الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عطية: إن البهائم كلها يتوفى الله تعالى أرواحها دون ملك الموت، كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أن لهم نوع شرف بتصرف ملك الموت والملائكة معه في قبض أرواحهم. انتهى.
12
- والخطاب في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، وقال في "الكواشي":{لو} و {إذ} للماضي ودخلتا على المستقبل هنا؛ لأن المستقبل من فعله تعالى كالماضي، لتحقق وقوعه، و {لو} امتناعية، جوابها: محذوف، والمراد بالمجرمين: هم القائلون: {أَإِذَا ضَلَلْنَا} إلخ، أو عام لكل مجرم، والرؤية بصرية.
والمعئى: ولو ترى يا محمد إذ المجرمون القائلون: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ
…
} إلخ.
{نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ؛ أي: مطرقوا رؤوسهم ومطأطئوها في موقف العرض على الله من الحياء والحزن والغم.
وقرأ زيد بن علي: {نكسوا رؤوسهم} فعلًا ماضيًا ومفعولًا، وقرأ الجمهور: باسم فاعل مضافًا، حالة كونهم يقولون:{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} ؛ أي: صرنا ممن يبصر ويسمع، وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والمسموعة، وكنا من قبل عميًّا لا ندرك شيئًا {فَارْجِعْنَا}؛ أي: فارددنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ} عملًا {صَالِحًا} حسبما تقتضيه تلك الآيات {إِنَّا مُوقِنُونَ} الآن صدق الرسول، ومؤمنون بك وبكتابك، وجواب {لو}: محذوف كما مر، تقديره: لرأيت أمرًا عجيبًا، وشأنًا فظيعًا، فهذا (1) الأمر مستقبل في التحقيق، ماض بحسب التأويل، كأنه قيل: قد انقضى الأمر ومضى، لكنك ما رأيته، ولو رأيته لرأيت أمرًا فظيعًا.
13
- قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} مقول لقول محذوف، معطوف على قول مقدر قبل قوله:{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} تقديره: ونقول ردًا لقولهم ذلك: ولو شئنا؛ أي: ولو تعلقت
(1) روح البيان.
مشيئتنا وإرادتنا تعلقًا فعليًا، بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمان، والعمل الصالح بالتوفيق لها، {لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}؛ أي: لأعطيناها إياه في الدنيا، التي هي دار الكسب، فلم يكفر منهم أحد، وما أخرنا ذلك الإعطاء إلى دار الجزاء.
قال النحاس في معنى هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة؛ أي: ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا. اهـ.
{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ؛ أي: ثبت قضائي، وسبق وعيدي، وهو {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لأجعلن نار جهنم ملأى {مِنَ الْجِنَّةِ} بالكسر، جماعة الجن، والمراد: الشياطين وكفار الجن {و} من {النَّاسِ} الذين اتبعوا إبليس في الكفر والمعاصي {أَجْمَعِينَ} يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر، هذا (1) هو القول الذي وجب من الله، وحق على عباده، ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول: أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا؛ لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم مما يختار الضلالة على الهدى؛ أي: ولولا ذلك .. لأكرمت كل نفس بالمعرفة والتوحيد.
وقال بعضهم (2): {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ؛ أي: سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ
…
} الآية. {لَأَمْلَأَنَّ
…
} إلخ. وفي "التأويلات النجمية": {وَلَوْ شِئْنَا} في الأزل هدايتكم وهداية أهل الضلالة {لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} بإصابة رشاش النور على الأرواح {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} قبل وجود آدم وإبليس {لَأَمْلَأَنَّ} إلخ؛ أي: ولكن تعلقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلقت بإهداء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطان، كما أردنا أن يكون للجنة سكان، إظهارًا لصفات لطفنا، وصفات قهرنا؛ لأن الجنة وأهلها مظهر لصفات لطفى، والنار وأهلها مظهر لصفات قهري، وإني فعال لما أريد. انتهى.
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
فإن قلت (1): لم قدم الجن على الإنس في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ؟
قلت: قدمها لأن المقام مقام تحقير، ولأن الجهنميين منهم أكثر فيما قيل، ولا يلزم من قوله:{أَجْمَعِينَ} دخول جميع الإنس والجن فيها، لأنها تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، فالمعنى: لأملأنها من ذينك النوعين جميعًا، كما ذكره بعض المحققين، ورد: بأنه لو قصد ما ذكر .. كان المناسب التثنية دون الجمع، بأن يقول: كليهما، فالظاهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف فيهما للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده قوله في آية أخرى خطابًا لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} ، فتأمل.
ومعنى الآيتين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
…
} إلخ؛ أي (2): ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا في الأرض أننا لفي خلق جديد، ناكسي رؤوسهم عند ربهم، حياءً وخجلًا منه لما سلف منهم، من معاصيهم له في الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول، وصدقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال .. لرأيت أمرًا فظيعًا، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
ثم ادعوا اطمئنان قلوبهم حينئذٍ، وقدرتهم على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله:{إِنَّا مُوقِنُونَ} ؛ أي: إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالًا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيي وتميت، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء، ونحو الآية قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا
…
} الآية.
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ؛ أي: ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما
(1) الفتوحات.
(2)
المراغي.