الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتابة الجيش وقسمه العطاء فيهم وعرضهم وعرفائهم
اعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بكتابه المسلمين فكتبوا في عصره، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم الفيء بينهم، وإنما كانوا يكتبون في أوقات دون أوقات. فإذا عين صلى الله عليه وسلم طائفة من المسلمين في بعث أو سرية كتبوا، وكذلك كان العطاء في عصره صلى الله عليه وسلم في وقت دون وقت، من غير تعيين وقت لذلك، ولا تحديد مقدار لا يزاد عليه [ (1) ] .
واقتدى برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خليفته أبو بكر الصديق [ (2) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى، فكان يعطى الناس في خلافته الأعطيات. فلما استخلف أمير
[ () ](المعارف) : 316 و 584، (الاستيعاب) : 4/ 1478- 1479، ترجمة رقم (2559)، (سير الأعلام) : 2/ 491- 493، ترجمة رقم (102)، (التاريخ الكبير) : 8/ 52- 53 ترجمة رقم (2123)، (أسماء الصحابة الرواة) : 186، ترجمة رقم (235) (الثقات) :
3/ 404، (الأعلام) : 7/ 274، (الجرح والتعديل) : 8/ 426، (تهذيب التهذيب) :
10/ 227- 228، ترجمة رقم (458)، (شذرات الذهب) : 1/ 48.
[ (1) ] خرج أبو داود عن عوف بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى صاحب الأهل حظين، وأعطى الأعزب حظا، فدعينا، وكنت قبل عمار، فدعيت، فأعطانى حظين، وكان لي أهل، ثم دعا بعدي عمار بن ياسر فأعطاه حظا واحدا. (التراتيب الادارية) :
1/ 224- فصل في ثبوت العطاء في عهده صلى الله عليه وسلم.
[ (2) ] وفي (الموطأ) أن أبا بكر كان إذا أعطى الناس أعطياتهم سأل الرجل: هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة؟ فإن قال: نعم، أخذ من عطائه زكاة ذلك المال، وإن قال: لا، أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا. (المرجع السابق) .
المؤمنين عمر بن الخطاب [ (1) ] . وضع الديوان [ (2) ] . وفرض الأعطيات. ورتب الناس في الديوان على منازلهم، وقدر أعطياتهم، وذلك أن الناس كثروا
[ (1) ] قال الإمام أبو يوسف في كتاب (الخراج) : لم يكن في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرتبة معينة للجنود الذين كانوا يتألفون من جميع أرجاء المسلمين، وإنما كانوا يأخذون مالهم في أربعة أخماس ما يغنمون، وفيما يرد من خراج الأرض التي أبقيت في أيدي أهلها كأرض خيبر، ولما ولى أبو بكر أعطى الناس وسوى بينهم في العطاء قائلا: هذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة. فلما ولى عمر، رأى في ذلك غير رأى أبى بكر، وقسم العطاء مفضلا الأسبق فالأسبق.
وفي ترجمة عمرو بن الغفواء من (طبقات ابن سعد) عنه قال: دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبى سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح فقال: التمس صاحبا، قال: فجاءني عمرو بن أمية الضمريّ، فقال: بلغني أنك تريد الخروج، وأنك تلتمس صاحبا.
قلت: أجل، قال: فأنا صاحب. قال: فجئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: وجدت صاحبا. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لي: إذا وجدت صاحبا فآذنى. قال: فقال من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمريّ، قال:
فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره، فإنه قد قال القائل: أخوك البكريّ ولا تأمنه. (التراتيب الادارية) : 1/ 224- 225، فصلا في ثبوت العطاء في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (الاستيعاب) : 3/ 1198، ترجمة عمرو بن الغفواء رقم (1946)، (الإصابة) : 4/ 670 ترجمة رقم (5936) .
[ (2) ] الديوان دفتر يكتب فيه أسماء أهل العطاء، والعساكر، على القبائل والبطون. وفي (النهاية) :
الديوان دفتر يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء.
ذكر أبو هلال العسكرىّ في (الأوائل) ، والماورديّ في (الأحكام السلطانية) أن أول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وفي ترجمة عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، في (تهذيب الأسماء واللغات) للنووي:
وكان عمر هو أول من دوّن الديوان للمسلمين ورتب الناس على سابقتهم في العطاء، وفي الإذن، والاكرام، فكان أهل بدر أول الناس دخولا عليه، وكان على بن أبى طالب أولهم، وأثبت أسماءهم في الديوان على قربهم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبدأ ببني هاشم، وبنى المطلب، ثم الأقرب، فالأقرب.
وفي (صبح الأعشى) للقلقشندىّ أيضا ما نصه: هو- أي عمر- أول من رتب بيت
_________
[ () ] المال فيما ذكره العسكرىّ، لكنه ذكر في موضع آخر أن عمر كان على بيت المال من قبل أبى بكر، فيكون أبو بكر قد سبقه إلى ذلك.
وفي ترجمة أبى بكر من (تاريخ الخلفاء) للسيوطي في فصل أولياته: ومنها أنه أول من اتخذ بيت المال، أخرج ابن سعد عن سهل بن أبى خيثمة وغيره أن أبا بكر كان له بيت مال بالسنح، ليس يحرسة أحد، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال عليه قفل، فكان يعطى ما فيه حتى يفرغ، فلما انتقل إلى المدينة حوّله فجعله في داره، فقدم عليه مال فكان يقسمه على فقراء الناس فيسوى بين الناس في القسم، وكان يشترى الإبل، والخيل، والسلاح، فيجعله في سبيل اللَّه، واشترى قطائف أتى بها من المدائن ففرقها في أرامل المدينة.
فلما توفى أبو بكر ودفن، دعا عمر الأمناء ودخل بهنم في بيت أبى بكر، منهم عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه شيئا، لا دينارا، ولا درهما.
وبهذا الأثر يرد قول أبى هلال العسكري في (الأوائل) : إن أول من اتخذ بيت المال عمر، وقد رددت عليه في كتابي الّذي صنفته في (الأوائل) ، ثم رأيت العسكري تنبه له في موضع آخر من كتابه فقال إن أول من ولى بيت المال أبو عبيدة بن الجراح لأبى بكر ويمكن الجمع بأن أبا بكر أول من اتخذ بيت المال من غير إحصاء ولا تدوين، وعمر أول من دون مثلا.
وفي (الكامل في التاريخ) لابن الأثير: وفي سنة (15) من الهجرة فرض عمر الفروض ودوّن الدواوين، وأعطى العطايا.
وفي (الأحكام السلطانية) للماوردى أقوال في السبب الّذي حمل عمر على ذلك، منها:
أن أبا هريرة قدم إليه بمال من البحرين فقال عمر: ماذا جئت به؟ قال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، وقال أتدري ما تقول؟ فقال؟ نعم مائة ألف خمس مرات، فصعد عمر المنبر، وحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلناه لكم كيلا، وإن شئتم عددناه لكم عدا، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدونون لهم ديوانا، فدون أنت ديوانا، فاستشار عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه الناس في تدوين الديوان، فقال عثمان:
أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا، حتى يعلم من أخذ ممن لم يأخذ خشية أن ينتشر الأمر. -
_________
[ () ] فقال خالد بن الوليد قد كنت بالشام، فرأيت ملوكا لهم دواوين وجندوا أجنادا فدون ديوانا وجند جنودا، فأخذ عمر بقوله، ودعا عقيل بن أبى طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من شبان قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم.
وفي (وفيات الأسلاف) للشهاب المرجاني: وأول من وضع ديوان العساكر في الدولة الإسلامية عمر في محرم سنة عشرين، أمر عقيل بن أبى طالب، ومخرمة، وجبيرا من كتاب قريش، فكتبوا ديوان الجيش بالابتداء من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما بعده على ترتيب الإنسان الأقرب فالأقرب.
وقد استظهر الخزاعي هنا وفصل، أن كتابة الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وتدوينهم إنما كانت في أوقات مخصوصة نحو كتبهم، حين أمر حذيفة بإحصاء الناس، وكذلك العطاء في عصره عليه السلام، لم يكن له وقت معين، ولا مقدار معين، فلما كثر الناس في خلافة عمر، وبيت الأموال وتأكدت الحاجة إلى ضبطهم، وضع الديوان بعد مشاورة الصحابة على ترتيب الأنساب الأقرب فالأقرب، على ما كان يعطيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرؤساء قريش وصناديدهم، مثل أبى سفيان بن حرب وصفوا بن أمية، والأقرع بن حابس التميمي، وأمثالهم وذكر أن أبا بكر، وعمر، ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا، قال: فإنه روى أنه لما قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، جاءوا إلى أبى بكر واستبدلوا الحظ منه لسهامهم، فبدل لهم الحظ، ثم جاءوا إلى عمر، وأخبره بذلك، فأخذ الحظ من يدهم، ومزقة، وقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز اللَّه دينه، فانصرفوا إلى أبى بكر، فأخبروه بما صنع عمر، وقالوا: أنت الخليفة أم هو؟ فقال إن شاء اللَّه هو فأنكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ الصحابة فلم ينكروا، وهذا يدل على أن الناس في زمنه عليه السلام كانوا يأخذون العطاء بالضبط والتقييد، فيدل ذلك على وقوع التدوين، وجعل قوائم للمسلمين وهذا هو الديوان بعينه فتأمل ذلك في (صبح الأعشى) ما نصه: فإن صح ذلك فتكون هذه الدواوين قد وضعت في زمانه عليه السلام، وانظر الفصل الأول من باب كتاب الجيش، وما نقل فيه عن الحافظ في (الفتح) مما يؤول جميعه، بخلاف ما للمتأخرين في هذه الترجمة.
