المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في ذكر عمرات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد هجرته - إمتاع الأسماع - جـ ٩

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد التاسع]

- ‌فصل في ذكر عمرات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد هجرته

- ‌وأما عمرة القضاء

- ‌وأما عمرة الجعرانة [ (1) ]

- ‌فصل في ذكر حجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة

- ‌فصل في ذكر من حدّث عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فأما ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جلت قدرته

- ‌وأما الأحاديث [الإلهية] [ (1) ]

- ‌وأما الحكمة، وهي سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما مجيء الجبال إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة

- ‌وأما الملك الّذي نزل بتصويب الحباب

- ‌وأما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ورؤيتهم في ليلة الإسراء

- ‌وأما حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم عليه السلام

- ‌وأما حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن تميم الداريّ [ (1) ]

- ‌وأما حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قسّ بن ساعدة

- ‌وأما حديثه صلى الله عليه وسلم عن أبى كبشة

- ‌ فصل في ذكر من حدث وروى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أصحابه رضى اللَّه تعالى عنهم بمكة والمدينة وغيرهما من البلدان التي غزا إليها وحلها بعرفة ومنى غير ذلك

- ‌إسلام الجن، وإنذارهم قومهم

- ‌وأما الصحابة رضوان اللَّه عليهم

- ‌أما المهاجرون

- ‌ذكر هجرة الذين هاجروا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

- ‌وأما السابقون الأولون

- ‌وأما الذين أسلموا إلى أن خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم بن أبى الأرقم بن عبد مناف بن أسد بن عبد اللَّه ابن عمر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ [ (1) ]

- ‌وأما المستضعفون الذين عذبوا في اللَّه

- ‌وأما المهاجرون إلى الحبشة

- ‌وأما من أسلم قبل الفتح

- ‌وأما الذين شهدوا بدرا وبيعة الرضوان [ (1) ] تحت الشجرة بالحديبية

- ‌وأما رفقاؤه النجباء

- ‌وأما أهل الفتيا من أصحابه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم

- ‌فصل في ذكر أنصار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر نزول الأوس والخزرج يثرب

- ‌فصل في ذكر بطون الأوس والخزرج

- ‌فصل في ذكر ما أكرم اللَّه تعالى به الأوس والخزرج من لقاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومبادرتهم إلى إجابته ودخولهم في طاعته، وتصديقهم برسالته ومسارعتهم إلى مبايعته [وحرصهم] على إيوائه ونصرته، بعد ما عرض نفسه على قبائل العرب فردوه ولم يقبلوه

- ‌أول من لقيه من الأوس سويد بن الصامت

- ‌ثم لقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد لقاء سويد بن الصامت فتية من بنى عبد الأشهل

- ‌وكان من خبر يوم بعاث [ (1) ]

- ‌فصل في ذكر خروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة إذ مكر به المشركون، وهجرته إلى المدينة دار هجرته ونزوله على الأنصار رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم وتلاحق المهاجرين به [صلى الله عليه وسلم]

- ‌فصل في ذكر مواساة الأنصار المهاجرين بأموالهم لما قدموا عليهم المدينة

- ‌فصل في ذكر من بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلم الأنصار وغيرهم القرآن ويفقههم في الدين

- ‌عقوبة من سب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في التنبيه على شرف مقام أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما وصاياه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر [أمراء] سرايا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فأما اعتذاره صلى الله عليه وسلم عن التخلف

- ‌فصل في ذكر من استخلفه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المدينة في غيبته عنها في غزو، أو حج، أو عمرة

- ‌فصل في ذكر من استعمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في جيوشه عند عودته صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالرعب

- ‌فصل في ذكر مشورة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحرب وذكر من رجع إلى رأيه

- ‌فصل في ذكر ما كان يقوله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا غزا

- ‌فصل في ذكر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها

- ‌فصل في وقت إغارة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر الوقت الّذي كان يقاتل فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين في محاربتهم

- ‌فصل في ذكر شعار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حروبه

- ‌فصل في ذكر المغازي التي قاتل فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر ما كان للنّبيّ عليه السلام من الغنيمة

- ‌فصل في ذكر من جعله النبي عليه السلام على مغانم حروبه

- ‌فصل في ذكر من كان على ثقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر من حدا [ (1) ] برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أسفاره

- ‌فصل في ذكر وزير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر صاحب سر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر من كان يكتب الوحي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الّذي كان يختم به

- ‌فصل في ذكر ما كان يختم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتبه

- ‌فصل في ذكر صاحب خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتابة الجيش وقسمه العطاء فيهم وعرضهم وعرفائهم

- ‌فصل في ذكر ما أقطعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأرضين ونحوه

- ‌فصل في ذكر أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجزية والخراج

- ‌فصل في ذكر عمال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الجزية

- ‌فصل في ذكر عمال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الزكاة

- ‌فصل في ذكر الصدقة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر الخارص على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في ذكر من ولى السوق في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتعرف هذه الولاية اليوم بالحسبة ومتوليها يقال له المحتسب [ (1) ]

الفصل: ‌فصل في ذكر عمرات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد هجرته

[المجلد التاسع]

بسم الله الرحمن الرحيم

‌فصل في ذكر عمرات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد هجرته

قال [الزّجّاج] : معنى العمرة في العمل: الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فقط، والعمرة للإنسان في جميع السنة، والحج وقته وقت واحد من السنة، ومعنى اعتمر في قصد البيت، أنه إنما خصّ بهذا، لأنه قصد بعمل في موضع عامر، وقال كراع: الاعتمار: العمرة، سمّاها بالمصدر.

قاله ابن سيده في (المحكم)[ (1) ] .

[ (1) ] قال في (اللسان) : والعمرة: طاعة اللَّه عز وجل، والعمرة في الحج: معروفة، وقد اعتمر، وأصله من الزيارة، والجمع العمر.

وقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قال الزّجّاج: معنى العمرة في العمل:

الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فقط، والفرق بين الحج والعمرة أن العمرة تكون للإنسان في السنة كلها، والحج في وقت واحد في السنة.

قال: ولا يجوز أن يحرم به إلا في أشهر الحج: شوال، وذي القعدة، وعشر من ذي الحجة، وتمام العمرة أن يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، والحج لا يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة.

والعمرة مأخوذة من الاعتمار، وهو الزيارة ومعنى اعتمر قصد البيت، إنه إنما خص بهذا لأنه قصد بعمل في موضع عامر، ولذلك قيل للمحرم بالعمرة: معتمر.

وفي الحديث ذكر العمرة والاعتمار في غير موضع، وهو الزيارة والقصد، وهو في الشرع: زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة.

وفي حديث الأسود قال: خرجنا عمارا فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال: أحلقتم الشعث وقضيتم التفث عمارا؟ أي معتمرين.

وقال الزمخشريّ: ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر، ولكن عمر اللَّه إذا عبده، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما، وهو يعمر ربه أي يصلى ويصوم.

والعمرة: أن يبنى الرجل بامرأته في أهلها، فإن نقلها فذلك العرس، قاله ابن الأعرابي.

(لسان العرب) 4/ 604- 605 مختصرا.

ص: 3

وقد اتفقوا على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اعتمر ثلاث عمر، صدّه المشركون في الأولى عن البيت، فعاد من الحديبيّة ثم اعتمر من قابل، وكانت عمرة القضاء، واعتمر أيضا من الجعرانة، بعد فتح مكة- شرّفها اللَّه-[قال] ابن إسحاق: واعتمر عمرة رابعة مع حجته.

خرج الحاكم من حديث داود بن عبد الرحمن قال: سمعت عمرو بن دينار يحدّث عن عكرمة [عن] ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبيّة، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجّته. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. [ولم يخرجاه][ (1) ] .

وأما عمرة الحديبيّة [ (2) ] فقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان، وشوّالا- يعنى سنة ست- وخرج من ذي القعدة معتمرا،

[ (1) ](المستدرك) : 3/ 52، كتاب المغازي والسرايا، حديث رقم (4372)، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .

[ (2) ] الحديبيّة: بئر سمى المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت فسمى المكان بها. قال المحب الطبري: الحديبيّة قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.

ووقع في رواية ابن إسحاق في (المغازي) عن الزهري: «خرج صلى الله عليه وسلم عام الحديبيّة يريد زيارة البيت لا يريد قتالا. ووقع عند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة. في بضع عشر مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، يدعى ناجية، يأتيه بخبر قريش، كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الّذي بعث معه الهدى، كما صرح بذلك ابن إسحاق وغيره. وأما الّذي بعثه عينا لخبر قريش، فاسمه بسر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق، وهو بضم الموحدة، وسكون المهملة على الصحيح.

وسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط [اسم موضع] أتاه عينه قال: إن قريشا جمعوا جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك، عن البيت، ومانعوك، فقال:

أشيروا علي أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان اللَّه عز وجل قد قطع عينا من المشركين، إلا وتركناهم محروبين. -

ص: 4

_________

[ () ] فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد توجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم اللَّه،

وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وبلغ المشركين خروجه صلى الله عليه وسلم فأجمعوا رأيهم على صده عن مكة وعسكروا ببلدح [موضع خارج مكة] .

وسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية فقال: من يخرجنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول اللَّه، فسلك بهم طريقا وعرا، فخرجوا منها بعد أن شق عليهم، وأفضوا إلى أرض سهلة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: استغفروا اللَّه ففعلوا. فقال: والّذي نفسي بيده إنها للحطة التي عرضت على بنى إسرائيل فامتنعوا [إشارة إلى قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ البقرة: [58- 59] .

قال ابن إسحاق عن الزهري في حديثه، فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض، في طريق تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبيّة. وثنية المرار- بكسر الميم وتخفيف الراء هي طريق في الجبل تشرف على الحديبيّة- وزعم الداوديّ أنها الثنية التي أسفل مكة، وهو وهم.

وسمى ابن سعد الّذي سلك بهم: حمزة بن عمرو الأسلمي. وفي رواية أبى الأسود عن عروة: فقال من رجل يأخذ بنا عن يمين المحجة نحو سيف البحر، لعلنا نطوى مسلحة القوم، وذلك من الليل، فنزل رجل من دابته، فذكر القصة.

فلما فرغوا من القضية أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالهدى فساقه المسلمون- يعنى إلى جهة الحرم- حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالنحر.

فما قام رجل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطاء الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ ذلك لهم لأنه كان في زمان وقوع النسخ.

ويحتمل أن يكونوا قد ألهتهم صورة الحال، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، من ظهور قوتهم، واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه-

ص: 5

_________

[ () ] الأمور جميعها، كما سيأتي في كلام أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب، لما يطرق القصة من الاحتمال.

فاشتد ذلك عليه صلى الله عليه وسلم،

فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا فلم يفعلوا،

قال: فجلى اللَّه تبارك وتعالى عنهم يومئذ بأم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.

قالت أم سلمة رضى اللَّه وتبارك وتعالى عنها: يا نبي اللَّه! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم، فإنّهم قد دخلوا في أمر عظيم لما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفى عنهم هذا الاحتمال.

وعرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.

وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة، كذا قال: وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسى عليه السلام.

نحر صلى الله عليه وسلم هديه، وكان سبعين بدنة، كان فيها جمل لأبى جهل، في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين، وكان صلى الله عليه وسلم غنمه منه في غزوة بدر، ودعا حالقة خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فحلقه.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد اللَّه بن أبى نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس: حلق رجال يومئذ وقصر آخرون، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يرحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين

الحديث، وفي آخره قالوا: يا رسول اللَّه! لم ظاهرت للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا.

قال ابن إسحاق: قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، ونزلت سورة الفتح- فذكر الحديث في تفسيرها إلى أن قال: - قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبيّة. (فتح الباري) :

5/ 412 كتاب الشروط باب (15) الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابه الشروط حديث رقم (2731، 2732) مع اختصار الشرح. -

ص: 6

_________

[ () ](3) عمرة القضاء، تسمى بعمرة القضية، لأنه صلى الله عليه وسلم قاضى فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صدّ عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمرات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعا.

وقال آخرون بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدوا عمرة الحديبيّة في العمر لثبوت الأجر فيها. لا لأنها كملت، وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت، فقال الجمهور: يجب عليه الهدى ولا قضاء عليه.

وعند أبى حنيفة عكسه، وعن أحمد رواية: أنه لا يلزمه هدى ولا قضاء، وأخرى: أنه يلزمه القضاء والهدى.

فحجة الجمهور: قوله تبارك وتعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] .

وحجة أبى حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.

وحجة من أوجبها: ما وقع للصحابة، فإنّهم نحروا الهدى حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدى.

وحجة من لم يوجبها: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدى بل أمر من معه هدى أن ينحر، ومن ليس معه هدى أن يحلق.

قال الحاكم في (الإكليل) : تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هلّ ذو القعدة- يعنى سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبيّة، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر، ورجال ماتوا.

وخرج معه من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاريّ، وساق صلى الله عليه وسلم ستين بدنة، وحمل السلاح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الخليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشير بن سعد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.

وأحرم صلى الله عليه وسلم ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء اللَّه تعالى. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.

ص: 7

لا يريد حربا، واستنفر العرب من حوله من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا

[ () ] ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج [موضع بمكة] حيث ينظر إلى أنصاب الحرم [أي إلى حدوده] ، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال.

وقدّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الهدى أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف محدّقون برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبّون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته، ولم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه، وطاف على راحلته والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم.

ثم طاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه- وقد وقف الهدى عند المروة- قال: هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر، وحلق هناك وكذلك فعل المسلمون.

وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجالا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا وأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا:(المواهب اللدنية) : 1/ 540- 546 مختصرا.

قال ابن سعد: أخبرنا أحمد بن عبد اللَّه بن يونس، عن داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الملك، عن محرش الكعبي، هكذا قال: اعتمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلا من الجعرانة ثم رجع كبائت، قال: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس، قال داود: عام الفتح.

ثم قال: أخبرنا موسى بن داود، أخبرنا ابن لهيعة عن عياض بن عبد الرحمن، عن محمد بن جعفر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة، وقال: اعتمر منها سبعون نبيا. (طبقات ابن سعد) : 2/ 171- 172، ذكر عمرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن سعد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا يحى بن حمزة عن أبى وهب عن مكحول أنه سئل: كيف حج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن حج معه من أصحابه؟ فقال: حج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن حج معه من أصحابه معهم النساء والولدان، قال مكحول: تمتعوا بالعمرة إلى الحج، فحلوا فأحل لهم ما يحل للحلال من النساء والطيب. (طبقات ابن سعد) : 2/ 176.

ص: 8

معه، وهو يخشى من قريش الّذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظما له.

وخرّج البخاري في كتاب الشروط، من حديث عبد الرزاق، قال:

أنبأنا معمر قال: أخبرنى الزهري قال: أخبرنى عروة بن الزبير، عن المسور ابن مخرمة، [ومروان] ، يصدّق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زمن الحديبيّة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فو اللَّه ما شعر بهم خالد، حتى إذا هم بقترة- القترة: غبرة الخيل، ويقال: القتر أيضا- فانطلق يركض نذيرا لقريش.

وسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والّذي نفسي بيده، لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أعطيتهم إياها،

ثم زجرها فوثبت، قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو اللَّه ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ

جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة- فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبيّة، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت

ص: 9

بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمّوا، وإن هم أبوا فو الّذي نفسي بيده لأقتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن اللَّه أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.

قال: فانطلق حتى أتى قريشا قال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذوو الرأى منهم: هات ما سمعته يقول، قال: يقول سمعته يقول: كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال:

أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموننى؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنى استنفرت أهل عكاظ، فلما بلّحوا عليّ [أي تمنعوا من الإجابة] جئتكم بأهلى وولدى ومن أطاعنى؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه. قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه نحوا من قوله لبديل. قال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإنّي واللَّه لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والّذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: وجعل يكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنصل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟

قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟

وكان

ص: 10

المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء.

ثم إن عروة أخذ يرمق أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعينه. قال: فو اللَّه ما تنخم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! واللَّه لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، واللَّه إن رأيت مليكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، واللَّه إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بنى كنانة دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان اللَّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته.

فلما أشرف عليهم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز، وهو رجل فاجر.

فجعل يكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.

قال معمر:

فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

قد سهل لكم من أمركم.

قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاءه سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال سهيل: أما الرحمن فو اللَّه ما أدرى ما هي، ولكن اكتب باسمك اللَّهمّ كما كنت تكتب، فقال المسلمون: واللَّه لا نكتبها إلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ

ص: 11

الرَّحِيمِ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اكتب «باسمك اللَّهمّ» . ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللَّه» ، فقال سهيل: واللَّه لو كنا نعلم أنك رسول اللَّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد اللَّه» قال الزهري: وذلك لقوله «لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أعطيتهم إياها» ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: واللَّه لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك في العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان اللَّه، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلى. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنا لم نمض الكتاب بعد. قال: فو اللَّه إذا لم أصالحك على شيء أبدا. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال:

بلى فافعل،

قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في اللَّه.

قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.

قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول اللَّه ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال:

بلى. فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال فإنك آتيه ومطوف به.

قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى.

قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس يعصى ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فو اللَّه إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا

ص: 12

سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.

قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

قوموا فانحروا ثم احلقوا.

قال: فو اللَّه ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي اللَّه أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقة فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.

ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [ (1) ] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبى سفيان والأخرى صفوان بن أمية.

ثم رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير، لأحد الرجلين: واللَّه إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل واللَّه إنه لجيد، فقد جربت به ثم جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرنى انظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد،

وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قتل واللَّه صاحبي وإني لمقتول.

