الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من نصوص الوحيين على وجه فيه تكامل وترابط، فترى النور والإيمان يشع من كلامه، حتى وهو يتكلم في الفقه وأصوله.
ولا ينسى في هذا المقام توظيفه الشعر بما يحمل من معنى رائق، ولفظ فائق لتأكيد اختياراته وتقويتها، ولذا يذكرها غالبًا عرضًا دون عزوٍ لقائلها، ويضعها في مكانها اللائق بها، ولا داعي للتمثيل لكثرتها، ولسهولة الوقوف عليها، إذ خُصّتْ (1) بفهرسة خاصة لها، واللَّه الموفق والهادي.
والملاحظ في أسلوبه: استخدامه أسلوب الحوار في غالب مناقشته لخصومه حتّى يعطي حيوية أكثر للموضوع؛ ويجعل القارئ يتابعه باهتمام وتركيز، ويشعر وكأنّه حضر مجلس مناظرة، وقد تقابل الخصمان، وتبارز الحزبان، فأدلى كلّ منهما بحجّته. وأشهر مثال في هذا المقام قوله في مبحث التقليد:"فصل في عقد مجلس مناظرة، بين مقلِّد وبين صاحب حجَّة منقاد للحقِّ حيث كان"(2). ثم ذكرها.
ومضى فيما نقلناه سابقًا عدة أمثلة على هذا.
ثانيًا: حسن الترتيب واتّساق الأفكار وتسلسلها:
فكما تميز أسلوب ابن القيم بحسن السياق، وإحكام العبارة، فإنه رحمه الله يستفرغ جهده باتساق أفكاره وتسلسلها، وجودة تبويبها، وإتقان ترتيبها وتفصيلها وتقسيمها وتنويعها وتحديدها، وهذا مما ساعد على تيسير مباحث الكتاب، ويجعل قارئه يستفيد منه، ويشدّه إليه شدًّا، ويجنّبه السآمة والملل، إذ لا يحسّ بحواجز بين علم الأصول وما يرتبط به من علوم، كما يجعله يدرك إدراكًا عميقًا أهمية (أصول الفقه) وغايته وثمرته وصلته بنصوص الوحي.
وهذا ينمّ عن قدرة ابن القيم على توظيف (علم الأصول) توظيفًا عمليًا سهلًا بعيدًا عن (التنظير) و (غير الواقعية)، "ولو لم يكن له سوى هذه الميزة لكفاه شرفًا وفخرًا، ولكان ذلك وحده مؤهّلًا كافيًا لتصنيفه ضمن الأصوليين الكبار"(3).
ومن الأمثلة على إتقانه التفصيل والتقسيم والتنويع ما نادى به نظريًا، ولفت إليه نظر المفتي بقوله:
(1) في المجلد (الأخير) الخاص بـ (الفهارس).
(2)
"إعلام الموقعين"(2/ 470 - 574 و 3/ 5 - 36).
(3)
"ابن القيم أصوليًا"(444).
"إذا كان الحكم مستغربًا جدًّا ممّا لم تألفه النّفوس، وإنّما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطّئ قبله ما يكون مؤذنًا به كالدّليل عليه والمقدّمة بين يديه، فتأمل ذكره -سبحانه- قصَّة زكريّا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشَّبيبة وبلوغه السنّ الّذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصَّته مقدَّمة بين يدي قصَّة المسيح وولادته من غير أب؛ فإنّ النّفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سَهُل عليه التّصديق بولادة ولد من غَير أب، وكذلك ذكر -سبحانه- قبل قصَّة المسيح مُوافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبّانه، وهذا الَّذي شجَّع نفس زكريَّا وحرّكها لطلب الولد وإن كان في غير إبّانه، وتأمّل قصَّة نسخ القبلة لمَّا كانت شديدة على النفوس جدًّا كيف وطّأ -سبحانه- قبلها عدة موطئات. . . " ثم ذكرها إلى أن قال: "والمقصود أن المفتي جديرٌ أن يذكر ين يدي الحكم الغريب الذي لم يؤلف مقدّمات، تؤنس به، وتدلّ عليه، وتكون توطئة بين يديه، وباللَّه التوفيق"(1).
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره في مبحث العبرة بالمقاصد والنّيات، حيث وطّأ بين يدي القول الفصل في المسألة بأنَّ اللَّه عز وجل رتَب الأحكام على الإرادات والمقاصد بواسطة الألفاظ الدَّالة عليها، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ لم يقصد المتكلِّم معانيها بل تجاوز للأمّة عن ذلك كلّه وتجاوز لها عمّا تكلّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرَهة أو غير عالمة، لأنّ هذه الأمور لا تدخل تحت الاختيار، فلو رتّب عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقّة.
قال بعدها: "فإذا تمهّدت هذه القاعدة فنقول. . . ". فذكر أقسام الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلّمين وإراداتهم (2).
ومن ذلك أنّه لمّا ذكر أدلّة نفاة القياس أنّ الشريعة قد فرَّقت بين مجتمعين وجمعت بين مفترقين، مهّد للجواب على هذه الشبهة فقال:"وهذه الجملة إنّما تنفصل بعد تمهيد قاعدئين عظيمتين"، ثمّ ذكر القاعدتين: أولاهما أن النّصوص الشّرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين (3). والثانية: ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (4)، في أمثلة كثيرة يصعب حصرها.
(1)"إعلام الموقعين"(5/ 52 - 53).
(2)
"إعلام الموقعين"(3/ 517).
(3)
"إعلام الموقعين"(2/ 90).
(4)
"إعلام الموقعين"(2/ 165)، وما مضى من "القواعد الفقهية المستخرجة"(117 - 118).