الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر خروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة إذ مكر به المشركون، وهجرته إلى المدينة دار هجرته ونزوله على الأنصار رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم وتلاحق المهاجرين به [صلى الله عليه وسلم]
قال ابن قتيبة: الهجرة، من هجرت الرجل هجرانا وهجرا، إذا قطعته، وكان الرجل إذا أسلم هجر قومه، فيفر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسمى مسيره إليه هجرة. وقيل: هاجر، خرج من أرض، والمدينة [فعيلة تجمع [ (1) ] على مدائن بالهمز] ولذلك همزت في الجمع، لأنه لا أصل للياء في الحركة، وقيل: هي من دان، تدين دينا، إذا أطاع، والدين، الطاعة، والمدينة، موضع الطاعة.
وقال أبو عبيد: دنته، ملكته، وقال ابن كيسان: مدينة، فعلة من مدنت، وتكون مفعله من دان يدين.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب [عن] الزهري: ومكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الحج، بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أن يقتلوه، أو يخرجوه، حين ظنوا أنه خارج، وعلموا أن اللَّه قد جعل له مأوى ومنعة، ولأصحابه، وبلغهم إسلام من أسلم، ورأوا من يخرج إليهم من المهاجرين، فأجمعوا أن يقتلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو يثبتوه، فقال اللَّه عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [ (2) ] .
وبلغه صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم الّذي آتى فيه أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنهم مبيتوه إذا أمسى على فراشه، فخرج وأبو بكر من جوف
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان من (لسان العرب) : 13/ 402.
[ (2) ] الأنفال: 30.
الليل قبل الغار- غار ثور- وهو الّذي ذكر اللَّه عز وجل في الكتاب، وعمد على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فرقد على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وباتت قريش يختلفون ويأتمرون، أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه، فكان ذلك أمرهم حتى أصبحوا، فإذا هم بعلي بن أبى طالب، فسألوه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم، فركبوا في كل وجه يطلبونه.
وقال يونس بن بكير، إن ابن إسحاق قال: فلما أيقنت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بويع، وأمر من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة [تآمروا] فيما بينهم فقالوا: الآن فأجمعوا في أمر محمد، فو اللَّه لكأنه قد كر عليكم بالرجال، فأثبتوه، أو اقتلوه، أو أخرجوه، فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه، فزعم ابن دريد في (الوشاح) ، أنهم كانوا خمسة عشر رجلا. وذكر ابن دحية في كتاب (المولد) ، أنهم كانوا مائة رجل.
قال ابن [إسحاق] : فلما دخلوا الدار، اعترضهم الشيطان في صورة رجل [جميل] في بت له، قال: أدخل؟ قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له، وأراد أن يحضره معكم، فعسى أن لا يعدمكم رأى ونصح، فقالوا: أجل، فادخل، فلما دخل قال بعضهم لبعض:
قد كان من الأمر ما قد علمتم، [أجمعوا] في هذا الرجل رأيا واحدا، وكان ممن اجتمع له في دار الندوة: شيبة، وعتبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والنضر بن الحارث، فقال قائل منهم: أرى أن تحبسوه، وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير بن أبى سلمى، والنابغة، وغيرهما، فقال النجدي: واللَّه ما هذا لكم برأي، واللَّه لئن فعلتم لخرج رأيه وحديثه حيث حبستموه، إلى من وراءه من أصحابه، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم، ثم يغلبوكم على ما في أيديكم من أمركم.
فقال قائل منهم: بل نخرجه فننفيه من بلادنا، فإذا غيب عنا وجهه وحديثه، فو اللَّه ما نبالى أين وقع من البلاد، ولئن كان أجمعنا بعد ذلك أمرنا،
وأصلحنا ذات بيننا، قال [الشيخ] النجدي: لا، واللَّه ما هذا لكم برأي، أما رأيتم حلاوة منطقه، وحسن حديثه، وغلبته على ما يلقاه، دون من خالفه، واللَّه لكأنّي به إن فعلتم ذلك، قد دخل على قبيلة من قبائل العرب، فأصفقت معه على رأيه، ثم سار بهم إليكم، حتى بطأكم بهم، فلا واللَّه ما هذا لكم برأي.