وفي (أحكام القرآن) لابن العربيّ: وأما ولاية الديوان فهي الكتابة، وقد كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم كتاب، وللخلفاء بعده، وهي ضبط الجيوش لمعرفة أرزاقهم، والأموال، لتحصيل فوائدها لمن يستحقها. -
وجبيت الموال، فتأكدت الحاجة إلى ضبطهم، ولذلك اتفق أهل الأثر، وعلماء الأخبار والسير، على أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أول من وضع الديوان في الإسلام. وفرض الأعطيات. وقد أوردت من ذلك في كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)[ (1) ] . ما يكفى ويشفى، إن شاء اللَّه تعالى.
[ () ] وفي (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) للتقى المقريزي: أن معاوية جعل كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول: هل ولد الليلة فيكم مولود، وهل نزل بكم نازل، فيقال: ولد للفلان غلام، ولفلان جارية، فيكتب أسماءهم ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله، فيسميه، وعياله فإذا فرغ من القبيلة أتى إلى الديوان ليثبت ذلك.
[ (1) ] أحد مؤلفات المقريزي المعروف بالخطط المقريزية، حيث وقف المقريزي حياته الخصبة على تدوين تاريخ مصر الإسلامية، وتدوين أمجادها، ومحنها، في مثابرة تثير الدهشة والإعجاب، يدفعه إلى ذلك حب مضطرم لذلك الوطن الّذي نشأ فيه، وترعرع بين ربوعه، وشهد خلال حياته طرفا من محنه وأمجاده، وسحرته معاهده ومعانيه، وصروحه وآثاره.
وأشد ما تبدر هذه القاهرة التي تطبع كتابات المقريزي، في كتابه (الخطط) ، والخطط في الواقع هي أجل ثمار هذه العاطفة المضطرمة، وما أوحت من مثابرة وجلد، وفي الخطط يبلغ المقريزي ذروة الاستيعاب والافتنان والروعة، في وصف الخطط المصرية، وخطط الفسطاط والقاهرة المعزية، نشأة كل منهما، وأحيائها، وصروحها، وتطوراتها الجغرافية، والعمرانية، ومساجدها، وقصورها، ومعاهدها، وكل ما احتوت من بذخ وبهاء وفن، ويقرن ذلك في معظم الأحيان بتاريخ الدول والشخصيات التي قامت في ظلها هذه الصروح، أو أوحت بإنشائها، ثم هو لا يقف عند النواحي التخطيطية والأثرية والفنية، ولكن يفيض في النواحي العمرانية والاقتصادية.
ولهذه المحتويات يلقى كتاب (الخطط) على تاريخ مصر السياسي، والأثري، والاجتماعي، والاقتصادى، في العصور الوسطى، أعظم أضواء اجتمعت في هذا الأثر الخالد.
وقد لبث هذا الأثر الخالد (كتاب الخطط) على كر العصور موضع التقدير والإعجاب، وما يزال إلى يومنا من أنفس المصادر في تاريخ مصر الإسلامية.
وخرج البخاري من حديث سفيان عن الأعمش، عن أبى وائل، عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا إليّ من تلفظ بالإسلام من الناس،
فكتبنا له الفا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة، ولقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف [ (1) ] ؟
[ (1) ](فتح الباري) : 6/ 218، كتاب الجهاد والسير، باب (181) ، كتابة الإمام الناس، حديث رقم (3060) .
قوله: (اكتبوا من تلفظ بالإسلام)
في رواية أبى معاوية عن الأعمش عند مسلم «أحصوا» بدل «اكتبوا» ، وهي أعم من اكتبوا، وقد يفسر أحصوا باكتبوا. قوله:(فقلنا نخاف) هو استفهام تعجب وحذفت منه أداة الاستفهام وهي مقدرة، وزاد أبو معاوية في روايته" فقال: " إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا، وكأن ذلك وقع عند ترقب ما يخاف منه، ولعله كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها. ثم رأيت في شرح ابن التين الجزم بأن ذلك كان عند حفر الخندق وحكى الداوديّ احتمال أن ذلك وقع لما كانوا بالحديبية لأنه قد اختلف في عددهم، هل كانوا ألفا وخمسمائة؟ أو ألفا وأربعمائة؟.
وأما قول حذيفة: «فلقد رأيتنا ابتلينا إلخ» فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان من ولاية بعض أمراء الكوفة، كالوليد بن عقبة، حيث كان يؤخر الصلاة، أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلى وحده سرا، ثم يصلى معه خشية من وقوع الفتنة، وقيل: كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر، وكان بعضهم يقصر سرا وحده خشية الإنكار عليه، ووهم من قال إن ذلك كان أيام قتل عثمان لأن حذيفة لم يحضر ذلك، وفي ذلك علم من أعلام النبوة، من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، وقد وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره.
قوله: «قال: أبو معاوية ما بين ستمائة إلى سبعمائة» أي أن أبا معاوية خالف الثوري أيضا عن الأعمش بهذا الإسناد في العدة، وطريق أبى معاوية هذه وصلها مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة، وكأن رواية الثوري رجحت عند البخاري، فلذلك اعتمدها لكونه أحفظهم مطلقا، وزاد عليهم، وزيادة الثقة الحافظ مقدمة، وأبو معاوية وإن كان أحفظ أصحاب الأعمش
_________
[ () ] بخصوصه، ولذلك اقتصر مسلم على روايته، لكنه لم يجزم بالعدد، فقدم البخاري رواية الثوري لزيادتها بالنسبة لرواية الاثنين ولجزمها بالنسبة لرواية أبى معاوية.
وأما ما ذكره الإسماعيلي أن يحيى بن سعيد الأموي وأبا بكر بن عياش وافقا أبا حمزة في قوله: خمسمائة فتعارض الأكثرية والحفظية، فلا يخفى بعد ذلك الترجيح بالزيادة، وبهذا يظهر رجحان نظر البخاري على غيره. وسلك الداوديّ الشارح طريق الجمع فقال: لعلهم كتبوا مرات في مواطن. وجمع بعضهم بأن المراد بآلاف وخمسمائة جميع من أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبي، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصة، وبالخمسمائة المقاتلة خاصة، وهو أحسن من الجمع الأول، وإن كان بعضهم أبطله بقوله في الرواية الأولى: ألف وخمسمائة رجل لإمكان أن يكون الراويّ أراد بقوله: رجل نفس، وجمع بعضهم بأن المراد بالخمسمائة المقاتلة من أهل المدينة خاصة، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة هم ومن ليس بمقاتل، وبالألف وخمسمائة هم ومن حولهم من أهل القرى والبوادي.
وقال الحافظ: ويخدش في وجوه هذه الاحتمالات كلها اتحاد مخرج الحديث ومداره على الأعمش بسنده، واختلاف أصحابه عليه في العدد المذكور واللَّه أعلم.
وفي الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج الى تمييز من يصلح للمقاتلة بمن لا يصلح، وفيه وقوع العقوبة على الإعجاب بالكثرة، وهو نحو قوله تعالى:
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. وقال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الإعجاب.
ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس «قال رجل: يا رسول اللَّه، إني اكتتبت في غزوة كذا» وهو يرجح الرواية الأولى بلفظ «اكتبوا» لأنها مشعرة بأنه كان من عادتهم كتابة من يتعين للخروج في المغازي. (فتح الباري) مختصرا.
أنبأنا عبدان عن أبى حمزة عن الأعمش، فوجدناهم خمسمائة، وقال أبو معاوية: ما بين ستمائة إلى سبعمائة. ترجم عليه: باب كتابه الإمام الناس [ (1) ] .
وخرج مسلم من طريق أبى معاوية عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا كم تلفظ بالإسلام، قال:
فقلنا: أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ فقال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا،
قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلى إلا سرا.
وقال النسائي: أنبأنا هناد بن السري، عن أبى معاوية بهذا الإسناد.
وقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أحصوا من كان تلفظ بالإسلام، فقلنا: أيخاف علينا؟
…
الحديث، كما قال مسلم. ذكره في الجهاد، وترجم عليه: باب إحصاء الإمام الناس [ (2) ] .
وخرج البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث سفيان بن عيينة قال: حدثنا عمرو بن دينار عن أبى معبد، قال: سمعت ابن عباس رضى اللَّه تبارك
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 2/ 537- 538، كتاب الإيمان، باب (67) الاستسرار بالإيمان للخائف، حديث رقم (149) .
[ (2) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) ، وفي التعليق السابق وشرحه ما يفى إن شاء اللَّه تعالى.
[ (3) ](فتح الباري) : 6/ 176، كتاب الجهاد والسير، باب (140) من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له؟ حديث رقم (3006) ، 9/ 413، كتاب النكاح، باب (112) لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، حديث رقم (5233) .
