الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معين سبق به القضاء، وجرى عليه القلم، ولا يتغير أصلًا، فإن المقدر كائن لا محالة، والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علي بن أبي طالب يقول عند اللقاء: دهم الأمر وتوقد الجمر.
أَيَّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرّ
…
يَوْمَ لَا يَقْدِرُ أَمْ يَوْمَ قَدِرْ
يَوْمَ لَا يَقْدِرُ لَا أُرْهِبُهُ
…
وَمِنَ الْمَقْدُوْرِ لَا يُنْجِيْ الْحَذِرْ
{وَإِذًا} ؛ أي: وإن نفعكم الفرار مثلًا، فمتعتم بالتأخير {لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا} تمتيعًا {قَلِيلًا} أو إلا زمانًا قليلًا بعد فراركم إلى أن تنقضي آجالكم، وكل ما هو آتٍ قريب، وعمر الدنيا كله قليل، فكيف مدة آجال أهلها، وقد قال من عرف مقدار: عمرك في جنب عيش الآخرة، كنفس واحد، وقد أجاد من قال:
الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ
…
وَالْقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ
وعن بعض المروانية: أنه مر بحائط مائلٍ فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل أطلب.
والمعنى (1): أي وإن نفعكم الفرار، بأن دفع عنكم الموت، فمتعتم .. لم يكن ذلك التمتع إلا قليلًا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل، وإن كثر، ولله در أحمد شوقي حيث يقول:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ
…
إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِيْ
وقرأ الجمهور (2): {تمتعون} بالفوقانية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه: بالتحتية، وفي بعض الروايات:{لا تمتعوا} بحذف النون إعمالًا لإذن، وعلى قراءة الجمهور: هي ملغاة.
17
- ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا، لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم .. أمره الله سبحانه بالجواب عن هذا فقال:{قُل} يا محمد لهؤلاء المستأذنين {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} ويحفظكم {مِنَ اللَّهِ} ؛ أي: من قضائه،
(1) المراغي.
(2)
الشوكاني.
والاستفهام فيه إنكاري، ومذهب (1) سيبويه على أن {مِنَ} الاستفهامية: مبتدأ، و {ذا}: خبره، و {الَّذِي}: صفة أو بدل منه، وذهب بعض النحاة إلى كون:{مَنْ ذَا} خبرًا مقدمًا، والعصمة: الحفظ والمنع؛ أي: قل لهم: من الذي يحفظكم ويدفع عنكم قضاء الله وحكمه {إِنْ أَرَادَ} الله سبحانه {بِكُمْ سُوءًا} ؛ أي: شرًا وضررًا وهلاكًا في أنفسكم، أو نقصًا في الأموال، وجدبًا مرضًا {أَوْ} من الذي يصيبكم بسوء وضرر إن {أَرَادَ} الله سبحانه {بِكُمْ رَحْمَةً}؛ أي: نصرةً وإطالة عمر في عافيةٍ وسلامةٍ وخصبًا وكثرة مال، أو المعنى: من يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمةً، لما في العصمة من معنى المنع، ففي الكلام اختصار كما في قوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا؛ أي: ومعتقلًا رمحًا، والاعتقال: أخذ الرمح بين الركب والسرج، وكما في قوله: علفتها تبنًا وماءً باردًا.
والمعنى: لا أحد يستطيع أن يدفع عنكم شرًا قدره الله سبحانه عليكم، من قتل أو غيره، ولا أحد يستطيع أن يصيبكم بسوء، إن أراد الله بكم رحمةً، من خصب وملامة وعافيةٍ.
وإجمال القول (2): أن النفع والضر بيده سبحانه، وليس بغيره في ذلك تصريف ولا تبديل.
ثم أكد هذا بقوله: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ} ؛ أي: ولا يجد هؤلاء المنافقون لأنفسهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: متجاوزين الله سبحانه {وَلِيًّا} يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء قبل الوقوع {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم ويخلصهم من السوء، والضرر بعد الوقوع.
واعلم (3): أن الآية دلت على أمور:
الأول: أن الموت لا بد منه، قال بعضهم: إذا بلغ الرجل أربعين سنة .. ناداه منادٍ من السماء: دنا الرحيل فأعد زادًا، وقال الثوري: ينبغي لمن كان له
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
روح البيان.
عقل إذا أتى عليه عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهيىء كفنه.
والثاني: أن الفرار لا يزيد في الآجال، ومن أسوأ حالًا ممن سعى لتبديل الآجال والأرزاق، ورجاء دفع ما قدر له أنه لاقٍ، وأنه لا يقيه منه واقٍ.
والثالث: أن من اتخذ الله سبحانه وليًا ونصيرًا .. نال ما يتمناه قليلًا وكثيرًا، ونصر أميرًا وفقيرًا، وطاب له وقته مطلقًا وأسيرًا، فثبت ثبات الجبال، وعامل معاملة الرجال، نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الفرار من نحو بابه، والإقبال على الإدبار عن جنابه، إنه الولي النصير، ذو الفضل الكثير.
