الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو هو دنّ من القاذورات؛ إن اقتربت منه أو نبشته هبت عليك رائحته الخبيثة، ولوثتك نجاسته الغليظة؛ فالسلامة منه في مجانبته؛ أو متاركته ومسالمته؛ هذا أسوأ الناس منزلة يوم القيامة لأنه وباء على المجتمع؛ وهل منزلته السوأى إلا جهنم؛ يصلى سعيرها ويعاني لهيبها؛ يستظل بيحمومها «1» ، ويشرب من حميمها «2» ؛ ويطعم من زقومها «3» ويتسربل «4» من قطرانها؛ ومثل هذا ليس من الإسلام في شيء؛ فإن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده؛ وليس من الإيمان في قليل ولا كثير؛ فإن المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن كان يحمل لقب الإسلام أو الإيمان فهو لقب مكذوب؛ ونعت مسروق.
[سبب الحديث]
هذا والحديث له سبب: روى البخاري عن عائشة أن رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «بئس أخو
العشيرة
، وبئس ابن العشيرة» ، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه. وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا. ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» . أهـ.
العشيرة:
الجماعة أو القبيلة. أو هي الأدنى إلى الرجل من أهله، وهم ولد أبيه وجده. وتطلق: أبدى له طلاقة وجهه. يقال: وجه طلق وطليق أي مسترسل منبسط، ليس بعبوس. وللفحش يقال لكل ما خرج عن الحدّ حتى استقبح من قول أو فعل أو صفة. لكن استعماله في القول أكثر.
وقد قيل: إن هذا الرجل المستأذن هو مخرمة بن نوفل. وقيل: عيينة بن حصن الفزاري. وكان يسمى بالأحمق المطاع لأنه كان رئيس قومه: وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه ليسلم قومه. وقد أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدّ في خلافة أبي بكر وحارب. ثم رجع إلى الإسلام. وحضر بعض الفتوح في عهد عمر. وهو الذي استأذن له ابن أخيه الحر بن قيس في الدخول على عمر. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا
(1) يحموحها: اليحموم: الحرارة الشديدة.
(2)
حميمها: الحميم: الماء الحار.
(3)
زقومها: الزّقوم: شجرة مرة كريهة الدائمة، ثمرها طعام أهل النار.
(4)
يتسربل: تسربل: لبس.
الجزل «1» . وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به- يبالغ في ضربه- فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» ، وإن هذا من الجاهلين. وإن هذا من الجاهلين. فو الله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافا عند كتاب الله- روى ذلك البخاري في كتاب الاعتصام «3» . وسواء كان المستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرمة أو عيينة فالقصة مشكلة من جهة المعنى إذ كيف يذم الرسول صلى الله عليه وسلم شخصا رآه مقبلا، ويقول فيه: بئس أخو العشيرة؛ وبئس ابن العشيرة ثم يهش في وجهه؛ وينبسط له حينما جلس معه؛ وهل هذا إلا التظاهر بغير ما يضمر؟ فكيف يصدر هذا من الرسول الكريم؛ الذي شهد له رب العالمين بأنه على خلق عظيم؟ لقد أجيب عن هذا الذم بأنه من باب النصيحة للأمة والتحذير لها من أن تغتر بذوي المظاهر الجميلة؛ أرباب الطوايا الخبيثة فتقع في شراكهم «4» ، ويصيبها شر من جهتهم. بل استدل بهذا الذم على جواز غيبة من أعلن الفسق أو الفحش. أو جار في الحكم. أو دعا إلى بدعة جهارا أو نحو ذلك. وهذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كان من عابه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة.
وأجيب عن التطلق في وجهه والتبسط إليه بعد ذلك الذم بأنه من باب المداراة؛ إتقاء لشره. وليس من قبيل المداهنة في الدين التي هي من مساوىء الأخلاق.
قال القرطبي: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدّين أو هما معا. وهي مباحة. وربما استحبت. والمداهنة ترك الدّين لصلاح الدنيا. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته؛ والرفق في مكالمته.
ومع ذلك فلم يمدحه بقوله. ولم يناقض قوله فيه فعله. فإن قوله فيه قول حق؛ وفعله معه حسن عشرة. فيزول بهذا الإشكال. ذلك ما أجابوا به ولا زال في النفس من هذا الذم والتطلق شيء. ولا زلنا نرى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم وكرم خلقه فوق ذلك الموقف.
وأن الذي نجده في نفوسنا كالذي وجدته عائشة، وإذا كان الغرض من ذلك التبسط
(1) الجزل: الكثير العظيم من كل شيء.
(2)
سورة الأعراف، الآية:199.
(3)
رواه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7286) .
(4)
شراكهم: أي تقع في المكائد والمصائب التي ينسجونها ويحوكونها لك.