المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب: - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ت مشهور - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ نسبة الكتاب لمؤلفه:

- ‌(ضبط اسمه)

- ‌ حجمه:

- ‌ موضوعه ومباحثه:

- ‌ توطئة:

- ‌ رد مؤاخذة، وبيان أمر كلّي على عجالة:

- ‌ فصول نافعة وأصول جامعة في القياس:

- ‌ عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء:

- ‌ هل كتاب "الأعلام" شرح لكتاب عمر في القضاء

- ‌ مباحث كتاب "الأعلام" لغاية إيراد المصنف كتاب عمر في القضاء:

- ‌ مباحث (الفتوى) في الكتاب:

- ‌ الرأي وأنواعه:

- ‌ أصول الإمام أحمد:

- ‌ كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء

- ‌ عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب:

- ‌ إلماحة في رد كون كتابنا شرحًا لكتاب عمر في القضاء فحسب:

- ‌ تحريم الفتوى بغير علم:

- ‌ تفصيل القول في التقليد:

- ‌ وجوب إعمال النصوص:

- ‌ الزيادة على النص:

- ‌ العرف وحجيته:

- ‌ تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:

- ‌ المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات:

- ‌ الحيل:

- ‌ سد الذرائع وتوظيفه للمنع من الحيل:

- ‌ مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد:

- ‌ حجية قول الصحابي:

- ‌ فوائد تتعلق بالفتوى:

- ‌ فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ أمور جملية لا بد منها:

- ‌ جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب:

- ‌مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا

- ‌ توطئة:

- ‌ كتب البيهقي:

- ‌ كتب الشافعي:

- ‌ كتب الشافعية:

- ‌ كتب الحنفية:

- ‌ كتب المالكيّة:

- ‌ كتب الإمام مالك

- ‌ شروح "الموطأ

- ‌ كتب ابن عبد البر الأخرى:

- ‌ كتب المالكية الفقهية الأخرى:

- ‌ كتب الإمام أحمد والحنابلة:

- ‌ كتب الإمام أحمد ومسائل أصحابه له:

- ‌ معرفة المصنف لمذهب أحمد وإعجابه به:

- ‌ كتاب "الجامع الكبير" للخلال:

- ‌ كتب القاضي أبي يعلى الفراء:

- ‌ كتب ابن القاضي أبي يعلى:

- ‌ كتب أبي الخطاب الكلوذاني:

- ‌ كتب الحنابلة الأخرى:

- ‌ كتب فقهية أخرى:

- ‌ فتاوى بعض السلف:

- ‌ كتب ابن المنذر:

- ‌ كتب أخرى:

- ‌ كتب ابن حزم:

- ‌ كتب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام:

- ‌ كتب الفتوى:

- ‌ كتب أصول الفقه:

- ‌ كتب الحيل:

- ‌ كتب التفسير:

- ‌ كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ:

- ‌ كتب التوحيد والعقائد:

- ‌ موارد المصنف الحديثية:

- ‌ الصحف والنسخ الحديثية

- ‌ دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم):

- ‌ السنن:

- ‌ المسانيد والمعاجم:

- ‌ كتب أحاديث الأحكام وشروحها:

- ‌ كتب العلل:

- ‌ كتب مسندة تعتني بالأحاديث وآثار السلف:

- ‌ كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل:

- ‌ المصادر الشفهية وما في حكمها:

- ‌ بين المصنّف وشيخه ابن تيمية:

- ‌منهج ابن القيم في كتابه

- ‌المحور الأول: الاستدلال والاستنباط:

- ‌ وجوب ذكر الدليل والتحقق من صحته:

- ‌ معنى كتاب اللَّه عند ابن القيم

- ‌ منزلة القرآن والسنة من الاستنباط:

- ‌ ضرورة الاحتجاج بالسنّة:

- ‌ الاحتجاج بالصحيح من السنة دون الضعيف:

- ‌ مؤاخذات حديثيّة على المصنّف:

- ‌ تقديم الأدلة النقلية على غيرها:

- ‌الاستدلال بالنظر والقياس الصحيح والمعقول:

- ‌ عمل أهل المدينة:

- ‌ أقسام العمل عند ابن القيم:

- ‌ الاستصحاب:

- ‌ كلمة في حجية القياس:

- ‌ الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال:

- ‌ عنايته بمحاسن الشريعة وحِكَمها

- ‌ ابن القيم ومقاصد الشريعة:

