الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالت: لا تحدثن بسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحدا قال أنس: [واللَّه لو] حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت [ (1) ] .
فصل في ذكر من كان يكتب الوحي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
اعلم أن الوحي [ (2) ] على قسمين: متلو، وهو كتاب اللَّه تعالى الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (فصلت: 42) ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
[ (1) ](المرجع السابق) حديث رقم (145- 2482) وسنده: حدثنا أبو بكر بن نافع، حدثنا بهز حدثنا حماد، أخبرنا ثابت عن أنس.
[ (2) ] الوحي: ما يقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة، فإن العبارة يجوز منها إلى المعنى المقصود بها، ولذا سميت عبارة، بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنّها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول، والإفهام الأول، ولا تعجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه، فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحب وحي، ألا ترى أن الوحي هو السرعة، ولا سرعة أسرع مما ذكرنا. فهذا الضرب من الكلام يسمى وحيا، ولما كان بهذه المثابة وأنه تجل ذاتي، لهذا ورد في الحديث الّذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره: أن اللَّه إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاة فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق، فينادون الحق، وهو العلى الكبير، وما سالت فالوحى: ما يسرع أثره من كلام الحق في نفس السامع، ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الإلهية فإنّها عين الوحي الإلهي في العالم وهم لا يشعرون. فافهم.
وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي بالإيمان بما يقع به الإخبار والمفطور عليه كل شيء مما لا كسب فيه من الوحي أيضا، كالمولود يلتقم ثدي أمه، ذلك من أثر الوحي الإلهي إليه كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ
. [الواقعة: 85]، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] وقال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:
68] فلولا أنها فهمت من اللَّه وحيه لما صدر منها ما صدر، ولهذا لا تصور معه المخالفة إذا كان الكلام وحيا، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم، وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا
_________
[ () ] خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] ، ولذا فعلت ولم تخالف، والحالة تؤذن بالهلاك، ولم تخالف ولا ترددت، ولا حكمت عليها البشرية بأن هذا من أخطر الأشياء، فدل على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الّذي هو عين نفسه، قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، [ق: 16] ، حبل الوريد من ذاته، فإذا زعمت يا ولى بأن اللَّه أوحى إليك فانظر نفسك في التردد والمخالفة، فإن وجدت لذلك أثر تدبير أو تفصيل أو تفكر فلست بصاحب وحي، فإن حكم عليك وأعماك وأصمك، وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك، وأمضى حكمه فيك، فذلك هو الوحي، وأنت عند ذلك صاحب وحي، وعلمت عند ذلك أن رفعتك وعلو مرتبتك أن تلحق بمن يقول إنه دونك من حيوان أو نبات أو جماد، فإن كل شيء مفطور على العلم باللَّه إلا مجموع الإنس والجان، فإنه من حيث تفضيله منطو على العلم باللَّه كسائر ما سواهما من المخلوقات من ملك وحيوان ونبات وجماد، فما من شيء فيه من: شعر، وجلد، ولحم، وعصب، ودم، وروح، ونفس، وظفر، وناب إلا وهو عالم باللَّه، حتى ينظر ويفكر ويرجع إلى نفسه فيعلم أن له صانعا صنعه، وخالقا خلقه، فلو أسمعه اللَّه نطق جلده، أو يده، أو لسانه، أو عينه، لسمعه ناطقا بمعرفته بربه، مسبحا لجلاله، مقدسا لجماله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ. [النور: 24] . الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ، [يس: 65] ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا. فالإنسان من حيث تفصيله عالم باللَّه، ومن حيث جملته جاهل باللَّه حتى يتعلم، أي يعلم بما في تفصيله، فهو العالم الجاهل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. [السجدة: 17] .
