الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» ، فلا يجشمهم «2» صعبا، ولا يكلفهم عسرا، يتأذون به، أو تتململ منه نفوسهم، فإذا صلّى بهم إماما لا يطيل في صلاته، بل يخفف كتخفيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة.
وإذا خاطبه بعضهم بعبارات جافة، لكنها فطرية لا يتغير منها، وفي جباية الزكاة يأخذ منهم ما يسهل على نفوسهم، دون ما يشق عليها، من غير تقصير في حق، وإذا أراد نهيهم عن قبيح، وإقلاعهم عن باطل سلك بهم في الزجر سبيلا سهلا، خاليا من الغلظة في القول، والقسوة في الموعظة، كالذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بال أعرابي في المسجد، وثار إليه الناس ليوقعوا به فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، أو سجلا من ماء» - الذنوب والسجل الدلو- «فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين» «3» .
وكما تيسر على الناس في معاملتهم، ونهيهم وزجرهم؛ كذلك تيسر على النفس، فلا تكثر عليها من الطاعات حتى تسأمها وتملها، ولا تشق عليها في أداء الواجبات إذا أمكن القيام بها في يسر، فالذي يشق عليه القيام في الصلاة يتركه إلى القعود. أو يشق عليه الصوم لمرضه أو سفره أو كبره يتركه إلى الإفطار، أو يصعب عليه التوضؤ بالماء في البرد القارس ولم يتيسر له الماء الساخن يستبدل به التيمم، وهكذا يرفق بنفسه ولا يعسر عليها حتى تخرج عن أمره. ومن فهم التيسير عرف التعسير.
وإنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التعسير بعد أمره بالتيسير مع أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده تقوية وتأكيدا؛ حتى لا يبقى لمتنطع «4» علة يعتل بها لتنطعه. على أنه لو اقتصر على «يسروا» لتحقق الإمتثال بالتيسير مرة. وإن عسر مرارا. فلما قرنه بالنهي عن التعسير. والنهي يقتضي الكف عن الفعل دائما فهمنا المداومة على التيسير.
وكذلك يقال في الأمر والنهي الآخيرين.
2- وأمرهما بالتبشير؛ ونهاهما عن التنفير
.
فتبدأ الناس بالأخبار السّارّة
(1) سورة الحج، الآية:78.
(2)
يجشمهم: جشم الأمر جشما: تكلّفه على مشقة.
(3)
رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «يسرا ولا تعسرا» (6128) .
(4)
متنطع: تنطع في كلامه: تشدّق وغالى.
المروحة للنفوس، المزيلة للهموم، فتشحذ «1» منهم العزائم؛ وتعلو الهمم. فيقبلون على الأعمال الطيبة، فإذا دعونا جماعة إلي هذا الدين بدأناهم بذكر الثمرات التي يجنيها العبد من ورائه. فنذكر لهم العزة في الدنيا والملك والغني وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» . وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «3» . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً «4» ، ونذكر ما أعد الله للمؤمنين في الحياة الآخرة. مما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر، ونبين لهم سهولة الدّين، وأن شرائعه لا تثقل النفوس، ولا تحرجها، بل هي لها طهارة وسعادة وبرد وراحة وإذا وعظنا شريرا ليرعوي عن غيه رغبناه في التوبة، وعرّفناه أنها تجبّ «5» السيئات وأن أبواب الله لها مفتحة، وأن الإستقامة أجدى عليه من الإجرام، وإذا نصحنا طالبا ليجد في دروسه بيّنا له آثار الجد، وثمراته في المجدين، وما كسبوا من كبير المناصب، وعلو الجاه، وسعة الثروة، ذلك هو التبشير.
أما التنفير فجانب سبيله، فلا تبدأ من دخل الإسلام حديثا؛ ولم يتمكن من نفسه بذكر أنواع المياه، وأحكام الاستنجاء، وفروض الوضوء وسننه وآدابه؛ والغسل وأحكامه وأسبابه؛ والتيمم وأركانه
…
وتستقصي في ذكر الأحكام له استقصاء حتى يرى نفسه أمام تعليمات ثقيلة وأحكام كثيرة؛ وكل هذا للصلاة وسيلة؛ فما الحال في المقاصد؟ إنها لكبيرة فينفر من الدّين بعد أن رغب فيه؛ ويهم بالنكوص «6» بعد أن خطا فيه خطوة.
وكذلك لا تنفر العاصي بأن ما أسلفه من السيئات لا توبة له منه ولا إنابة؛ ولا بد من عقابه على ما أجرم فيرجع عن الإقلاع؛ ويستمر في الإجرام؛ وكذلك لا تبدأ الطالب الكسلان بوخامة «7» العاقبة؛ وسوء النتيجة، فتفت في عضده؛ وتذهب ببقية
(1) تشحذ: شحذ الهمة: قوّاها.
(2)
سورة المنافقون، الآية:8.
(3)
سورة النور، الآية:55.
(4)
سورة الطلاق، الآية:4.
(5)
تجبّ: تمحو.
(6)
النكوص: نكص: رجع عما كان قد اعتزمه وأحجم عنه.
(7)
الوخامة: يقال: هذا الأمر وخيم العاقبة أي سيء.