المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه .. لم يكن عليك - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٢

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه .. لم يكن عليك

لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه .. لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.

وفي الحديث: "من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه .. فالجنة عليه حرام".

{وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا} ؛ أي: ستارًا لذنب من ظاهر زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنًا له، إذا تابا ورجعا إلى أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل، بعد أن نهاهما - {رَحِيمًا} بهما بقبول توبتهما، فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.

فالمغفرة (1): هو أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، والرحمة: هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه، لا لعوض.

‌6

- ثم ذكر سبحانه لرسوله مزيةً عظيمةً، وخصوصيةً جليلةً لا يشاركه فيها أحد من العباد، فقال: النبي محمد صلى الله عليه وسلم {أَوْلَى} ؛ أي: أرأف وأشفق وأحرس {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ؛ أي: النبي أشد (2) ولايةً ونصرةً لهم من أنفسهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم في دنياهم وآخرتهم، أما النفس، فإنها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع.

روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نشاور آباءنا وأمهاتنا فنزلت.

والمعنى (3): النبي صلى الله عليه وسلم أحرى وأجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من أمور الدين والدنيا، كما يشهد به الإطلاق على معنى أنه لو دعاهم إلى شيء ودعتهم نفوسهم إلى شيء آخر .. كان النبي أولى بالإجابة إلى ما يدعوهم إليه من

(1) المراح.

(2)

المراغى.

(3)

روح البيان.

ص: 417

إجابة ما تدعوهم إليه نفوسهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نجاتهم وفوزهم، وأما نفوسهم فربما تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وبوارهم، كما قال تعالى حكايةً عن يوسف الصديق عليه السلام:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فيجب أن يكون عليه السلام أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وآثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعولها فداءه في الخطوب والحروب، ويتبعوه في كل ما دعاهم إليه، ويجعلوه مقدمًا على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} .

وخلاصة ذلك: أنه تعالى علم شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وفي الحديث:"ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة"؛ أي: في الشفقة من أنفسهم ومن آبائهم، وفيه أيضًا:"مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يذب عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي". وفيه أيضًا: "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين".

قال في "الأسئلة المقحمة": وفي الآية إشارة إلى أن اتباع الكتاب والسنة أولى، من متابعة الآراء والأقيسة، حسبما ذهب إليه أهل السنة والجماعة.

وقيل (1): المراد بـ {أَنْفُسِهِمْ} في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل: هي خاصة بالقضاء؛ أي: هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم، وقيل: أولى بهم في الجهاد بين يديه، وبذل النفس دونه، والأول أولى.

{وَأَزْوَاجُهُ} ؛ أي: زوجاته صلى الله عليه وسلم {أُمَّهَاتُهُمْ} ؛ أي: مثل أمهاتهم، ومنزلات منزلتهن في التحريم والاحترام والتوقير والإكرام، فلا يحل لأحد منهم أن يتزوج

(1) الشوكاني.

ص: 418

بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج أمه كما قال تعالى:{وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، والميراث، فهن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ولا الخلوة بهن، ولا المسافرة معهن، ولا يرثن المؤمنين، ولا يرثونهن.

ثم إن (1) حرمة نكاحهن من احترام النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه واجب على الأمة، وتخصيص التحريم بهن، يدل على أنه لا يتعدى إلى عشيرتهن فلا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، ولهذا قال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل: هي خالة المؤمنين.

وقال القرطبي: الذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيمًا لحقهن على الرجال والنساء، كما يدل عليه قوله:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً قال: ثم إن في مصحف أبي بن كعب: {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم} ، وقرأ ابن عباس:{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم} .

قيل: كن (2) أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق: إن امرأة قالت لعائشة: يا أمه، فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، فبان بذلك أن معنى الأمومة: إنما هو تحريم نكاحهن.

وظاهر قوله (3): {وَأَزْوَاجُهُ} : عموم كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله عليه وسلم؛ أي: سواء دخل بهن أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وقيل: لا يثبت هذا الحكم لطلقة، وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعًا.

(1) روح البيان.

(2)

الخازن.

(3)

البحر المحيط.

ص: 419

وفي "فتح الرحمن": وإنما (1) جعلهن الله كالأمهات، ولم يجعل نبيه كالأب حتى قال:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} لأنه تعالى أراد أن أمته يدعون أزواجه بأشرف ما تنادى به النساء، وهو الأم، وأشرف ما ينادى به النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الرسول، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات، إجلالًا لنبيه، لئلا يطمع أحد في نكاحهن بعده، ولو جعله أبًا للمؤمنين .. لكان أبًا للمؤمنات أيضًا فيحرمن عليه، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، ولأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا، وذلك أعظم من الأب في القرب والحرمة، إذ لا أقرب للإنسان من نفسه، ولأن من الآباء من يتبرأ من ابنه، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه. انتهى.