الإعراب
{يَا أَيُّهَا} {يا} : حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد، {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أي} أو بدل منه، وجملة النداء: مستأنفة، {اتَّقِ اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ} ومفعول به، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {وَلَا تُطِعِ}:{الواو} : عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تُطِعِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله: ضمير يعود على {النَّبِيُّ} ، والجملة: معطوفة على جملة {اتَّقِ اللَّهَ} ، {الْكَافِرِينَ}: مفعول به، {وَالْمُنَافِقِينَ}: معطوف عليه. {إِنَّ اللَّهَ} : ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ} ، {عَلِيمًا}: خبر أول له، {حَكِيمًا}: خبر ثان، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاتَّبِعْ} : فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ} صلى الله عليه وسلم، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {اتَّقِ اللَّهَ} ، {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {مَا} ، {إِلَيْكَ}: متعلق به، {مِنْ
رَبِّكَ}: حال من الضمير المستتر في {يُوحَى} ، والجملة الفعلية: صلة الموصول، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ} ، {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرًا} ، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة {مَا} الموصول، {خَبِيرًا} خبر {كَانَ} ، وجملة {كَانَ} في محل الرفع مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَتَوَكَّلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على {اتَّقِ} ، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {اتَّقِ} ، {وَكَفَى}: فعل ماض، {بِاللَّهِ}: فاعل، و {الباء}: زائدة، {وَكِيلًا}: تمييز لفاعل {كفى} . والجملة: مستأنفة.
{مَا} : نافية، {جَعَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للرد على مزاعم المشركين، بأن لبعضهم قلبين، فهو أعقل من محمد، {لِرَجُلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلَ} ، وهو في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ} ، {مِنْ}: زائدة، {قَلْبَيْنِ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ} {فِي جَوْفِهِ} صفة لـ {قَلْبَيْنِ} {وَمَا} {و} : عاطفة، {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} . والجملة: معطوفة على جملة {ما} نافية {جَعَلَ} الأولى، {أَزْوَاجَكُمُ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ} ، {اللَّائِي}: اسم موصول للجمع المؤنث في محل النصب صفة لـ {أَزْوَاجَكُمُ} . {تُظَاهِرُونَ} : فعل وفاعل صلة الموصول، {مِنْهُنَّ}: متعلق به، {أُمَّهَاتِكُمْ}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ} ، {وَمَا}:{الواو} : عاطفة، {ما}: نافية، {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {جَعَلَ} الأول، {أَدْعِيَاءَكُمْ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ} ، {أَبْنَاءَكُمْ}: مفعول ثان، {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {قَوْلُكُمْ}: خبره، والجملة: مستأنفة، {بِأَفْوَاهِكُمْ}: حال من {قَوْلُكُمْ} ؛ أي: كائنًا بأفواهكم فقط، من غير أن تكون له حقيقة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {يَقُولُ الْحَقَّ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة، {وَهُوَ}:{الواو} : حالية، {هو}: مبتدأ {يَهْدِي} : فعل مضارع
وفاعل مستتر {السَّبِيلَ} : مفعول ثان لـ {يَهْدِي} ، والأول محذوف؛ أي: من يشاء، أو منصوب بنزع الخافض، وجملة {يَهْدِي}: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {يَقُولُ} .
{ادْعُوهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان أن نسبة كل مولود إلى والده أقوم وأعدل. {لِآبَائِهِمْ} : متعلق بـ {ادْعُوهُمْ} . {هُوَ} : مبتدأ، {أَقْسَطُ}: خبره. والجملة: مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ} : متعلق بـ {أَقْسَطُ} أو حال من الضمير في {أَقْسَطُ} ، {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ}:{الفاء} : عاطفة على محذوف، تقديره: هذا إن علمتم آباءهم. {إن} : حرف شرط، {لَمْ}: حرف جزم. {تَعْلَمُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} . {آبَاءَهُمْ} : مفعول به، والجملة: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَإِخْوَانُكُمْ} : {الفاء} : رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {إخوانكم}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم إخوانكم. {فِي الدِّينِ} : حال من {إخوانكم} ، {وَمَوَالِيكُمْ}: معطوف على {إخوانكم} . والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على الجملة المحذوفة.