قال أبو القاسم الأصفهاني: الوحي: الإشارة سريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمر وحىّ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو التعريض وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على كل ذلك قوله تعالى فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] . فقد قيل: رمز، وقيل: أشار، وقيل: كتب. وحمل على هذه الوجوه أيضا قوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، [الأنعام: 112] ، وقوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ، [الأنعام: 121] ، فذلك بالوسواس المشار إليه بقوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، [الناس: 4] ، ويقوله صلى الله عليه وسلم:«إن للشيطان لمة» الحديث.
_________
[ () ] ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى [إلى] أنبيائه وأوليائه وحي، وذلك أضرب حسب ما دل عليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، [الشورى: 51] ، وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل عليه السلام للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة معينة، وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السلام كلام اللَّه تعالى، وإما بإلقاء في الروع كما ذكر صلى الله عليه وسلم:«إن روح القدس نفث في روعي» وإما بإلهام نحو قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، [القصص: 7] ، وإما بتسخير نحو قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68]، وإما بمنام كما قاله صلى الله عليه وسلم:«لم يبق من النبوة إلا المبشرات» . [أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس] . فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً، [الشورى: 51] ، وسماع الكلام من غير معانية دل عليه: مِنْ وَراءِ حِجابٍ وتبليغ جبريل عليه السلام في صورة معنية دل عليه: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ وقوله تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، [الأنعام: 93] ، فذلك ذم لمن يدعى شيئا من أنواع ما ذكرنا من الوحي، أي نوع ادعاه من غير أن حصل له.
وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ، [الأنبياء: 25] ، فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية اللَّه تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل بل ذلك يعرف بالعقل والإلهام، كما يعرف بالسمع، فإذا القصد من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية اللَّه تعالى ووجوب عبادته.
وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، [المائدة: 111] ، فذلك وحي بوساطة عيسى عليه السلام. وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ، [الأنبياء: 73] فذلك وحي إلى الأمم بوساطة الأنبياء عليهم السلام. ومن الوحي المختص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، [الأنعام: 106] ، وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ، [يونس: 87] ، فوحيه إلى موسى بوساطة جبريل، وإلى هارون بوساطة موسى عليه السلام. وقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، [الأنفال: 12] فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قبل.
الأمين [ (1) ] جبريل عليه السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان يمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على كتبة الوحي، فيكتبون- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، كما يمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وكانت كتابتهم لذلك في العسب، واللخاف، والأكتاف والرقاع.
والقسم الآخر من الوحي: سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودونت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وكان كتاب الوحي: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فإن غابا كتب أبى بن كعب، وزيد بن ثابت، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وكان أبىّ ممن كتب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الوحي قبل زيد بن ثابت، وكتب معه أيضا.
وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان زيد وأبىّ يكتبان الوحي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة، كتب من حضر من الكتاب، وهم: معاوية بن أبى سفيان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرميّ، وحنظلة بن الربيع، وكتب عبد اللَّه بن سعد بن أبى سرح الوحي، ثم ارتد [ (2) ] .
[ () ] وقوله: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، [فصلت: 12] ، فإن كان الوحي إلى أهل السماء فقط فالموحى إليه محذوف ذكره كأنه قال: أوحى إلى الملائكة، لأن أهل السماء هم الملائكة ويكون كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ، وإن كان الموحى إليه هي السماوات فذلك تسخير عند من يجعل السماء غير حي، ونطق عند من يجعله حيا. وقوله:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، [الزلزلة: 5] قريب من الأول. وقوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، [طه: 114] فحث له على التثبت في السماع، وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقنه. (البصائر) : 5/ 177- 182.
[ (1) ] الشعراء: 193.
[ (2) ] قال ابن حديدة الأنصاريّ في (المصباح المضيء) : 1/ 28: وقد كتب له عدة من أصحابه صلى الله عليه وسلم منهم: الخلفاء الأربعة، وعبد اللَّه بن الأرقم، ومعيقيب بن أبى فاطمة، وخالد ابن سعيد وأخوه أبان، وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن أبىّ بن سلول، وأبىّ بن كعب القارئ، ومعاوية