ويستفاد منه أن الحج في حق مثله أفضل من الجهاد لأنه اجتمع له مع حج التطوع في حقه تحصيل حج الفرض لامرأته وكان اجتماع ذلك له أفضل من مجرد الجهاد الّذي يحصل
_________
[ () ] المقصود منه بغيره، وفيه مشروعيه كتابة الجيش، ونظر الإمام لرعيته بالمصلحة، ومعنى الحديث على نحو ما روى لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان. وهذا الحديث الّذي أشار إليه أخرجه أحمد من حديث عامر بن ربيعة.
وقال النووي: اتفق أهل العلم باللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه، وعمه وأخيه، وابن أخيه، وابن عمه، ونحوهم، وأن الأختان أقارب زوجة الرجل، وأن الأصهار تقع على النوعين. وقد اقتصر أبو عبيد وتبعه ابن فارس والداوديّ على أن الحمو أبو الزوجة، زاد ابن فارس: وأبو الزوج، يعنى أن والد الزوج حمو المرأة، وولد الزوجة حمو الرجل، وهذا الّذي عليه عرف الناس اليوم.
وقال الأصمعي وتبعه الطبري والخطّابى ما نقله النووي، وكذا نقل عن الخليل، ويؤيده قوله عائشة:«ما كان بيني وبين على إلا ما كان بين المرأة وأحمائها» ، وقد قال النووي:
المراد في الحديث أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه، لأنهم محارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت.
قال: وإنما المراد الأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وابن الأخت، ونحوهم. مما لا يحل لها تزويجه لو لم تكن متزوجة، وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبهه بالموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي. وقد جزم الترمذي وغيره كما تقدم، وتبعه المازري بأن الحمو أبو الزوج، وأشعر المازري إلى أنه ذكر للتنبيه على منع غيره بطريق الأولى، وتبعه ابن الأثير في (النهاية)، ورده النووي فقال: هذا كلام فاسد مردود ولا يجوز حمل الحديث عليه. وسيظهر في كلام الأئمة في تفسير المراد بقوله: «الحمو الموت» ما تبين منه أن كلام المازري ليس بفاسد.
وقال الحافظ في (الفتح) : محرم المرأة من حرم عليه نكاحها على التأييد إلا أم الموطوءة بشبهة والملاعنة، فإنّهما حرامان على التأييد، ولا محرمية هناك، وكذا أمهات المؤمنين، وأخرجهن بعضهم بقوله في (التعريف) : بسبب مباح لا لحرمتها. وخرج بقيد التأبيد أخت المرأة، وعمتها، وخالتها، وبنتها، إذا عقد على الأم ولم يدخل بها.
[ (4) ](مسلم بشرح النووي) : 9/ 117، كتاب الحج، باب (74) سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، حديث رقم (424) . -
وتعالى عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتب في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك.
[ () ] قال الإمام النووي في (شرح مسلم)
، قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم»
هذا استثناء منقطع لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوة، فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومعها ذو محرم»
يحتمل أن يريد محرما لها ويحتمل أن يريد محرما لها أو له، وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها، كابنها، وأخيها، وأمها، وأختها، أو يكون محرما له كأخته، وبنته، وعمته، وخالته، فيجوز القعود معها في هذه الأحوال.
ثم إن الحديث مخصوص أيضا بالزوج، فإنه لو كان معها زوجها كان كالمحرم، وأوله بالجواز، وأما إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يستحى منه لصغره، كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوة أجانب، فإن الصحيح جوازه، وقد أوضحت المسألة في (المختار) : أن الخلوة بالأمرد الأجنبي الحسن كالمرأة، فتحرم الخلوة به حيث حرمت بالمرأة إلا إذا كان في جمع من الرجال المعصومين.
قال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها، ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل يلزمه ذلك، إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا اختلاف فيه، ويدل عليه حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها في قصة الإفك واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
اللفظ لمسلم. وقال البخاري: اذهب فاحجج مع امرأتك. ذكره البخاري في كتاب الجهاد، وترجم عليه: باب من اكتتب في جيش، فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر، هل يؤذن له [ (1) ] ؟
وقال في النكاح: أنبأنا على بن عبد اللَّه قال: أنبأنا سفيان، قال: أنبأنا عمرو بهذا الإسناد، ولم يقل في هذا: ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم [ (2) ] .
وذكره في الجهاد في باب: كتابة الإمام الناس، من حديث ابن جريح، عن عمرو بن دينار، عن أبى معبد، عن أبى عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: يا رسول اللَّه، إني كتبت في غزوة كذا وكذا، وامرأتي حاجة، قال صلى الله عليه وسلم: ارجع فاحجج مع امرأتك [ (3) ] .