{وَلَيْسَ} {الواو} : عاطفة. {ليس} : فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ} : خبرها مقدم. {جُنَاحٌ} : اسمها مؤخر. {فِيمَا} : جار ومجرور صفة لـ {جُنَاحٌ} . وجملة {ليس} : معطوفة على جملة قوله: {فإن لم تعلموهم} . {أَخْطَأْتُمْ} : فعل وفاعل صلة الموصول. {بِهِ} : متعلق بـ {أَخْطَأْتُمْ} . {وَلَكِنْ} {الواو} : عاطفة. {لكن} : حرف استدراك. {مَا} : اسم موصول في محل الجر معطوف على ما في قوله فيما {أَخْطَأْتُمْ} . ويجوز أن يكون في محل الرفع مبتدأ، وخبره:
محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم تؤاخذون به. {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} : فعل وفاعل صلة لـ {مَّا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ولكن ما تعمدته قلوبكم. {وَكَانَ اللَّهُ} : فعل ناقص واسمه. {غَفُورًا} : خبر أول لكان. {رَحِيمًا} : خبر ثان لها، وجملة {كان}: مستأنفة.
{النَّبِيُّ أَوْلَى} : مبتدأ وخبر، {بِالْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {أَوْلَى} . والجملة: مستأنفة. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : متعلق بـ {أَوْلَى} أيضًا. {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} : مبتدأ وخبر. والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} : مبتدأ أول. {بَعْضُهُمْ} : مبتدأ ثان أو بدل من أولوا. {أَوْلَى} : خبر للمبتدأ الثاني. وجملة الثاني: خبر الأول. وجملة الأول: معطوفة على الجمل التي قبلها. {بِبَعْضٍ} : متعلق {أَوْلَى} ، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: بإرث بعض. {فِي كِتَابِ اللَّهِ} : متعلق بـ {أَوْلَى} أيضًا؛ لأن أفعل التفضيل يعمل في الظرف؛ أي: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير في {أَوْلَى} والعامل فيها {أَوْلَى} ؛ لأنها شبيهة بالظرف، ولا يجوز أن يكون حالًا من {وَأُولُو} للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها. اهـ. "كرخي". {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {أَوْلَى} أيضًا. {وَالْمُهَاجِرِينَ} : معطوف عليه، {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. {أَنْ} : حرف نصب ومصدر، {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية. {إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ} : متعلق بـ {تَفْعَلُوا} : بتضمينه معنى تحسنوا أو تسدوا. {مَعْرُوفًا} : مفعول به. والجملة الفعلية، مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ، وخبره: محذوف، والتقدير: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفًا جائز، والجملة الاستدراكية: مستأنفة. {كَانَ ذَلِكَ} : فعل ناقص واسمه. {فِي الْكِتَابِ} : متعلق بـ {مَسْطُورًا} . {مَسْطُورًا} . خبر {كَانَ} : وجملة {كَانَ} : مستأنفة.
{وَإِذْ} {الواو} : استئنافية. {إذ} : ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ أخذنا إلخ. {أَخَذْنَا} : فعل وفاعل. {مِنَ النَّبِيِّينَ} : متعلق به. {مِيثَاقَهُمْ} : مفعول به. والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} . والجملة المحذوفة: مستأنفة. {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} : معطوفان على {مِنَ النَّبِيِّينَ} : عطف خاص على عام. {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} : معطوفات على {نُوحٍ} . {ابْنِ مَرْيَمَ} : صفة لـ {وَعِيسَى} . {وَأَخَذْنَا} : فعل وفاعل معطوف على لـ {أَخَذْنَا} الأول للتأكيد. {مِنْهُمْ} : متعلق بـ {أَخَذْنَا} . {مِيثَاقًا} : مفعول به لـ {أَخَذْنَا} . {غَلِيظًا} : صفة {مِيثَاقًا} .
{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)} .
{لِيَسْأَلَ} {اللام} : حرف جر وتعليل، {يسأل}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {الصَّادِقِينَ} : مفعول به، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} : الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: فعل ذلك ليسأل الصادقين. إلخ. والجملة المحذوفة: مستأنفة. {عَنْ صِدْقِهِمْ} : متعلق بـ {يسأل} . {وَأَعَدَّ} : فعل وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ} . {لِلْكَافِرِينَ} : متعلق بـ {أعد} . {عَذَابًا} : مفعول به. {أَلِيمًا} : صفة له. وفي "الفتوحات": {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} : يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوف على ما دل عليه {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} ، إذ التقدير: فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.
والثاني: أنه معطوف على {أَخَذْنَا} ؛ لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}.