فقال أبو جهل بن هشام: واللَّه إن لي فيه لرأيا، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: وما هو؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما، فتيا، جلدا، نسيبا، وسيطا، ثم تعطوهم شفارا صارمة، ثم يجتمعوا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه، تفرق دمه في القبائل، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، يقعوا على حرب قومهم، فإنما قصرهم عند ذلك أن يأخذوا العقل، [فتؤدونه] لهم، قال الشيخ النجدي: للَّه در الفتى، هذا هو الرأى، وإلا فلا شيء، فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له، وأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخبر، وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة، فلم يبت حيث كان يبيت، وبيت عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في مضجعه.
وقال ابن إسحاق، عن عبد اللَّه بن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان، مولى أم هانئ، عن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن نفرا من قريش، من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا، فذكر معنى هذه القصة، إلى أن قال: فأتى جبريل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الّذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في بيته تلك الليلة.
وأذن اللَّه عز وجل عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة في [سورة] الأنفال يذكر نعمته عليه، وبلاءه عنده: صلى الله عليه وسلم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ [ (1) ]، وأنزل في قولهم: تربصوا [به] حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [ (2) ] .
وقال يونس عن ابن إسحاق: وأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر اللَّه، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت، وأرادوا به [ما] أرادوه، أتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن لا يبيت في مكانه الّذي كان يبيت به، ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتشح ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه، وخرج [و] معه [حفنة] من تراب، فجعل ينثرها على رءوسهم، وأخذ اللَّه عز وجل بأبصارهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم [وهو] يقرأ: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ* لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (3) ] وذكر الواقدي: أن الذين كانوا ينتظرونه: أبو جهل، والحكم بن أبى العاصي، وعقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وابن القيطلة، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي، وأبو لهب، وأبى بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
وذكر أن قريشا بعثت قائفين يقصان آثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أحدهما كرز ابن علقمة بن هلال الخزاعي، فاتبعاه حتى انتهيا إلى غار ثور، فرأى كرز عليه نسج العنكبوت، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فانصرفوا، وقال بعضهم:
ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أريكم إلى الغار، وعليه من نسج العنكبوت ما عليه، واللَّه إني لأرى هذا النسج قبل أن يولد محمد، وبال حتى جرى بوله بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر.
[ (1) ] الأنفال: 30.
[ (2) ] الطور: 30.
[ (3) ] يس: 1- 9.
وقال محمد بن عبد الملك بن هشام، عن زياد بن عبد اللَّه البكائي، عن ابن إسحاق: واذن اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك في الهجرة وكان أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه رجلا ذا مال، فكان حين استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال له: لا تعجل، لعل اللَّه يجعل لك صاحبا،
فيطمع [أبو بكر] بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه حين قال ذلك، [فابتاع] راحلتين، فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك.
فحدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الّذي أذن اللَّه فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة، من بين ظهري قومه، أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتى فيها،
قالت: فلما رآه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ما جاء رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبى بكر إلا أنا، وأختى أسماء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أخرج عنى من عندك، فقال يا رسول اللَّه: إنما هما ابنتاى، وما ذاك؟ فداك أبى وأمى، قال: إن اللَّه عز وجل أذن لي في الخروج والهجرة.
قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول اللَّه، قال: الصحبة،
قالت فو اللَّه ما شعرت قط قبل ذلك اليوم، أن أحدا يبكى من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ، ثم قال: يا نبي اللَّه، إن هاتين راحلتان، كنت أعددتهما لهذا.
وفي (طبقات ابن سعد) : أن ثمنها ثمان مائة درهم، اشتراهما من نعم بنى قشير، فأخذ صلى الله عليه وسلم القصواء بثمنها.
قال ابن هشام: فاستأجرا عبد اللَّه بن أريقط- رجلا من بنى الديل من بكر، وكانت أمه امرأة من بنى سهم بن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، وكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج، إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبى بكر، أما على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما بلغني أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بمكة، حتى يؤدى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته، فلما أجمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخروج، أتى أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فخرجا من خوخة لأبى بكر في ظهر بيته، ثم إلى غار بثور- جبل بأسفل مكة- فدخلاه وأمر أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ابنه عبد اللَّه بن أبى بكر، أن يسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيها إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه، أن يرعى غنمة نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما تأتيهما من الطعام إذا أمست، بما يصلحهما.
فأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا، ومعه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم، وكان عبد اللَّه بن أبى بكر يكون في قريش [نهاره] معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد اللَّه بن أبى بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، حتى يعفى عليه.
حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الّذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها [عصام][ (1) ] ،
[ (1) ] العصام: الحبل يشد على فهم المزادة.
فتحل نطاقها، فتجعله عصاما [ (1) ] ، ثم علقتها به، وكان يقال لأسماء: ذات [النطاقين] لذلك.
فلما قرب أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه الراحلتين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم أفضلهما، ثم قال: اركب، فداك أبى وأمى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إني لا أركب بعيرا ليس لي، قال: فهي لك يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمى، قال لا، ولكن بالثمن الّذي ابتعتها به [ (1) ] ؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها به،
قال هي لك يا رسول اللَّه، فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق، وحمل أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مع نفسه جميع ماله، وهو نحو ستة آلاف درهم.
قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد اللَّه بن أريقط، سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل، أسفل من عسفان [ (2) ] . وذكر المبارك، حتى قال: ثم قدم بهما قبائل بنى عمرو بن عوف، لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل.
قال ابن هاشم: ويقال بل نزل على سعد بن خيثمة، ونزل أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على حبيب بن إساف. ويقال: بل كان منزله على خارجة بن زيد.
وأقام على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى رد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنزل معه على كلثوم بن هدم، فأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقباء في بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم أخرجه اللَّه بين أظهرهم، يوم الجمعة،
[ (1) ] إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك، لتكون هجرته إلى اللَّه بنفسه وماله، رغبة منه صلى الله عليه وسلم في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتم أحوالها، وهو قول حسن، عن كثير من أهل العلم.
[ (2) ] سمى عسفان لتعسف السيول فيه.
حتى أسس مسجده- كما تقدم- ونزل بدار أبى أيوب الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم تحول إلى مساكنه.
قال محمد بن زبالة: ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفل بيت أبى أيوب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، [فكره] أبو أيوب أن [يكون] منزله فوق رأس رسول اللَّه، فلم يزل ساهرا حتى أصبح. فقال يا رسول اللَّه، إني أخشى أن أكون قد ظلمت نفسي، أنى فوق رأس رسول اللَّه، فينزل التراب من وطئ أقدامنا، وإنه أطيب لنفسي أن أكون تحتك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
السفل أرفق بنا وبمن يغشانا،
فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العلو، فابتاع المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ذلك البيت من أبى أفلح، مولى أبى أيوب بألف دينار، فتصدق به، وقد بنى ولم يغير سقفه.
وقال ابن إسحاق: وتلاحق المهاجرون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم يبق منهم أحد إلا مفتون أو محبوس، قال: فأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إذ قدمها شهر ربيع الأول، إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه، فاستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور إلا أسلم أهلها، إلا من كان من خطمة، وواقف، ووائل، وأمية، وكذلك أوس اللَّه، وهم حي من الأوس، فإنّهم أقاموا على شركهم.
وكتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم، وقد تقدم ذكره [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وآخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم ذكرهم.
وقد خرج البخاري حديث الهجرة من طريق يحى بن بكير، قال:
حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فذكره في آخر كتاب الكفالة، وترجم عليه باب: جوار
[ (1) ](سيرة ابن هشام) : 3/ 17- 31.
أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] وذكره في كتاب الهجرة مطولا [ (2) ] . وفرقه في عدة مواضع من طرق أخر [ (3) ] . وخرجه مسلم من طرق [ (4) ] .
وأخرج الإمام أحمد من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن ثابت عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، لعبت الحبشة بحرابها فرحا بذلك [ (5) ] .