وأخرجاه من حديث حماد عن عمرو بهذا الإسناد نحوه، وذكر البخاري في كتاب الحج في باب: حج النساء، من طريق حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبى معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم. فقال رجل: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: أخرج معها [ (4) ] .
[ (1) ](فتح الباري) : 6/ 176، كتاب الجهاد، باب (140) من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، أو كان له عذر هل يؤذن له؟ حديث رقم (3006) .
[ (2) ](المرجع السابق) : 9/ 413، كتاب النكاح، باب (112) لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، حديث رقم (5233) .
[ (3) ](المرجع السابق) : 6/ 219، كتاب الجهاد والسير، باب (181) كتابة الإمام الناس، حديث رقم (3061) .
[ (4) ](فتح الباري) : 4/ 89، كتاب جزاء الصيد، باب (26) حج النساء، حديث رقم (1862) .
وخرج البخاري من حديث إبراهيم بن طمهان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمال من
[ () ] قوله: «بمال من البحرين» روى ابن أبى شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا أنه كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرميّ من خراج البحرين، قال: وهو أول خراج حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعند المصنف في المغازي من حديث عمرو بن عوف: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرميّ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمال فسمعت الأنصار بقدومه..» الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي بالمال، لكن في (الردة) للواقدي: أن رسول العلاء بن الحضرميّ بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفي، فلعله كان رفيق أبى عبيدة، وأما حديث جابر، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك» وفيه:
«فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم..» الحديث، فهو صحيح كما سيأتي عند المصنف، وليس معارضا لما تقدم، بل المراد أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان مال خراج أو جزية فكان يقدم من سنة إلى سنة.
قوله: «وفأديت عقيلا» أي ابن أبى طالب وكان أسر مع عمه العباس في غزوة بدر.
وقوله «فحثا» بمهملة ثم مثلثة مفتوحة، والضمير في ثوبه يعود على العباس.
قوله: «مر بعضهم» بضم الميم وسكون الراء، وفي رواية «اؤمر» بالهمز، قوله:
«يرفعه» بالجزم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع أي فهو يرفعه.
قوله: «على كاهله» أي بين كتفيه، وقوله:«يتبعه» بضم أوله من الإتباع، و «عجبا» بالفتح، وقوله:«وثم منها درهم» بفتح المثلثة أي هناك.
وفي هذا الحديث بيان كرم النبي صلى الله عليه وسلم وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره.
وموضع الحاجة منه هنا جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوه في المسجد، ومحله ما إذا لم يمنع مما وضع له المسجد من الصلاة وغيرها مما بنى المسجد لأجله ويستفاد منه جواز وضع ما يعم نفعه في المسجد كالماء لشرب من يعطش، ويحتمل التفرقة بين ما يوضع للخزن فيمنع الثاني دون الأول، وباللَّه التوفيق.
البحرين فقال: انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فلم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول اللَّه، أعطنى، فإن فأديت نفسي، وفأديت عقيلا، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خذ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله، فلم يستطيع، فقال: يا رسول اللَّه [اؤمر] بعضهم يرفعه إليّ، قال: لا، قال: فارفعه أنت على، قال: لا، فنثلا منه ثم ذهب يقله [ (1) ]، فقال: يا رسول اللَّه [اؤمر] بعضهم يرفعه على، قال: لا، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله فألقاه على كاهله، ثم انطلق،
فما زال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا من حرصه، فما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم [ (2) ] .
وخرج عبد اللَّه بن على بن الجارود. من حديث محمد بن يحيى، قال: أنبأنا أبو المغيرة، قال: أنبأنا صفوان، قال: أنبأنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جاءه سبى فقسمه من يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظا
[ (1) ] في (الأصل) : «فلم يقله» ، «فلم يستطع» ، وما أثبتناه من البخاري.
[ (2) ](فتح الباري) : 1/ 678- 679، كتاب الصلاة، باب (42) القسمة وتعليق القنو في المسجد، حديث رقم (421) .
قال أبو عبد اللَّه: القنو: العذق، الاثنان قنوان، والجماعة أيضا قنوان، مثل صنو وصنوان، وأخرجه أيضا في كتاب الجهاد والسير، باب (172) فداء المشركين، حديث رقم (3049) مختصرا، وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة، باب (4) ، أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولم يقسم الفيء والجزية؟ حديث رقم (3165) .
واحدا، قال: فدعيت، وكنت أدعى قبل عمار بن ياسر، فدعيت فأعطانى حظين، وكان لي أهل، ثم دعا بعد عمار، فأعطاه حظا واحدا.