{يَا أَيُّهَا} {يَا} : حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة. و {الهاء} : حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} : صفة لـ {أي} أو بدل أو عطف بيان. وجملة النداء: مستأنفة. {آمَنُوا} : فعل وفاعل صلة الموصول. {اذْكُرُوا} : فعل أمر وفاعل. {نِعْمَةَ اللَّهِ} : مفعول به ومضاف إليه. والجملة: جواب النداء. {عَلَيْكُمْ} : متعلق بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ} ؛ لأنه مصدر بمعنى: إنعام الله عليكم، أو بمحذوف حال من {النعمة}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {اذْكُرُوا} ، وهو بمنزلة بدل اشتمال من {نِعْمَةَ اللَّهِ} ، والمراد بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ}: نصرهُ في غزوة الأحزاب. {جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} : فعل ومفعول به وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} . {فَأَرْسَلْنَا} : {الفاء} : عاطفة، {أرسلنا}: فعل وفاعل معطوف على {جَاءَتْكُمْ} . {عَلَيْهِمْ} : متعلق بـ {أرسلنا} . {رِيحًا} : مفعول به، {وَجُنُودًا}: معطوف على {رِيحًا} . {لَمْ} : حرف نفي وجزم. {تَرَوْهَا} : فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ {لَمْ} . والجملة الفعلية: صفة لـ {جُنُودًا} . ورأى هنا بصرية. {وَكَانَ اللَّهُ} : فعل ناقص واسمه. {بِمَا} : جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرًا} . وجملة {تَعْمَلُونَ} : صلة لـ {ما} الموصولة. {بَصِيرًا} : خبر {كان} ، وجملة {كان} في محل النصب حال من فاعل {أرسلنا} .
{إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان بدل من {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} . {جَاءُوكُمْ} : فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} . {مِنْ فَوْقِكُمْ} : متعلق بـ {جَاءُوكُمْ} . {وَمِنْ أَسْفَلَ} : معطوف على {مِنْ فَوْقِكُمْ} . {مِنْكُمْ} : جار ومجرور صفة لـ {أَسْفَلَ} . {وَإِذْ زَاغَتِ} : {الواو} : عاطفة. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان، معطوف على {إِذْ جَاءُوكُمْ}. {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ} : فعل وفاعل معطوف على {زَاغَتِ} . {الْحَنَاجِرَ} : منصوب على الظرفية المكانية، أو على التوسع.
{وَتَظُنُّونَ} : فعل وفاعل معطوف على {زَاغَتِ} ، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تظنون} . {الظُّنُونَا} : منصوب على المفعولية المطلقة، و {الألف}: مزيدة تشبيهًا للفواصل بالقوافي. {هُنَالِكَ} : {هنا} : اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، و {اللام}: لبعد المشار إليه، و {الكاف}: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ {ابْتُلِيَ}. {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة. {وَزُلْزِلُوا} : فعل ونائب فاعل معطوف على {ابْتُلِيَ} . {زِلْزَالًا} : مصدر مبين للنوع. {شَدِيدًا} : صفة لـ {زِلْزَالًا} .
{وَإِذْ} {الواو} : استئنافية. {إذ} : ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ يقول المنافقون، والجملة المحذوفة، مستأنفة، أو معطوفة على ما سبق. {يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} . {وَالَّذِينَ} : معطوف على {الْمُنَافِقُونَ} . {فِي قُلُوبِهِمْ} : خبر مقدم. {مَرَضٌ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: صلة الموصول. {مَا وَعَدَنَا} : {مَا} : نافية. {وَعَدَنَا اللَّهُ} : فعل ومفعول وفاعل. {وَرَسُولُهُ} : معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {يَقُولُ} . {إلَّا} : أداة استثناء مفرغ. {غُرُورًا} : منصوب على المفعولية المطلقة، ولكنه على حديث مضاف؛ أي: وعد غرور. {وَإِذْ} : {الواو} : عاطفة. {إذ} : ظرف لما مضى من الزمان معطوف على {إذ يقول} . {قَالَتْ طَائِفَةٌ} : فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} . {مِنْهُمْ} : صفة لـ {طَائِفَةٌ} . {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} : منادى مضاف، ويثرب ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، أو التأنيث المعنوي، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَتْ} . {لَا} : نافية تعمل عمل إن. {مُقَامَ} : في محل النصب اسمها. {لَكُمْ} : خبر {لَا} . وجملة {لَا} : في محل النصب مقول {قَالَتْ} على كونها جواب النداء. {فَارْجِعُوا} : {الفاء} : فاء الفصيحة؛ لأنها
أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعتم كلامي، وقبلتم نصحي .. فأقول لكم: ارجعوا. {ارجعوا} : فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَتْ} . {وَيَسْتَأْذِنُ} : {الواو} : عاطفة. {يستأذن فريق} : فعل وفاعل معطوف على {قَالَتْ} . {مِنْهُمْ} : صفة {فَرِيقٌ} . {النَّبِيَّ} : مفعول به. {يَقُولُونَ} : فعل وفاعل. والجملة: في محل النصب حال من {فَرِيقٌ} لوصفه بما بعده. {إِنَّ بُيُوتَنَا} : ناصب واسمه. {عَوْرَةٌ} : خبر {إِنَّ} . وجملة {إِنَّ} : في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ} . {وَمَا هِيَ} : {الواو} : حالية. {ما} : حجازية تعمل عمل ليس. {هِيَ} : في محل الرفع اسمها. {بِعَوْرَةٍ} : خبرها. و {الباء} : زائدة. وجملة {ما} : في محل النصب حال من {بيوتنا} . {إِنْ} : نافية. {يُرِيدُونَ} : فعل وفاعل. {إِلَّا} : أداة حصر. {فِرَارًا} : مفعول به. والجملة: مستأنفة.