- ‌المحور الثاني: التفصيل والتأصيل والتحليل والاستيعاب وطول النَّفس مع التكامل والانسجام:

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌ثامنًا:

- ‌تاسعًا:

- ‌المحور الثالث: الإنصاف والأمانة والتقدير والموضوعية والترجيح:

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌المحور الرابع: طريقته في العرض وأسلوبه في البحث:

- ‌أولًا: أسلوبه الأدبيُّ:

- ‌ثانيًا: حسن الترتيب واتّساق الأفكار وتسلسلها:

- ‌ثالثًا: التكرار:

- ‌رابعًا: الاستطراد

- ‌خامسًا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني

- ‌سادسًا: بين التواضع والاعتزاز:

- ‌الجهود المبذولة في كتابنا هذا

- ‌ أهمية الكتاب وفائدته:

- ‌ أثر الكتاب في مؤلفات ودراسات من بعده:

- ‌الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية:

- ‌ النسخة الثالثة:

- ‌ النسخة الرابعة:

- ‌أشهر طبعات الكتاب وتقويمها:

- ‌ تقويم الطبعات التي وقفت عليها وعملي في هذه النشرة والدافع لها:

- ‌ ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في الطبعات السابق ذكرها:

- ‌ طبعة عبد الرحمن الوكيل

- ‌ طبعة دار الجيل

الفصل: ‌ جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب:

التصوف وإشاراتهم ودقائقهم له في كل فن من الفنون اليد الطولى والمعرفة الشاملة" (1)، ونقله صديق حسن خان وزاد:

"وكان عالمًا بالملل والنحل، ومذاهب أهل الدنيا علمًا أتقن وأشمل من أصحابها"(2).

وقد أقر كبار العلماء من المفسرين والمحدثين والمحققين البارزين والأتقياء الصالحين سلفًا وخلفًا بفضل شيخ الإسلام ابن القيم ونبوغه وتفوقه وعبقريته في الذكاء وسعة الاطلاع والذاكرة الحادة ودقة النظر وقوة الاستنباط وملكة الاجتهاد وبما فيه من دواعي الإصلاح والتجديد والاجتهاد وأدواته وحرية الفكر والعمل وإصابة الرأي واتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما والاعتماد عليهما وغيرها من الخصائص والميزات، كما اعترفوا بزهده وورعه وتقواه وتفانيه في اللَّه وإخلاصه وغيرته على دين اللَّه والحمية الدينية، وأشادوا بخدماقه ووجهوا تحية تقدير واحترام إليه.

الثاني: قرأ المصنف على مجموعة من الشيوخ كتبًا فقهية وأصولية مهمة، استفاد منها في كتابنا، فقرأ -مثلًا- "المقنع" و"مختصر الخرقي" على الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، وأخذ الفرائض أولًا عن والده، وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل المذكور، وقرأ عليه أكثر "الروضة" لابن قدامة، وقرأ على ابن تيمية قطعة من "المحرر"، وقطعة من "المحصول" ومن كتاب "الأحكام" للآمدي، وعلى الصفي الهندي أكثر "الأربعين" و"المحصل" وقرأ قطعة من الكتابين على ابن تيمية أيضًا، وكثيرًا من تصانيفه (3).

*‌

‌ جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب:

الثالث: قامت محاولات في التعريف بموضوع الكتاب من قبل العلماء والمطّلعين (4)، وعلى رأسهم: الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله

(1)"ذيل طبقات الحنابلة"(2/ 448).

(2)

"أبجد العلوم"(3/ 139).

(3)

"أعيان العصر"(4/ 366 - 367)، و"الوافي بالوفيات"(2/ 195)، و"الدرر الكامنة"(3/ 400 - 401)، و"البدر الطالع"(2/ 143)، و"أبجد العلوم"(3/ 139)، وانظر ما سيأتي عن مصادر المصنف.

(4)

حصر صاحب "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين"(ص 87 - 89) موضوع الكتاب في الفتيا، فقال بعد كلام: "وبعد هذا العرض المفصَّل لأهم فصول الكتاب يظهر لنا جليًا موضوعه، فهو يتناول أصول الفتيا وأدواتها وشروطها، وآداب =

ص: 75

تعالى- وسيأتي كلامُه تحت (الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه) تحت وصف (النسخة الثالثة) المرموز لها بـ (ن)، إذ أثبت ناسخها كلامًا مجملًا حسنًا له في ذلك.

ومن بين هؤلاء صاحب كتاب "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة"، قال عنه (ص 40):"ليس خاصًا في أصول الفقه، إلا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول"، وقال (ص 41 - 42):

"أما كتاب "إعلام الموقعين" فقد ذَكَرَ فيه ابن القيم مباحث أصولية مهمة أفاض الكلام عليها. فمن هذه المباحث:

القياس، الاستصحاب، التقليد، الزيادة على النص، قول الصحابي، الفتوى، دلالة الألفاظ على الظاهر، سد الذرائع وتحريم الحيل، ليس في الشريعة ما يخالف القياس.

وهناك مباحث أخرى نفيسة ازدان بها هذا الكتاب. فمن ذلك:

* ذكر أئمة الفتيا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

* شرح خطاب عمر رضي الله عنه في القضاء.

* أنواع الرأي المحمود والمذموم.

* مسائل في الطلاق والأيمان.

* فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة وفي الأبواب الفقهية.

* أمثلة على الحيل المباحة والباطلة.

* أمثلة على رد المحكم بالمتشابه.

* أمثلة على رد السنن بظاهر القرآن.

وقد امتاز هذا الكتاب بكثرة الأمثلة الفقهية على عدد من المسائل الأصولية، وامتاز أيضًا ببيان حكمة التشريع ومقاصد الشريعة، إضافة إلى حسن البيان وجمال الأسلوب، كما أن الكتاب جامعٌ لكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، وفيه نُقُولٌ مطوَّلة مهمة عن بعض الأئمة.

فهو بذلك غاية في منهج أهل السنة والجماعة وعمدة في بيان طريقة السلف.

= المفتي والمستفتي، وطبقات المفتين، وتحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرأي المخالف للنصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص"! قلت: والكتاب أوسع من ذلك، فهذه المباحث -كما تقدم معنا- هي مطالع وخواتيم الكتاب فحسب، واللَّه الهادي.

ص: 76

والكتاب يحتاج إلى تخريج آثاره وفهرسة مباحثه ومطالبه، وحقيقٌ بدراسة تبرز محاسنه وتُفْصح عن منهج مؤلفه ومصادره فيه ومقاصده منه.

قلت: ستأتي (ميزات) كتابنا هذا بالتفصيل، وأرجو أن أكون قد قمت بما يحتاجه هذا الكتاب من خدمة لائقة به، واللَّه الموفق للخيرات، والهادي للصالحات.

وللشيخ محمد رشيد رضا كلمة جامعة في التعريف بالكتاب، قال رحمه اللَّه تعالى:

"لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى، وما يتعلق بذلك، كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام"(1).

ووجدت مقالة بعنوان: "ابن القيم وإعلام الموقعين"(2)، للكطيف أحمد، استعرض فيه بعض مباحث "الأعلام" وهذا نصه كلامه:

"بعد تقديم خطبة الكتاب، بدأ المؤلف بإبراز ما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون المسلمون، وهو "العلم النافع، والعمل الصالح" اللذان لا سعادة للعبد إلَّا بهما، واللذان بسببهما انقسم الناس إلى: مرحوم ومحروم، ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا كان أفضل العلوم هو التوحيد، ولا سبيل إلى اقتباسه إلَّا من حياض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي يكون التلقي منه على نوعين: بواسطة، وبدون واسطة، فالذين تلقوا عنه بلا واسطة هم أصحابه رضوان اللَّه عليهم، والذين يجب ألَّا يحيد عن طريقهم من يختار نهج اللَّه. . والذين تلقوا عنه بواسطة هم الفقهاء.

بعد ذلك قدم المؤلف جملة فصول كل منها يتناول قضية من القضايا الإسلامية التي يجب على المسلم الاطلاع عليها، منها:

كلام التابعين في الرأي -كلام السلف- آراء في الرأي المحمود -الصلح جائز بين المسلمين. . بيان أهل الهدى وأهل الضلالة- بيان أسرار آيات القرآن. . وسوف أركز على فصل في الجزء الثاني خاص بالتقليد والمقلدين".

(1) مجلة "المنار" عدد شوال، 1327 - (ص 786)(المجلد 12).

(2)

منشورة في مجلة "الأمة" القطرية، عدد جمادى الآخرة سنة 1402 هـ، العدد الثامن عشر، السنة الثانية (ص 72 - 73).

