت تصوراتُهم، وقويت إراداتُهم، فاستجابوا للحقّ، فجالت في نفوسهم، وعلقت في قلوبهم قوّةٌ عبروا عنها بالأدلة، ورافقها شعور وجداني، وحضور إيماني بأن هذا هو الحق لا سواه، وهو على حدّ ما قاله المصنف في كتابنا:"وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلّم به، فقال: واللَّه! ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أني رأيتُ لكلامه صولةً ليست بصولة مبطل"(3).
سادسًا: بين التواضع والاعتزاز:
كان الإمام ابن القيم مثلًا أعلى في التواضع (4)، يعتقد إنما أوتيه من الفضل والعلم إنما هو محض فضل اللَّه وإكرامه، فيقول -مثلًا- في مستهل حديثه عن الجواب المفصل على أدلة نفاة التعليل:"فنتصدّى للجواب المفصل بحسب الاستعداد، وما يناسب علومنا القاصرة، وأفهامنا الجامدة، وعقولنا الضعيفة، وعباراتنا القاصرة"(5).
وقال عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. . .} [إبراهيم: 24]: "فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر، بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة،
(1)"إعلام الموقعين"(4/ 247).
(2)
"إعلام الموقعين"(2/ 424 - 425).
(3)
"إعلام الموقعين"(1/ 307).
(4)
حده الشرعي: عدم رؤية الفضل على الغير.
(5)
"إعلام الموقعين"(2/ 349).
وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقّي عن اللَّه ورسوله لشاهدنا من معاني كلام اللَّه وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق" (1).
وكرر هذه المعاني في مواطن من كتبه (2).
وهذا لا يتنافى مع ما قدمناه عنه من اعتزازه بعلمه (3)، فإن العالم إذا شدّ النَّفَس، وأتعب البدن، وبذل الجهد في تأصيل مسألة وتقعيدها، أو لمّ شعثها وجزئياتها، فإنه يفرح بذلك، ويعتز، وفخر ابن القيم واعتزازه بالعلم وللعلم، وليس لذاته، ولذا قال بعد بحث مسألة:"فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي روضة أنف، منح العزيز الوهاب فهمها، وله الحمد والمنة"(4) فلم يفخر ويعتز رحمه الله بعلمه، بل في كلامه الأخير تواضع، وأن اللَّه هو الذي فهمه هذا، ولذا قال بعدها:"لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان والمدح، وللَّه الفضل والمنة"(5). فالأمر أكبر من النفوس وحظوظها.
فالفخر والاعتزاز عنده بالحق الذي قامت عليه الدلائل، ليكثُر الخير، ويُنتفع به، وهو يصنع هذا على حد قول علي:"إن هاهنا علمًا لو أصبت له حملة"(6) وعلى نسق طلب يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]، قال ابن القيم:
"فمن أخبر عن نفسه بمثل ذلك، ليتكثر بما يحبه اللَّه ورسوله من الخير، فهو محمود، وهذا غير من أخبر بذلك؛ ليتكثّر به عند الناس ويتعظّم، وهذا يجازيه اللَّه بمقت الناس له، وصغره في عيونهم"(7).
فابن القيم متواضع، ومع تواضعه يفتخر بالحق الذي علمه اللَّه إياه، ورحم اللَّه تلميذه ابن رجب لما قال عنه:"وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله"(8).
(1)"إعلام الموقعين"(1/ 303 - 304).
(2)
انظر -على سبيل المثال-: "حادي الأرواح"(16)، "مفتاح دار السعادة"(1/ 47 و 2/ 273).
(3)
انظر: (تاسعًا) من (المحور الثاني).
(4)
"بدائع الفوائد"(2/ 89).
(5)
"بدائع الفوائد"(2/ 89).
(6)
انظر: تخريجه في التعليق (1/ 38).
(7)
"مفتاح دار السعادة"(1/ 139).
(8)
"ذيل طبقات الحنابلة"(2/ 448).