{وَلَوْ} {الواو} : استئنافية. {لو} : حرف شرط غير جازم. {دُخِلَتْ} : فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود إلى {بيوتهم} ، أو إلى المدينة. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {مِنْ أَقْطَارِهَا} : حال من مرفوع {دُخِلَتْ} . والجملة: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ} : حرف عطف وترتيب. {سُئِلُوا} : فعل ونائب فاعل معطوف على {دُخِلَتْ} . {الْفِتْنَةَ} : مفعول ثان لـ {دُخِلَتْ} . {لَآتَوْهَا} : {اللام} : رابطة لجواب {لو} الشرطية. {أتوها} : فعل وفاعل ومفعول به، والمفعول الثاني: محذوف إن قرأنا بالمد؛ لأنه بمعنى أعطي، تقديره: لأعطوها السائلين. والجملة الفعلية: جواب {لو} الشرطية، لا محل لها من الإعراب. {وَمَا تَلَبَّثُوا}:{الواو} : عاطفة. {ما} : نافية. {تَلَبَّثُوا} : فعل وفاعل. {بِهَا} : متعلق بـ {تَلَبَّثُوا} . {إِلا} : أداة استثناء مفرغ. {يَسِيرًا} : صفة لمصدر محذوف؛ أي: تلبثًا يسيرًا، أو لزمن محذوف؛
أي: زمنًا يسيرًا، والجملة: معطوفة على جواب {لو} الشرطية.
{وَلَقَدْ} {الواو} : استئنافية. و {اللام} : موطئة للقسم. {قد} : حرف تحقيق. {كَانُوا} : فعل ناقص واسمه. {عَاهَدُوا اللَّهَ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية، في محل النصب خبر {كان}. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَاهَدُوا} . وجملة {كان} : جملة قسمية لا محل لها من الإعراب؛ لأنه بمعنى: ولقد أقسموا بالله من قبل. {لَا} : نافية. {يُوَلُّونَ} : فعل وفاعل. {الْأَدْبَارَ} : مفعول ثان لـ {يُوَلُّونَ} ، والمفعول الأول: محذوف، تقديره: لا يولون العدو الأدبار، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. وجاء على حكاية اللفظ، فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى .. لقيل: لا نولي. {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ} : {الواو} : عاطفة. {كان عهد الله} : فعل ناقص واسمه. {مَسْئُولًا} : خبره. والجملة: معطوفة على جملة القسم. {قُلْ} : فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {لَنْ} : حرف نفي ونصب. {يَنْفَعَكُمُ} : فعل ومفعول به منصوب بـ {لَنْ} . {الْفِرَارُ} : فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ} . {إِنْ} : حرف شرط. {فَرَرْتُمْ} : فعل وفاعل في محل الجزمِ بـ {إِنْ} : الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {مِنَ الْمَوْتِ}: متعلق بـ {فَرَرْتُمْ} ، {أَوِ الْقَتْلِ}: معطوف عليه، وجواب {إِنْ}: الشرطية معلوم مما قبله، تقديره: إن فررتم من الموت .. لن ينفعكم الفرار، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَإِذًا}:{الواو} : عاطفة. {إِذًا} : حرف جواب وجزاء مهمل لعدم تصدرها في أول الكلام المجاب بها، كما هو الغالب والشرط فيها. {لَا}: نافية. {تُمَتَّعُونَ} : فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ} . {إِلَّا} : أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا} : صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا.
{قُلْ} : فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {مَنْ ذَا} : اسم استفهام مركب للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع خبر مقدم. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في مجل النصب مقول {قُلْ} . {يَعْصِمُكُمْ} : فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {مِنَ اللَّهِ} : متعلق به. والجملة: صلة الموصول {إن} : حرف شرط. {أَرَادَ} : فعل ماض وفاعل مستتر في محل الحزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {بِكُمْ} متعلقان به {سُوءًا} : مفعول به، وجواب {إن} معلوم مما قبله، تقديره: إن أراد بكم سوءًا فمن الذي يعصمكم، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب مقول {قُلْ} . {أَوْ أَرَادَ} : فعبم وفاعل مستتر معطوف على {أَرَادَ} الأول. {بِكُمْ} متعلق بـ {أَرَادَ} . {رَحْمَةً} : مفعول به، ولا بد من تقدير محذوف هنا كما مر؛ أي: أو من الذي يصيبكم بسوء، إن أراد بكم رحمة. {وَلَا يَجِدُونَ}:{الواو} : استئنافية. {لا} : نافية. {يَجِدُونَ} : فعل وفاعل. {لَهُمْ} : جار وجرور في محل المفعول الثاني، أو متعلق به إن كان من وجد الضالة. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من {وَلِيًّا} ؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {وَلِيًّا} : مفعول أول لـ {يَجِدُونَ} أو مفعول به له. {وَلَا نَصِيرًا} : معطوف على {وَلِيًّا} . والجملة الفعلية: مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : النبي: إما مأخوذ من النبأ، وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، وسمي نبيًا؛ لأنه منبىء؛ أي: مخبر عن الله بما تسكن إليه العقول الزكية، أو من النبوة؛ أي: الرفعة؛ لأنه مرفوع الرتبة على سائر الخلائق، أو رافع رتبة من تبعه، فهو فعيل: إما بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، فأصله على الأول نبييء؛ وعلى الثاني: نبيو.
