الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدليس ونفاق، وألا ندعوا معه غيره. أو نقدم إليه القرابين أو نسوق النذور. أو نتخذه وسيلة إليه. فإن كل ذلك شرك ينافي مقام التوحيد ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا عن حق العباد على الله، وما وعدهم به؛ وكتبه لهم على نفسه؛ إذا هم عبدوه حق عبادته وأخلصوا له الدّين. وأسلموا الوجوه، وعمّروا القلوب بتوحيده، وطهروها من دنس الإشراك. فقال له مثل مقالته الأولى: الله ورسوله أعلم. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: حق العباد على الله ألا يعذبهم. وكيف يعذب من توفر «1» على طاعته، وكان عبده السميع، تقرع أذنه آي الوحي فإذا به قد مثلها في عمله، وأظهرها في خلقه، ويسمع هدى الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا به قد اتخذه إماما وقدوة: وهاديا وأسوة؛ كيف يعذب ذا النفس العالية.
الطاهرة النقية، التي لا يرى فيها إلا بياض التوحيد ونوره، ليس بها نكتة «2» من دنس أو شرك، بل كيف لا يسبغ نعمته، ويدخل جنته عباده المقربين، وجنده المخلصين، وهو البّر الرحيم؛ وأكرم الأكرمين وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «3» .
73- باب: نذر الطاعة ونذر المعصية
عن عائشة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» . [رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه «4» ] .
النذر:
أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، كأن تنذر صدقة أو اعتكافا، أو تهجدا إذا رزقت ولدا، أو بلغت أملا. وفي هذا الحديث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عن نذر طاعة الله أن يطيعه ونهى من نذر معصيته أن يعصيه. فنذر الطاعة يجب الوفاء
(1) توفر: عكف.
(2)
نكته: العلامة الخفية.
(3)
سورة النازعات، الآيتان: 40، 41.
(4)
رواه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذور في الطاعة (6696) . ورواه النسائي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة (3815) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في النذر في المعصية (3289) . ورواه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: من نذر أن يطيع الله فليطعه (1526) . ورواه ابن ماجة في كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية (2126) .
به. قال تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» ، ونذر المعصية يحرم الوفاء به، إذ لا نذر في معصية الخالق.
فمن نذر إرشاد الجاهلين. وإنقاذ المظلومين أو مساعدة البائسين. أو زيارة الأقربين، أو الجهاد في سبيل الله ونشر دينه ومطاردة أعدائه وجب عليه الوفاء بما نذر، ومن نذر النكاية بعدوه، بإراقة دمه أو اغتصاب ماله أو نذر الانضمام لحزب مبطل، أو انتخاب شخص مجرم، أو شرب خمر، أو لعب ميسر، أو إقامة ليلة ساهرة، تنتهك فيها الحرمات. ويعصي الإله حرم عليه الوفاء. والطاعة تشمل الواجبات كالصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام رمضان، والحج الواجب، والنفقة على الزوجة والولد، وتشمل المندوبات كصلاة النافلة، والصدقة الجارية، والصيام المستحب وحج التطوع، فالواجبات إذا كانت عينية لا ينعقد نذرها لأنها واجبة بدون إيجاب العبد. بل تدخل تحت عنوان النذر لأنه إيجاب ما ليس بواجب وهذه واجبة. أما الواجب على الكفاية كالجهاد ورد السلام. والمندوب فينعقد نذره.
ويجب الوفاء به. وأما نذر المباح كلبس الثوب وركوب الدابة والتروض فقد استدل لصحته بحديث عائشة: «لا نذر في معصية. وكفارته كفارة يمين» ، رواه أصحاب السنن «2» . وجمهرة المحدثين على تضعيفه فلما نفي نذر المعصية أفاد صحة ما عداه.
وبحديث بريدة عند أحمد والترمذي: أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها:«أوف بنذرك» ، وكان ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت الضرب بالدف إن رده الله تعالى سالما.
وقال مالك والشافعي: لا ينعقد نذر المباح واستدلا بحديث ابن عباس قال:
بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم؛ فسأل عنه؛ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس؛ ولا يقعد؛ ولا يستظل ولا يتكلم؛ وأن يصوم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروه
(1) سورة الحج، الآية:29.
(2)
رواه النسائي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر (3845) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية (3290) . ورواه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألانذر في معصية (1524) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية (2125) .
فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه» ، رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه «1» ؛ فأمره بفعل الطاعة؛ وأسقط عنه المباح؛ وأصرح من هذا ما رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» «2» ، في سند هذا الحديث عند أحمد عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف، وأجابا عن حديث عائشة بضعفه؛ وعن حديث بريدة بأنه لا مانع من أن يكون من قسم المباح ما يصير مندوبا إذا قصد به القربة كالنوم في القائلة «3» للتّقوي به على قيام الليل؛ والسحور للتّقوي على صيام النهار، فيجوز أن يكون إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وسلم سالما معنى مقصودا يثاب عليه؛ فيكون مندوبا.
وقد اختلف الفقهاء في نذر المعصية هل تجب فيه كفارة أو لا تجب؟ فقال بوجوبها الثوري وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وبعض الشافعية؛ وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين؛ وسمرة بن جندب؛ وقال بعدم الوجوب مالك والشافعي والجمهور؛ وهو رواية عن أحمد؛ واستدل الأولون بحديث عائشة السابق «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» ، وبحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين» ، رواه أبو داود «4» ؛ وبحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفارة النذر كفارة يمين» ، رواه مسلم «5» وأحمد؛ فعمومه يشمل نذر المعصية؛ وبأن النذر يمين؛ ومن حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها، والدليل على أنه يمين حديث ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية،
(1) رواه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر فيما لا يملك وفي معصية (6704) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية (3300) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الكفارات، باب: من خلط في نذره طاعة بمعصية (2136) .
(2)
رواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: اليمين في قطيعة الرحم (3273) . ورواه أحمد.
(3)
القائلة: الظهيرة.
(4)
رواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر نذرا لا يطيقه (3322) .
(5)
رواه مسلم في كتاب: النذر، باب: في كفارة النذر (4229) . ورواه أحمد.
فقال: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا؛ لتخرج راكبة؛ ولتكفر عن يمينها» ، رواه أحمد وأبو داود «1» .
واستدل الجمهور بأنه نذر غير منعقد، فلا يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة، بل لا يسمى نذرا لأن النذر التزام الطاعة، وهذا التزام معصية؛ وبالأحاديث التي أبطلت نذر المعصية ولم تذكر فيه كفارة؛ كحديثنا؛ وحديث مسلم «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» «2» . وأجابوا عن أدلة الأولين بضعف حديث عائشة، وبأن الأصح في حديث ابن عباس أنه موقوف عليه؛ وأما حديث عقبة ففيه زيادة تمنع العموم. إذا رواه الترمذي بلفظ «كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين» ، ورواه ابن ماجه بلفظ «من نذر نذرا لم يسمه» «3» إلخ. فكفارة اليمين في النذر المبهم.
كأن يقول: لله عليّ نذر. ولا يزيد. ولا يعلم خلاف في ذلك إلا عن الشافعي فإنه قال: لا ينعقد النذر المبهم ولا كفارة فيه؛ والحديث حجة عليه. وبماذا يجيب الجمهور عن كون النذر يمينا؟ أيقولون: نذر المعصية يمين غير منعقدة؟
وبهذا عرفت حكم نذر الطاعة. ونذر الواجب. ونذر المعصية. ونذر المباح والنذر المبهم. وبقي نوعان: هما نذر اللجاج والغضب. ونذر المستحيل فالأول ما أخرج مخرج اليمين بأن يراد به الحث على فعل شيء. أو المنع منه من غير أن يقصد به النذر والقربة. كالذي يقول في حال الغضب لخصمه إن لم أرفع عليك قضية فداري صدقة. أو يقول: إن عاشرت فلانا فعلي مائة جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية. يريد الأول حث نفسه على رفع القضية وبالثاني الامتناع عن معاشرته.
وهذا حكمه حكم اليمين. فإن رفع القضية أو ترك العشرة فلا شيء عليه وإن لم يرفع أو عاشر لزمته كفارة يمين. وهو مخير بين الأمرين. وهذا رأي الجمهور.
وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره، أما نذر المستحيل كصوم الأمس
(1) رواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية (3295) .
(2)
رواه مسلم في كتاب: النذر، باب: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد (4221) مطولا.
(3)
رواه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسمّ (1528) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الكفارات، باب: من نذر نذرا ولم يسمّه (2127) .