فجاء أبو بصير فقال: يا نبي اللَّه، قد واللَّه أوفى اللَّه ذمتك قد رددتني إليهم، ثم أنجانى اللَّه منهم. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو

[ (1) ] الممتحنة: 10

ص: 13

كان معه أحد،

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.

قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فو اللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها.

فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تناشده اللَّه والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل اللَّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ حتى بلغ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [ (1) ] وكانت حميتهم أنهم لا يقروا أنه نبي اللَّه، ولم يقروا ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت [ (2) ] .

[ (1) ] الفتح: 24- 26

[ (2) ](فتح الباري) : 5/ 412، 416، كتاب الشروط، باب (15) الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2731) ، (2732) ، وفي هذا الحديث فوائد تتعلق بالمناسك، منها: أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة للحاج والمعتمر، وأن تقليد الهدى وسوقه سنة للحاج وللمعتمر فرضا كان أو سنة، وأن الإشعار سنة لامثله، وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصورا كان أو غير محصور، وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر ولو لم يصل إلى الحرم ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقا، وغير ذلك مما قد تقدم بسط أكثره في كتاب الحج، وفيه أشياء تتعلق بالجهاد: منها جواز سبى ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال، وفيه الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإن كان من خصائصه أنه منهيّ عن خائنة الأعين.

وفي الحديث أيضا فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأى واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحا في أصله إذا تعين ذلك

ص: 14

[قال أبو عبد اللَّه: معرة، العر: الجرب، تزيلوا: انمازوا، وحميت القوم منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل. وأحميت الرجل إذا أغضبته إحماء.]

قال عقيل عن الزهري: قال عروة: فأخبرتنى عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن وبلغنا أنه لما أنزل اللَّه أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهن، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، أن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه طلق امرأتين، قريبة بنت أبى أمية، وابنة جرول الخزاعي، فتزوج قريبة معاوية، وتزوج الأخرى أبو جهم.

فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم، أنزل اللَّه: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [ (1) ] ، والعقب ما أدى المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يعطى من ذهبت له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن، وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها.

وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤمنا مهاجرا في المدة، فكتب الأخنس بن شريق [إلى] رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسأله أبا

[ () ] للسلامة في المال والسلاح والمآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال بل عليه التسليم، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبا بكثرة التجربة ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي.

وفيه جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قال الخطابي مستدلا بأن الخزاعي الّذي بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عينا له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافرا: وإنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم، والاختلاط بهم، والاطلاع على أسرارهم، قال:

ويستفاد من ذلك قبول قول الطبيب الكافر، قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم حينئذ، فليس ما قاله دليلا على ما ادعاه، واللَّه سبحانه أعلم بالصواب.

[ (1) ] الممتحنة: 11

ص: 15

بصير، فذكر الحديث [ (1) ] . ترجم عليه وعلى ما اتصل به: باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط مع الناس بالقول، فذكر منه طرفا في غزوة الحديبيّة [ (2) ] ، وفرقه في كتاب الشروط.

وخرجه باختصار من حديث البراء بن عازب [ (3) ] ، وخرجه مسلم من

[ (1) ](فتح الباري) : 5/ 416، 417، كتاب الشروط، باب (15) ، الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2733) .

[ (2) ](فتح الباري) : 7/ 557- 558، وكتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4178) ، (4179) ، (4180) ، (4181) ، (4185) .

[ (3) ] ولفظه:

حدثني فضل بن يعقوب، حدثنا الحسن بن أعين أبو على الحراني، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال، أنبأنا البراء بن عازب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنهم كانوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبيّة ألفا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتى البئر ثم قعد على شفيرها ثم قال: ائتوني بدلو من مائها، فأتى به، فبصق فدعا، ثم قال: دعوها ساعة، فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا. (فتح الباري) : 7/ 559، 560، كتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، حديث رقم (4151) .

ونحوه حديث رقم (4152) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وذكر معجزة تكثير الماء في الركوة، وقال في آخره:«فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» .

وقد أخرج الإمام أحمد من حديث جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، من طريق نبيح العنزي عنه، وفيه: فجاء رجل بإداوة فيها شيء من ماء ليس يفى الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: فتزاحم الناس على القدح، فقال: على رسلكم، فوضع كفه صلى الله عليه وسلم في القدح ثم قال:

أسبغوا الوضوء، قال: فلقد رأيت العيون عين الماء تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. (فتح الباري) :

7/ 561.

ص: 16