{اتَّقِ اللَّهَ} ؛ أي: دم على التقوى، قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل
بطاعة الله سبحانه على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله. اهـ.
واعلم: أن التقوى في اللغة بمعنى: الاتقاء، وهو اتخاذ الوقاية، وعند أهل الحقيقة هو، الاحتواز بطاعة الله من عقوبته، وصيانة النفس عما تستحق به العقوبة، من فعل أو ترك، فالتقوى اسم مصدر من اتقى يتقي اتقاءً: إذا جعل لنفسه وقاية عما يخافه.
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} ؛ أي: دم على ما أنت عليه من انتقاء الطاعة لهم، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهنٍ في الدين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مطيعًا لهم، حتى ينهى عن إطاعتهم، لكنه أكد عليه ما كان عليه، وثبت على التزامه، والإطاعة: الانقياد، والطاعة: اسم مصدر من أطاع يطيع إطاعةً وطاعةً، والفرق بين الطاعة والعبادة: أن الطاعة فعل يعمل بالأمر، بخلاف العبادة.
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ} ؛ أي: نساءكم، جمع زوج، كما أن الزوجات جمع زوجة، والزوج، أفصح، وإن كان الثاني أشهر.
{اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} يقال: ظاهر الرجل من زوجته: إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، يريدون: أنت محرمة علي كما تحرم الأم، وكانوا في الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، فهو مضارع ظاهر، ومصدره: الظهار بكسر الظاء، كقاتل قتالًا، وهو كما في "القاموس" قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وقد ظاهر وتظهر وظهر، وخصوا الظهر دون غيره؛ لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوب الزوج، ففي قول المظاهر: أنت علي كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر إلى المركوب، ومن المركوب إلى المرأة؛ لأنها مركوب الزوج، فكان المُظاهر يقول: أنت محرمة علي لا تركبين، كتحريم ركوب أمي.
{أُمَّهَاتِكُمْ} ؛ أي: كأمهاتكم، جمع أم، زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق، من أراق، وشذت زيادتها في الواحدة بأن يقال: أمه.
{أَدْعِيَاءَكُمْ} : جمع دعي، وهو من يُدعى لغير أبيه؛ أي: يتخذ ولدًا وابنًا له، وهو المتبنى بتقديم الباء الموحدة على النون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس، لأن أفعلاء، إنما يكون جمعًا لفعيل المعتل اللام، إذا كان بمعنى فاعل، نحو تقي وأتقياء، وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلًا معتل اللام، إلا أنه بمعنى مفعول، فكان القياس جمعه على فعلى، كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، بأن يقال: دعيًا، فكأنه شبه فعيل بمعنى مفعول في اللفظ، بفعيل بمعنى فاعل، فجمع جمعه.
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} : والأفواه: جمع فم، وأصل فم: فوه بالفتح، مثل ثوب وأثواب، وهو مذهب سيبويه والبصريين، أوفوه بالضم، مثل سوق وأسواق، وهو مذهب الفراء، حذفت الهاء حذفاَ غير قياسي لخفائها، ثم الواو لاعتلالها، ثم أبدلت الواو المحذوفة ميمًا لتجانسهما، لأنهما من حروب الشفة، فصار فمًا.
{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} : والسبيل من الطرق: ما هو معتاد السلوك وما فيه سهولة.
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} يقال: فلان يدعى لفلان؛ أي: ينسب إليه، ووقوع اللام هاهنا للاستحقاق.
{أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : القسط بالكسر: العدل، بالفتح: هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك غير إنصاف، ولذلك قيل: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل. حكي أن امرأة قالت للحجاج: أنت القاسط، فضربها، وقال: إنما أردت القسط بالفتح، وأقسط هنا أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة، والمعنى بالغ في العدل والصدق.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ؛ أي: إثم، يقال: جنحت السفينة؛ أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم: المائل بالإنسان عن الحق جناحًا، ثم سمي كل إثم جناحًا، وقال بعضهم: إنه معرب، كناه على ما هو عادة العرب في الإبدال، ومثله الجوهر: معرب كوهر.
{فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} بقطع الهمزة؛ لأن همزة باب الإفعال مقطوعة وفرق بين الخاطىء والمخطيء، بأن الخاطيء من يأتي بالخطأ: وهو يعلم أنه خطأ، والمخطيء: من يأتي بالخطأ، وهو لا يعلم أنه خطأ، يقال: أخطأ الرجل في كلامه وأمره، إذا زلّ وهنا وخطأ الرجل إذا ضلّ في دينه وفعله، ومنه قوله:{لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} .
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: أرأف وأشفق وأجدر بهم.
{مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : فيما دعاهم إليه من أمر الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم. اهـ. "شيخنا".
ويقال: فلان أولى بكذا: أحرى وأليق به.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} : جمع رحم، وهو القرابة؛ أي: ذوو القرابات.
{مَسْطُورًا} ؛ أي: مكتوبًا، يقال: سطر فلان كذا؛ أي: كتب سطرًا سطرًا، والسطر: الصف من الكتابة.
{مِيثَاقَهُمْ} : الميثاق: عقد يؤكد بيمين. {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصر على الأحزاب، وذكر النعمة: شكرها.
{جُنُودٌ} : جمع جند، ويقال للعسكر: الجند؛ اعتبارًا بالغلظ من الجند، وهي الأرض الغليظة التي فيها حجارة، ثم يقال لكل مجتمع جند، نحو: الأرواح جنود مجندة؛ أي: مجمعة، والمراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير من اليهود ورؤسائهم: حيي بن أخطب، وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فنبذه كعب بسعي حيي، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف، أو نحو ذلك.
{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} ؛ أي: انحرفت عن مستوى نظرها حيرةً ودهشةً، والزيغ: الميل عن الاستقامة، والأبصار: جمع بصر، والبصر: الجارحة الناظرة.
{الْحَنَاجِرَ} : جمع حنجرة، وهي: رأس الغلصمة، والغلصمة: رأس الحلقوم، والحلقوم: مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم. وقال الراغب: الحنجرة: رأس الغلصمة من خارج. اهـ. وهي منتهى الحلقوم وطرفه من أسفله اهـ. "سمين".
{هُنَالِكَ} : هو في الأصل للمكان البعيد، لكن العرب تكنى بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان.
{زِلْزَالًا} الزلة في الأصل: استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلت رجله تزل، والمزلة: المكان الزلق، وقيل: للذنب من غير قصد: زلة، تشبيهًا بزلة الرجل، والتزلزل: الاضطراب، وكذا الزلزلة: شدة الحركة، وتكرير حروف لفظه تنبيه على تكرر معنى الزلل.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : قال الواغب: المرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان، وهو ضربان: جسمي ونفسي، كالجهل والجبن والنفاق ونحوها من الرذائل الخلقية، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم، لقرب عهدهم بالإِسلام.
{إِلَّا غُرُورًا} : بضم الغين لا غير، لأنه مصدر؛ أي: وعد غرور لا حقيقة له.
{لَا مُقَامَ لَكُمْ} ؛ أي: لا ينبغي لكم الإقامة هاهنا.
{عَوْرَةٌ} بسكون الواو، وفي الأصل: أطلقت على المختل مبالغة، يقال: عور المكان عورًا: إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق، وفلان يحفظ عورته؛ أي: خلله، والعورة أيضًا: سوءة الإنسان، وذلك كناية، وأصلها من
العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار؛ أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء، للكلمة القبيحة.
{مِنْ أَقْطَارِهَا} : جمع قطر بالضم، وهو الجانب والناحية.
{الْفِتْنَةَ} : الردة ومقاتلة المؤمنين.
{عَاهَدُوا اللَّهَ} العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا، والمعاهدة: المعاقدة.
{الْأَدْبَارَ} : جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل، يقال: ولاه دبره: إذا انهزم.
{مَسْئُولًا} ؛ أي: مطلوبًا حتى يوفى، يقال: سألت فلانًا حقي؛ أي: طالبته به.
{أَوِ الْقَتْلِ} والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، قال الراغب: أصل القتل: إزالة الروح عن الجسد، كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال موت. انتهى.
{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ} : وإذًا: حرف جواب وجزاء كما مر، ولما وقعت هنا بعد عاطف .. جاءت على الأكثر، وهو عدم إعمالها، ولم يشذ ما هنا ما شذ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب. اهـ. "سمين".
{يَعْصِمُكُمْ} : والعصمة: الإمساك والحفظ.
{سُوءًا} : والسوء: كل ما يسوء الإنسان ويغمه، والمراد هنا: القتل والهزيمة ونحوهما.
{وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} : الولي هو الدافع عنهم قبل وقوع السوء بهم والناصر المخرج لهم من السوء بعد وقوعهم فيه، كذا فرق بينهما.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: النداء بوصف النبي في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} إجلالًا له وتعظيمًا.