ورواه أبو داود السجستاني [ (1) ] ، عن ابن المصفى، قال حدثنا أبو المغيرة، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن نفير، عن أبى، عن عوف بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. كان إذا أتاه الفيء
…
الحديث.
ولأبى داود من حديث هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن عبد اللَّه ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، دخل على معاوية فقال: حاجتك يا أبا عبد الرحمن، فقال: عطاء [المحررين، فإنّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه شيء بدأ بالمحررين [ (2) ]] .
[ (1) ](سنن أبى داود) : 3/ 359- 360، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (14) قسمة الفيء، حديث رقم (2953) .
[ (2) ](سنن أبى داود) : 3/ 358، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (14) في قسم الفيء، حديث رقم (2951) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
قال الخطابي: يريد بالمحررين المعتقتين، وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم، وإنما يدخلون تبعا في جملة مواليهم، وكان الديوان موضوعا على تقديم بنى هاشم، ثم الذين يلونهم في القرابة والسابقة، وكان هؤلاء مؤخرين في الذكر، فأذكر بهم عبد اللَّه بن عمر، وتشفع في تقديم أعطيتهم، لما علم من ضعفهم وحاجتهم.
ووجدنا الفيء مقسوما لكافة المسلمين على ما دلت عليه الأخبار، إلا من أستثني منهم من أعارب الصدقة، وقال عمر بن الخطاب: لم يبق أحد من المسلمين إلا له فيه حق إلا بعض من تملكون من أرقّائكم، وإن عشت إن شاء اللَّه ليأتين كل مسلم حقه، حتى يأتى الراعي بسر وحمير لم يعرق جبينه، واحتج عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في ذلك بقوله تعالى:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
وله من حديث عبد اللَّه بن دينار، عن عروة عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بظبية [ (1) ] فيها خرز، فقسمها للحرة والأمة، قالت عائشة: كان أبى رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقسم للحر والعبد [ (2) ] .
[ () ] وقال أحمد وإسحاق: الفيء للغنى والفقير إلا العبيد، واحتج أحمد في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس من مال البحرين، والعباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه غنى.
والمشهور عن أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه سوى بين الناس، ولم يفضل بالسابقة، وأعطى الأحرار والعبيد. وعن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه فضل بالسابقة، والقدم، وأسقط العبيد، ثم رد على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، الأمر إلى التسوية بعد، ومال الشافعيّ إلى التسوية، وشبهه بقسم المواريث. (معالم السنن) .
[ (1) ] الظبية: الجراب، أو الخريطة، أو الكيس.
[ (2) ](سنن أبى داود) : 3/ 359، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (14) في قسمة الفيء، حديث رقم (2952) .
قال الخطابي: وكان الشافعيّ يقول: ينبغي للإمام أن يحصى جميع من في البلدان من المقاتلة- وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة من الرجال- ويحصى الذرية- وهي من دون المحتلم، ودون البالغ، والنساء صغيرتهن، وكبيرتهن- ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معايش مثلهم في بلدانهم ثم يعطى المقاتلة في كل عام عطاءهم.
والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله الجهاد، ثم يعطى الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم.
قال: ولم يختلف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة، قال: وإن فضل من المال فضل بعد ما وصفت، وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع، وكل ما قوى به المسلمون. فإن استغنى المسلمون وكملت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى من بينهم كله على قدر ما يستحقون في ذلك المال. قال: ويعطى من الفيء رزق الحكام، وولاة الأحداث، والصلات بأهل الفيء، وكل من قام بأمر الفيء من وال، وكاتب، وجندي- ممن لا غنى لأهل الفيء عنه- رزق مثله.
وللبخاريّ من حديث مروان بن الحكم، ومستورد بن مخرمة
…
فذكر حديث وفد هوازن إلى أن قال: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على اللَّه تعالى بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني [قد] رأيت أن أراد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء اللَّه علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فأرجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم.
فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا [ (1) ] .
[ (1) ](فتح الباري) : 4/ 609، كتاب الوكالة، باب (7) إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن حين سألوه المغانم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نصيبي لكم،
حديث رقم (2307) ، (2308) ، وأخرجه في كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (10) من رأى الهبة الغائبة جائزة، حديث رقم (2583) ، (2584) ، وفي باب (24) إذا وهب جماعة لقوم، حديث رقم (2607)(2608) ، وأخرجه في كتاب فرض الخمس، باب (15) ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي صلى الله عليه وسلم برضاعة فيهم فتحلل من المسلمين، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعذ الناس أن يعطيهم من الفيء والأنفال من الخمس، وما أعطى الأنصار، وما أعطى جابر بن عبد اللَّه من تمر خيبر، حديث رقم (3131) ، (3132) .