[ (1) ](فتح الباري) : 4/ 599، كتاب الكفالة، باب (4) جوار أبى بكر في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعقده، حديث رقم (2297)
[ (2) ](فتح الباري) : 7/ 291، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3905) .
[ (3) ](فتح الباري) : 4/ 442، كتاب البيوع، باب (57) إذا اشترى متاعا أو دابة، فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض، حديث رقم (2138) ، 4/ 577 كتاب الإجارة، باب (3) استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام وعامل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، حديث رقم (2263) ، 4/ 558، كتاب الإجارة باب (4) إذا استأجر أجيرا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، أو بعد شهر أو بعد سنة جاز وهي على شرطها الّذي اشترطاه إذا جاء الأجل، حديث رقم (2264) ، 7/ 291، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3905) ، 7/ 494، كتاب المغازي، باب (29) غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة، وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه. قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم ابن عمر أنها بعد أحد، حديث رقم (4093) ، 10/ 336، كتاب اللباس باب (16) التقنع، حديث رقم (5807) ، 10/ 610، كتاب الأدب باب (64) هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا، حديث رقم (6079) . وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 283، حديث رقم (25098) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (4) ](مسلم بشرح النووي) : 13/ 190- 191، كتاب الأشربة، باب (10) جواز شرب اللبن، حديث رقم (90) ، (91) ، (92) من طرق وسياقات مختلفة مختصرا.
[ (5) ](مسند أحمد) : 3/ 638، حديث رقم (12238) ، من مسند أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقال عبد الأعلى: عن عوف، عن ثمامة، عن أنس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مر بجوارى من الأنصار وهن يغنين يقلن:
نحن جوار بنى النجار وحبذا محمد من جار فقال صلى الله عليه وسلم: اللَّه يعلم أنى أحبكن [ (1) ] .
وقال أبى خليفة، الفضل بن الحباب: سمعت ابن عائشة يقول:
لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جعل النساء والصبيان [الولائد] يقلن:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا للَّه داع
[أيها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع [ (2) ]]
وخرج الحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال:
شهدت يوم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم أر يوما أحسن أو أضوأ منه. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم [ (3) ] . [ولم يخرجاه][ (4) ] .
ومن حديث إسرائيل، عن ابن إسحاق، عن البراء، عن أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ومضى رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] حتى قدم المدينة، وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق، وصاح النساء، والخدام، والغلمان، جاء محمد، جاء رسول اللَّه، اللَّه أكبر، جاء رسول اللَّه، فلما أصبح انطلق، فنزل حيث أمر. قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (5) ] . [ولم يخرجاه][ (6) ] وله ولابن حبان، من حديث الحسين بن واقد، عن يزيد النحويّ، أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من
[ (1) ](تاريخ الخميس) : 1/ 341- 342
[ (2) ](المستدرك) : 3/ 14، كتاب (29) الهجرة، حديث رقم (4281) .
[ (3) ] زيادة في السياق من (المستدرك) .
[ (4) ](المرجع السابق) : حديث رقم (4282) .
[ (5) ](المرجع السابق) : حديث رقم (2482) .
[ (6) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
أخبث الناس كيلا، فأنزل اللَّه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. [ (1) ] فأحسنوا الكيل بعد ذلك [ (2) ] . قال هذا حديث صحيح.
وفي كتاب (شرف المصطفى) : لما بركت الناقة على باب أبى أيوب، خرج جوار من بنى النجار يضربن بالدفوف ويقلن:
نحن جوار بنى النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فقال [صلى الله عليه وسلم] : أتحبينني؟ قلن: نعم يا رسول اللَّه، فقال: أنا واللَّه أحبكن، قالها صلى الله عليه وسلم ثلاثا. [ (3) ]
[ (1) ] المطففين: 1- 3.
[ (2) ](الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 11/ 286، كتاب (24) البيوع، ذكر السبب الّذي من أجله أنزل اللَّه جل وعلا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، حديث رقم (4919)، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 38، كتاب البيوع، حديث رقم (2240)، وقال في آخره: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وله شاهد عن أبى هريرة مفسر وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح، وأخرجه الواقدي في (أسباب النزول) :298.
[ (3) ](تاريخ الخميس) : 1/ 341- 342.