ومنها: تنكير رجل في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} لإفادة الاستغراق والشمول، وإدخال حرف الجر الزائد؛ لتأكيد الاستغراق في قوله:{مِنْ قَلْبَيْنِ} .
ومنها: ذكر الجوف في قوله: {فِي جَوْفِهِ} لزيادة التصوير في الإنكار.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {أُمَّهَاتِكُمْ} ، وقوله:{أَبْنَاءَكُمْ} ؛ أي: مثل أمهاتكم في التحريم، ومثل أبنائكم في الميراث، وفي قوله:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا، وأصل الكلام: وأزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم والإجلال والتكريم.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {أَوْلَى بِبَعْضٍ} ؛ أي: أولى بإرث بعض.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام، إظهارًا لشرفه وفضله في قوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} إلخ. فقد دخل هؤلاء المذكورون في جملة النبيين، ولكنه خصهم بالذكر؛ تنويهًا بشأنهم، وتشريفًا لهم؛ لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل، فآثرهم بالذكر؛ للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم، وقدم النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده؛ لأنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لهذا السبب.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} حيث شبه الميثاق بجرم
محسوس، واستعار له شيئًا من صفات الإجرام، وهو الغلظ؛ للتنويه لعظم الميثاق وحرمته وثقل حمله.
ومنها: التكرار في قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} لغرض بيان وصف الغلظ.
ومنها: الالتفات من التكلم في قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ} إلى الغيبة في قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} لغرض التبكيت والتقبيح للمشركين.
ومنها: الطباق بين {أَخْطَأْتُمْ} و {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، وبين {سُوءًا} و {رَحْمَةً}؛ لأن المراد بالسوء: الشر، وبالرحمة: الخير، وبين {مِنْ فَوْقِكُمْ} {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} .
ومنها: التمثيل في قوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} حيث صور القلوب في خفقانها، واضطرابها، بارتفاعها إلى الحناجر.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} لاستحضار الصورة الماضية، وللدلالة على الاستمرار، وفي قوله:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} للدلالة على استحضار القول، واستحضار صورته، وفي قوله:{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} .
ومنها: الكناية في قوله: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} ؛ لأنه كناية عن الفرار من الزحف.
ومنها: الكناية في قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} ؛ لأنه كناية عن كونها غير حصينة.
ومنها: العدول إلى الغيبة في قوله: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} على إرادة حكاية اللفظ، ولو جاء على حكاية المعنى .. لقيل: لا نولي الأدبار على، صيغة التكلم.
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} ، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} ، وهو مما يزيد رونق الكلام، وعذوبته، لما له من وقعٍ رائعٍ وجذب سامع.
ومنا: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
…
} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما نصر (1) نبيه صلى الله عليه وسلم، فرد عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير .. ظن أزواجه رضي الله عنهن أنه اختص بنفائس اليهود
(1) المراغي.
وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال، ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا، من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب، ونحو ذلك، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في شأنهن.
أسباب النزول
قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
…
} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (1) البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين .. ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون .. قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . إلى آخر الآية.
والحديث أخرجه أيضًا مسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطيالسي وابن جرير وأبو نعيم في "الحلية" وعبد الله بن المبارك في "الجهاد".
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(1) البخاري.
وَزِينَتَهَا
…
} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصًا على أن أسال عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتين قال الله لهما:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس: عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصاحت علي امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره النهار حتى الليل، فأفزعني، فقلت: خابت من فعلت منهن بعظيمٍ، ثم جمعت على ثيابي فدخلت على حفصة، فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن من أن يغضب الله رسوله فتهلكين، لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك ولا تغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة - وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بأبي ضربًا شديدًا، وقال: أنائم هو، ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم، قلت: ما هو، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي، فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل مشربةً له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك، أولم أكن حذرتك، أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هوذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلًا ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج فقال: ذكرتك له
فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فذكر مثله، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفًا فإذا الغلام يدعوني، قال: أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، وقد أثر الرمال بجنبه، متكىء على وسادةٍ من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه، ثم قلت: وأنا قائم: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ فرفع بصره إليّ فقال: "لا" ثم قلت وأنا قائم: استأنس يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد عائشة، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاث، فقلت: أدع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكأ فقال:"أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي، فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة على عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهن شهرًا، من موجدته عليهن حين عاتبه الله سبحانه، فلما مضت تسع وعشرون ليلة .. دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلةً أعدها عدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الشهر تسعٌ وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول مرةٍ، فقال:"إني ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: إن الله سبحانه قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {عَظِيمًا} قلت: أفي هذا أستامر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءَه، فقلن: مثل ما قالت عائشة.
الحديث أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن