الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح:
قد يتصدق إنسان ليقال: إنه محسن، أو ليحظى بمكانه عند مليك أو وزيرا أو مديرا؛ أو ليكسب خدمة ممن تصدق عليه؛ وقد تصدق آخر ليكف يدا عن السؤال؛ أو ليحفظ على بائس عفته وحياءه؛ أو لمجرد الامتثال لأمر الله بالإنفاق؛ أو لابتغاء ثوابه ورضوانه؛ فالعمل من الشخصين واحد وهو التصدق ولكن اختلفت درجته باختلاف النية الباعثة عليه فهو من الأول في درجة دنيا لأنه قصد به منفعة دنيوية شخصية لولاها لما تصدق فباعث الخير الحقيقي لم يتوطن نفسه؛ ومن الثاني في درجة عليا للباعث الطيب الذي ملأ قلبه وهو محبة الخير للناس؛ وحفظ الكرامة عليهم؛ والامتثال لأمر الله؛ وابتغاء مرضاته، مثل هذا يرجى منه خير كبير؛ ويرجى منه متابعة المعروف فهو مورد دائم لذوي الحاجات؛ وفي مثل هذا يقول الله:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ بستان بمكان عال أَصابَها وابِلٌ مطر غزير فَآتَتْ أُكُلَها ثمرها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ مطر قليل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «1» .
أمّا الأول: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ «2» حجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس لا نبات عليه. فالثاني: عمله مثمر؛ والأول غير مثمر. شخص يصلي ليرائي الناس فيسموه بالصلاح؛ أو يكلوا إليه عملا ماليا يطلق فيه يده بالاختلاس؛ وآخر يصلي قياما بالواجب؛ وتطهيرا لنفسه؛ وإرضاء لربه؛ أصلاتهما بدرجة واحدة؟ لا.
كاتب أو شاعر أو خطيب يدعو إلى مصلحة عامة؛ والباعث له وظيفة يرجوها أو حظوة «3» عند ذي سلطان؛ أتكون درجته كاخر يدعو إلى ذلك لأن فيه خير الأمة؛ ولأن هذا بوحي قلبه المخلص لبلده؟ لا يستويان. فإن الأول إذا لم يصل لبغيته حطم قلمه؛ أمّا الثاني: فإنه دائب الدعوة، ولو لاقى في سبيل ذلك الصعاب؛ وقل مثل ذلك في سائر الأعمال؛ وبهذا عرفت أن معنى الجملة الأولى: الأعمال تابعة للنيات مقدّرة بها؛ وموزونة بميزانها؛ فدرجة كل عمل من درجة النية الباعثة عليه؛ فإن كانت
(1) سورة البقرة، الآية:265.
(2)
سورة البقرة، الآية:264.
(3)
حظوة: مكانة ومنزلة.
خيرا فخير؛ وإن شرا فشر؛ وإن شريفة فشريفة؛ وإن وضيعة فوضيعة؛ ولا تبديل لذلك، وهذا هو معنى الحصر أو القصر.
وذهب بعض الشرّاح إلى أن معنى العبارة: صحة الأعمال بالنية؛ أي إنها لا تكون معتبرة في نظر الشارع؛ مترتبة عليها آثارها إلا بالنية.
فالوضوء أو التيمم مثلا لا يعتبران شرعا بحيث تؤدى بهما الصلاة أو يباح بهما مس المصحف إلا إذا سبقتهما أو صاحبتهما النية؛ أما بدون النية فلا عبرة بهما فالنية على هذا التقدير لا بد منها في المقاصد كالصلاة والحج، والوسائل كالوضوء والتيمم. وقدّر بعضهم: كمال الأعمال بالنية ولذلك لم يشترطها في الوسائل وإن شرطها في المقاصد؛ وما قررناه أولا هو الظاهر وهو الذي يلائم التفريع الآتي.
وإذا عرفت أنّ درجة الأعمال من درجات نياتها، وكان لكل عمل جزاء سعادة في الدنيا؛ ونعيم في الآخرة؛ أو خلافهما: بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم بالجملة الثانية أن لكل إنسان جزاء ما نواه؛ فمن كانت نيته ثواب الله ومرضاته فله ذلك؛ ومن كانت نيته شرا فله الويل؛ ومن نوى عرضا دنيويا محضا فلاحظ له في الثواب، وقد أفاد الحصر في هذه الجملة أن ما لم ينوه المرء لا شيء له أو عليه منه.
الهجرة: الإنتقال من مكة دار الكفر إلى يثرب دار الإسلام وكانت من أبر الأعمال يوم كانت مكة في أيدي المشركين إذ بها يتمكن المسلم من إقامة شعائر الدين كاملة؛ ويستمع الوحي الذي كان يترى «1» نزوله؛ ويتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو نور له يسعى بين يديه؛ وينضم إلى فئة المسلمين المجاهدين؛ فيزيدهم قوة إلى قوة؛ ولما فتح المسلمون مكة سنة ثمان؛ وأصبحت دار إيمان لم تبق حاجة إلى الهجرة اللهم إلا هجرة من دار كفر وبغي إلى دار إيمان وعدل للشرع فيها قيام، وللمسلمين عزة وسلطان؛ فتلك لا تزال باقية إلى يوم القيامة وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث- تطبيقا على القاعدتين السابقتين- أن الهجرة من الناس ليست بدرجة واحدة عند الله؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ أي يقصد بها خدمة الدّين؛ وإعلاء كلمة الله بتعلم كتابه وسنة رسوله؛ والعمل بهما؛ وإقامة سلطانهما، والتمكين لهما- فهجرته إليهما أي هي الهجرة الحقة، التي تنبغي لكل مسلم مخلص؛ والتي
(1) يترى: أترى: عمل أعمالا متواترة بين كل عملين فترة.