ثم بين سبحانه: أن القرابة أولى بالإرث بها من الأخوة في الدين، فقال:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} ؛ أي: ذوو القربات النسبية {بَعْضُهُمْ أَوْلَى} وأحق {بـ} إرث {بَعْضٍ} آخر منهم، فالكلام على حذف مضاف.

وهذه الآية كانت ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، وكان (2) التوارث في بدء الإِسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته، وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه وخارجة بن زيد، وبين عمر وشخص آخر، وبين الزبير وكعب بن مالك، ثم نسخ ذلك بهذه الآية.

وقوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى: يجوز (3) أن يتعلق بـ {أَوْلَى} لأن أفعل التفضيل يعمل في الظروف.

والمعنى: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله تعالى، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في {أَوْلَى} ، والعامل فيها {أَوْلَى} لأنها شبيهة بالظرف؛ أي: حالة كون أولويتهم ثابتةً في كتاب الله تعالى، ولا يجوز أن يكون حالًا من {أولوا} للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها

(1) فتح الرحمن.

(2)

المراغي.

(3)

الفتوحات.

ص: 420

على مذهب الجمهور. انتهى. من "الكرخي".

والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، أو القرآن، أو آية المواريث، وقوله:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: الأنصار {وَالْمُهَاجِرِينَ} يجوز في {من} وجهان:

أحدهما: أنها من الجارة للمفضل عليه، كهي في زيد أفضل من عمرو، المعنى عليه: وأولو الأرحام والقرابات، أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب.

والثاني: أنا للبيان، جيء بها بيانًا لأولي الأرحام، فتتعلق بمحذوف، والمعنى: وأولو الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، أولى بالإرث من الأجانب. اهـ. "سمين".

والمعنى (1): أي وأولو الأرحام أولى بالإرث بحق القوابة، من إرث المؤمنين بحق الدين، ومن إرث المهاجرين بحق الهجرة، فيما كتبه الله سبحانه، وفرضه على عباده.

والخلاصة: أن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكمًا شرع لضرورةٍ عارضةٍ في بدء الإِسلام، وهو الإرث بالتآخي في الدين، والتآخي حين الهجرة بين الماجرين والأنصار، حين كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه.

ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ} وأصدقائكم؛ أي: إلا أن تحسنوا إلى أصدقائكم من الأجانب {مَعْرُوفًا} ؛ أي: وصيةً من الثلث؛ أي (2): إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا .. فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.

وهذا الاستثناء إما متصل من أعم ما تقدر فيه الأولوية من النفع، كقولك: القريب أولى من الأجنبي، إلا في الوصية، تريد أحق منه في كل نفع، من

(1) المراغي.

(2)

المراح.

ص: 421

ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية، والمراد بالأولياء: من يوادونهم ويصادقونهم، ومن يوالونهم ويؤاخونهم، وبفعل المعروف الوصية؛ أي: التوصية بثلث المال، أو أقل منه، لا بما زاد عليه.

والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل نفع، من ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقةٍ وغير ذلك، إلا أن تفعلوا إلى أصدقائكم معروفًا بتوصيةٍ لهم من ثلث المال، فهم أولى بالوصية، لأنه لاوصية لوارث، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا؛ أي: الأقارب أحق بالميراث من الأجانب، لكن فعل التوصية أولى للأجانب من الأقارب، لأنه لا وصية لوارث.

ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة .. أباح أن يوصى لهم.

ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل في الإرث، وهو الحكم الثابت في كتابه، الذي لا يغير ولا يبدل، فقال:{كَانَ ذَلِكَ} المذكور في الآيتين: من أولوية النبي صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، ونسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات {فِي الْكِتَابِ} متعلق بقوله:{مَسْطُورًا} ؛ أي: مكتوبًا؛ أي: كان ذلك المذكور من الحكمين مثبتًا في اللوح المحفوظ، أو مكتوبًا في القرآن الكريم.

والمعنى: أي (1) إن هذا الحكم، وهو كون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض: حكم من الله تعالى مقدر مكتوب في الكتاب، الذي لا يبدل ولا يغير وإن كان قد شرع غيره في وقتٍ ما لمصلحةٍ عارضةٍ، وحكمةٍ بالغةٍ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جارٍ في قدره الأزلي، وقضائه التشريعي.

واعلم: أنه (2) لا توارث بين المسلم والكافر، ولكن صحت الوصية بشيء من مال المسلم للذمي، لأنه كالمسلم في المعاملات، وصحت الوصية بعكسه؛ أي: من الذمي للمسلم، ولذا ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأولياء: هم الأقارب

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 422