وأخرجه في كتاب المغازي، باب (55) قول اللَّه تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] .
حديث رقم (4318) ، (4319) ، وأخرجه في كتاب الأحكام، باب (26) العرفاء للناس، حديث رقم (7176) ، (7177) .
قال الحافظ في (الفتح) : قال ابن بطال: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام
_________
[ () ] لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه، قال:
والأمر والنهى إذا توجه إلى الجميع يقع التوكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفا لم يسع كل أحد إلا القيام بما أمره به.
وقال ابن المنير في (الحاشية) : يستفاد منه جواز الحكم بالإقرار بغير إشهاد، فإن العرفاء ما أشهدوا على كل فرد شاهدين بالرضا، وإنما أقر الناس عندهم وهم نواب للإمام فاعتبر ذلك. وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته. قال الحافظ في (الفتح) : وقع في (سير الواقدي) : أن أبا رهم الغفاريّ كان يطوف على القبائل حتى جمع العرفاء، واجتمع الأمناء على قول واحد.
وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنع إقامة العرفاء لانه محمول- إن ثبت- على أن الغالب على العرفاء الاستطالة، ومجاوزة الحد، وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية.
والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معديكرب رفعه: «العرافة حق، ولا بد للناس من عريف، والعرفاء في النار.
«ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبى على عن أبى حازم عن أبى هريرة رفعه: ويل للأمراء، ويل للعرفاء» قال الطيبي: قوله: «والعرفاء في النار» ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير أمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار.
قال الحافظ: ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء، فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم، وأن الكل على خطر، والاستثناء مقدر في الجميع.
وأما قوله: «العرافة حق» فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفى في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب.
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 141- 142، كتاب الجهاد، باب (131) فداء الأسير، حديث رقم (2693) .
والعرفاء [هم] رؤساء الأخبار وقوادهم، وقيل: العريف:
النقيب، وهو دون الرئيس.
وقال هيثم بن بشرة: أخبرنى عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن أبيه أن أم سمرة بن جندب مات عنها زوجها، وترك ابنه سمرة وكانت امرأة جميلة، فقدمت المدينة فخطبت، فجعلت تقول، لا أتزوج إلا رجلا يضمن لها نفقة ابنها سمرة حتى يبلغ، فتزوجها رجل من الأنصار على ذلك، فكانت معه في الأنصار، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فمر به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فرده، فقال سمرة:
يا رسول اللَّه، لقد أجزت غلاما ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال صلى الله عليه وسلم:
فصارعه، فصارعته، فصرعته، فأجازنى في البعث [ (1) ] .
[ () ] وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 428، حديث رقم (18435) من حديث المسور بن مخرمة.
[ (1) ] هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة، نزل البصرة، له أحاديث صالحة، حدث عنه ابنه سليمان، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة، وبين العلماء فيما روى الحسن عن سمرة اختلاف في الاحتجاج بذلك، وقد ثبت سماع الحسن من سمرة، ولقيه بلا ريب، صرح بذلك في حديثين: حديث رقم (2838) من (سنن أبى داود) ، وحديث رقم (1522) من (سنن الترمذي) .
وكان زياد بن أبيه يستخلفه على البصرة إذا سار إلى الكوفة، ويستخلفه على الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة، وكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
مات سمرة سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين، له ترجمة في:
(طبقات ابن سعد) : 6/ 34، 7/ 49، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (423)، (1404) (التاريخ الكبير) : 4/ 176، (التاريخ الصغير) : 1/ 106- 107، (المعارف) :
305، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 235، (الوافي بالوفيات) : 15/ 454،
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث هشيم، قال: أنبأنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن سمرة بن جندب، قال: أيمت أمى، وقدمت المدينة، فخطبها الناس، فقالت: لا أتزوج إلا برجل يكفل لي هذا اليتيم، فتزوجها رجل من الأنصار. قال: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فليلحق من أدرك منهم، فعرضت عاما، فألحق غلاما وردني، فقلت: يا رسول اللَّه!! لقد ألحقته ورددتني، ولو صارعته لصرعته، فصارعته، فصرعته، فألحقنى. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
[ () ](تهذيب التهذيب) : 4/ 236، (مرأة الجنان) : 1/ 131، (الإصابة) : 3/ 178- 179، ترجمة رقم (3477)، (شذرات الذهب) : 1/ 65.
[ (1) ](المستدرك) : 2/ 69، كتاب البيوع، حديث رقم (2356)، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.