ص: 77

ثم قال تحت عنوان: (بطلان التقليد):

"ركز ابن القيم تركيزًا كبيرًا على عدة مسائل منها: محاربة التقليد، ومنع الحيل في الأحكام. . وقد واجه القضية الأولى مواجهة علمية فذة، وبحثها بحثًا مستفيضًا لم يسبقه إليه أحد من فقهاء المذاهب جميعًا، إذ عقد في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فصلًا مطولًا بلغ أكثر من سبعين صفحة، وساق إحدى وثمانين حجة من المنقول والمعقول في تأييد ما ذهب إليه من بطلان التقليد، وخلص إلى القول بأن التقليد الذي يحرم القول فيه والإفتاء به ثلاثة أنواع:

- الإعراض عما أنزل اللَّه، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

- تقليد من لا يعلم المقلِّد أنه أهل لأن يُؤْخَذَ بقوله.

- التقليد بعدم قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلِّد.

وقد ذم اللَّه سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه. فقال:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والتقليد ليس بعلم. وقوله تعالى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} [الأحزاب: 67].

وما دام التقليد بكل أنواعه باطلًا، فيبقى التسليم والرجوع إلى الأصول وهي: الكتاب والسنة وما كان في معناهما. . والابتعاد عن التأويلات التي لا تستند إلى أي أثر، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني لا أخاف على أمتي من بعدي، إلَّا من أعمال ثلاثة؛ قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: أخاف عليهم زلة عالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع".

وقد جمع المصنفون في السُّنَّة بين فساد التقليد وإبطاله، وبين زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزلّ ولا بد، إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، ويُنَزَّلُ قوله منزلة قول المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير عن أبيه عن جده مرفوعًا: "اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيأته". . وقال عبد اللَّه بن المعتز:

ص: 78

"لا فرق بين بهيمة تنقاد، وبين إنسان يقلد".

وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقال الشافعي:"مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري" ذكره البيهقي.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "لا يحل لأحدٍ أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه".

وهكذا سلك الإمام ابن القيم في طرحه لإشكالية التقليد منهجًا علميًا، إذ قدم المعطيات كما هي، متحليًا بما يجب أن يكون عليه العالم الحقيقي، المزود بثقافة شمولية واستقلال في الرأي من تجرد، ثم ناقش كل واحدة على حدة، مستدرجًا محاوريه إلى الاقتناع بوجهة نظره، والتسليم ببطلان الجمود الفكري، بل بتناقض المقلدين فيما يأتون به من حجج، حيث يصورهم (خشبًا مسندة) ليس لها شخصية، بل هي ظلال لغيرها، تجتر الأفكار، وتسلك النهج السهل، بل تتجرأ -من حيث لا تدري- فتخالف أمر اللَّه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، فاللَّه أمر برد ما تنازع عليه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نردُّه إلى من قلَّدناه. وقد ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" وهو ذم للمختلفين، وتحذير من سلوك سبيلهم .. وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله؛ وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعًا".

ثم ختم مقاله بعنوان (دروس من ابن القيم) قال فيه:

"من هذه القراءة السريعة يمكن أخذ الدروس الآتية من الإمام ابن قيم الجوزية وهي:

- الإسلام ضد التقليد الأعمى.

- تراثنا الإسلامي نابض بالحياة، وقابل للأخذ والعطاء.

- يجب محاصرة الخلاف، والدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي.

- يجب التجنيد في سبيل الدعوة الإسلامية قولًا وعملًا.

- الدفاع عن قضايانا بطرق تربوية مرنة بعيدًا عن كل تشنج وعصبية.

- الرجوع بالأمة الإسلامية إلى الصفاء الروحي الأول: القرآن، والسنة، مقتدين بمعاذ بن جبل حين سأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن: "كيف تصنع إن

ص: 79

عرض عليك قضاء؟ " قال: أقضي بما في كتاب اللَّه. قال: "فإن لم يكن في كتاب اللَّه؟ " قال: فبسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: "فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه؟ " قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: "الحمد للَّه الذي وفق رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

فلنحاول أن نسلك هذا النهج القويم، وأن نرضي اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، مبتعدين عن الخلافات والشبهات، مرددين قوله تعالى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] " انتهى كلامه (1).

ثم ظفرتُ بكلمة لسعاد مسلَّم حماد في أطروحتها الماجستير "منهج ابن القيم في دراسة الأديان"(2)، عرفت بكتابنا هذا بقولها:

"إعلام الموقعين عن رب العالمين" مجلدان في أربعة أجزاء تناول ابن القيم في هذا الكتاب الأصول التي يجب أن يعتمد عليها المسلمون في فتواهم، وطريقة الصحابة في الإفتاء، ثم تناول الشروط الواجبة فيمن يبلِّغ عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم تناول الأصول التي أقام عليها الأئمة فتواهم وطريقتهم في الإفتاء، كذلك تناول كل أصل من أصول الإفتاء بالتفصيل، وتناول مسائل فقهية تناولها لأئمة المسلمين من قبله، وبين فيها أحكامهم من خلال ما اعتمدوا عليه من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

من هذه المسائل: الزواج والطلاق والطهارة والحج والميراث والزكاة والأيمان والبيوع.

ثم ذكر فتاوى الرسول صلى الله عليه وسلم في العقيدة وكل الأمور التي تهم المسلمين في حياتهم.

ويعتبر هذا الكتاب من المؤلّفات الثرية بآراء ابن القيم في الفتوى والاجتهاد ويتضح فيه منهجه الذي يسير عليه، ويدعو إليه جميع المسلمين خاصة من يقوم بالإفتاء إلى أن يجعل كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما الأساس الذي يجب أن يعتمد عليه، وبالإضافة إلى ذكره لمذاهب أئمة المسلمين الذين ساروا على نهج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصحابته.

(1) عليه مؤاخذات. وهو تعريف ضعيف، بعيد عن لغة العلم. وفيه ظلم لمادة الكتاب!

(2)

المقدَّمة إلى جامعة عين شمس، قسم الدراسات الفلسفية، كلية البنات (ص 16).

ص: 80

وقد وضح الإمام ابن القيم شروطًا لمن يبلغ عن اللَّه ورسوله منها: العلم والصدق، لأنه لا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق وحسن طريقة عرض السيرة، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق.

وأول من تحققت فيه هذه الشروط هو: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان الهدف من هذا الكتاب عند ابن القيم هو التأويل الصحيح لأحكام اللَّه بناءً على النصوص من كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة، والخبر المتواتر ثم القياس للضرورة، وبين خطر التقليد والقول بالرأي القائم على الهوى دون اعتماد على كتاب اللَّه وسنة رسوله".

ومن الكلمات الجوامع في التعريف بهذا الكتاب ما قاله الدكتور صبحي محمصاني في كتابه "المجاهدون في الحق"(1) عند ذكره ابن القيم، قال بعد كلام:

"المهم أن نشير إلى اجتهاد ابن القيم في مسائل المعاملات الشرعية، وإلى نواحي التجدد في اجتهاده. ونحن نرى أنه كان من طبقة المجتهدين في المذهب الحنبلي، ونرى أنه برهن في ذلك على نظر ثاقب، وتفكير صائب. فاعتمد على روح الشريعة الحقيقية، وعلى حكمتها العادلة. فقال في بعض المسائل أقوالًا جريئة، لم يقل بها أحد قبله ولا بعده من الفقهاء المسلمين. وتوسع في مسائل أخرى توسعًا، يدل على مرونة الشريعة، وعلى مسايرتها للتطور والمدنية. فوصل بالنتيجة إلى تحليلات ونظريات، شبيهة بالنظريات القانونية العصرية.

ونحن لا نرى مجالًا لإيضاح جميع نظرياته وآرائه الفقهية. إنما نكتفي، على سبيل المثال، بتلخيص ما قاله في بعض المسائل المهمة الحساسة، لأجل تبيين النهج العلمي، الذي اتبعه، والنحو العادل الذي انتحاه، ولأجل إثبات أن ما وصل إليه هذا الفقيه المجدد في بعض المسائل، وهو من اتباع المذهب الحنبلي الذي اشتهر بالمحافظة الشديدة، لم يصل إليه اتباع مدرسة أهل الرأي ولا مؤسسها الإمام الأعظم.

وأهم المسائل التي أرى تلخيصها في هذا المعرض هي: محاربة التقليد والجمود، واعتماد القصد في التصرفات، وحرية التعاقد، ومنع الحيل في الأحكام، وإحياء أعمال الفضولي المحسن، والمحافظة على حقوق الغرماء، والتوسع في قواعد البينات. وإني أعتمد في هذا التلخيص، بوجه خاص، على كتاب "إعلام الموقعين"".

(1)(ص 170 - 171، 191 - 192).

ص: 81

ثم تكلم على هذه المسائل بإفاضة وتفصيل، وقال تحت عنوان (الخلاصة):

"نحن نستبين مما تقدم أن ابن قيم الجوزية لم يكن من الفقهاء العاديين. بل كان من النوابغ، الذين نظروا إلى الشريعة الإسلامية على حقيقتها، والذين تحروا عن مقاصدها وغاياتها، وتمسكوا بها غير مبالين بما قاله غيرهم.

وعلى هذا حارب ابن القيم التقليد الأعمى، والجمود والخرافات الشكلية، والتفصيلات الآرائية، ودقق في الاجتهاد. فاعتبر المقاصد أساسًا للحكم في تصرفات الناس ومعاملاتهم، وأفتى بتحريم التحيل على الشرع، وتوسع في أصول المحاكمات وطرق البينات.

فتوصل بذلك كله إلى نظريات عصرية، كنظرية المنفعة في أعمال الفضولي، ومبدأ حرية التعاقد، ومبدأ تقدير قيمة الشهادات، وعدم تجزئة الإقرار، وفسخ عقود المديون المضرة، ومبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان والأمكنة والأحوال، وما شابه من النظريات والمبادئ، التي لا نراها اليوم إلا في أحدث الشرائع. وذلك كله في زمن سابق لها بعدة قرون.

وما هذا كله إلا دليل من الأدلة الكثيرة، على أن الشريعة الإسلامية تحوي من الأسس القويمة، ما جعلها تماشي المدنية في الماضي، وما يجعلها اليوم قابلة لأن تساير كل تطور في الحاضر والمستقبل. وإذا كان الأمر على عكس ذلك، في وقت من الأوقات، فلم يكن مرده إلا إلى جمود بعض المتأخرين، وإلى تقصيرهم في تفهم معاني الشريعة الحقيقية، كما يجب أن تفهم، وكما فهمها أمثال شمس الدين أبي عبد اللَّه ابن قيم الجوزية".

قال أبو عبيدة: نستطيع أن نقرر بكل أريحية من خلال العرض السابق: أن لابن القيم في كتابه هذا اختيارات أصولية وفقهية كثيرة، تدل على اطلاع غزير، وأفق واسع، وإدراك لمصالح الناس، ولبّ الفقه والشريعة، وهو بهذا مصلح ومجدد (1)، ورحم اللَّه صديق حسن خان لما قال عنه وعن شيخه ابن تيمية:

"وقد جدد اللَّه بهما الدين الحنيف، والأعمال القيمة العظيمة التي قام بها

(1) ترجم الأستاذ عبد المتعال الصَّعيدي في كتابه "المجددون في الإسلام"(ص 229 - 232) للإمام ابن القيم، وأخذ عليه أنه حارب علم الفلسفة: ولم يظهر -كعادته في كتابه- أوجه التجديد الحقيقية عند ابن القيم، وغمز فيه بما حقّه المدح، وليس هذا موطن البسط، وتكفي هذه الإشارة للمعتنين بعلم السلف ومنهجهم، واللَّه الهادي والواقي.

ص: 82

الشيخان لم يعهد مثلها لا من السلف ولا من الخلف، وقد شحنت الكتب والدواوين والسجلات والوثائق التاريخية وكتب السير من ذكر مآثر هؤلاء" (1).

ولا يمكن لأحدٍ ينظر في كتابنا هذا، أن ينكر الجهود التي بذلها ابن القيم في خدمة الفقه، ومنزلته الرفيعة في ذلك، ودقة فهمه، وحدة ذهنه، وسعة معرفته، بل نستطيع أن نقرر من خلال كتابنا هذا أنه رحمه الله أحيا مدرسة الحديث والسنة في عصره، وأحيا الاجتهاد، والرجوع إلى النصوص الشرعية، وتحكيم الدليل، فلم يكتف بالهجوم على التقليد المتعصب فحسب، بل زاول الاجتهاد، ورجّح المسائل غير مكترث لمخالفة الكثرة مستعملًا أصول السلف فلم يخترع للمسائل التي اجتهد فيها أصولًا جديدة، بل استطاع أن يطبق أصول السلف وينزع عنها أحكامًا للقضايا المستجدة، ويمكن أن نردد مع مالك بن نبي قوله عنه وعن شيخه ابن تيمية:"قدما الترسانة (!!) الفكرية التي استمدت منها كل الحركات الإسلامية التي جاءت بعده".

(1)"حجج الكرامة في آثار القيامة"(ص 136 - 137).

ص: 83