الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبيَّن أن "أصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللَّه ورسوله بكلامه، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل"(1) وبيّن أن فساد الأديان السابقة إنَّما وقع بالتأويل (2)! وذكر (دواعي التأويل) وبعض (آثاره)، وسرد الشرور التي وقعت في الأمة على وجه استقرائي، ورد ذلك كله إلى (التأويل) المذموم، ثم ذكر أمثلة له.
-
فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم
-:
وختم كتابه بسرد فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم (3)، فقال في (5/ 209):
"ولنختم الكتاب بذكر فصولٍ يسيرٍ قدرها، عظيم أمرها من فتاوى إمام المفتين، ورسول رب العالمين، تكون روحًا لهذا الكتاب، ورَقْمًا على جلة هذا التأليف" فبدأ بفتاوى في العقيدة، ثم بالفقه: الطهارة، والصلاة وأركانها، وبالموت والموتى (الجنائز)، والزكاة، والصوم، وقال عنها في (5/ 300):"فللَّه ما أجلَّ هذه الفتاوى! وما أحلاها! وما أنفعها! وما أجمعها لكل خير! فواللَّه! لو أن الناس صرفوا همهم إليها؛ لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، واللَّه المستعان".
ثم ذكر فتاوى الصوم، والحج، وفتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن، وفتاوى في بيان فضل بعض الأعمال (4)، وفتاوى في الكسب والأموال، وإرشادات لبعض الأعمال، وفتاوى في أنواع البيوع، وفتاوى في الرهن والدين، وفتاوى في تصدُّق المرأة، وفي مال اليتيم، واللقطة، والهدية وما في حكمها، والمواريث، والعتق، والزواج، وأحكام الرضاع، والطلاق، والخلع، والظهار، واللعان، والعِدَد، وثبوت النسب، والحداد، ونفقة المعتدة وكسوتها، والحضانة ومستحقِّيها، وجرم القاتل وجزائه، والديات، والقسامة، وحد الزنى، وأثر اللوث، والعمل بالسياسة، وساق تحته كلامًا يرحل إليه، ومما قال بعد كلام:
"قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعترك
(1) انظر: (5/ 187).
(2)
انظر: (5/ 187 - 188).
(3)
قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل"(2/ 919): "وقد اعتنى من علمائنا الحنابلة: الإمام ابن القيم رحمه الله فجمع فتاوى إمام المفتين نبيّنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في خاتمة كتابه "إعلام الموقعين"، وطبعت مفردة".
(4)
انظرها أيضًا في: (5/ 406 - 409).
صعب فَرَّطَ فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أُوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها فلما رأى وُلَاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان فذلك من شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته، وأماراته في نوع واحد ويبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرف أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي شَرْعِهِ سبيل للدلالة عليها وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟
ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي وإلا فإذا كانت عَدْلًا فهي من الشرع" (1).
وساق أمثلة عديدة مليحة على السياسة العادلة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة خلفائه الراشدين ومن بعدهم (2)، ثم قال (5/ 517):
"وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل
(1) انظر: (5/ 512 - 513).
(2)
انظر: (5/ 513 - 517).
السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد؛ فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحدٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى مَنْ يبلّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومات محفوظات لا يتطرق إليها تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليه وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به".
ثم قال بعد ذلك (5/ 518 - 519) عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
"وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولم يحوجهم اللَّه إلى أحد سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصةٌ تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَق اللَّه له أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم الذين اكتفوا بما جاء به واستغنوا به عما سواه وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر صلى الله عليه وسلم يمنع من الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فاللَّه المستعان".
وقال أيضًا (5/ 519):
"وياللَّه العجب كيف كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى اللَّه بنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟ أهل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم باللَّه وأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه منهم؟ فواللَّه لأن يَلقى اللَّه عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل".