الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10- استعمال الحرير:
حديثنا يدل على تحريم الحرير الخالص بأنواعه. بل على تحريم ما جمع في نسيجه بين الحرير وغيره إذا فسرنا القسي بما كان مصنوعا من كتان وحرير. وقد ورد في النهي عن لبس الحرير والجلوس عليه جملة أحاديث صحيحة. منها حديث عمر عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» «1» ، ومنها حديث عبد الله بن عمر عند الشيخين وأبي داود والنسائي وابن ماجة أن عمر رأى حلة من استبرق تباع. فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتع هذه. فتجمل بها للعيدين والوفود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذه لباس من لا خلاق له» ؛ ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه بجبة ديباج. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قلت: إنما هذه لباس من لا خلاق له. ثم أرسلت إلي بهذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أرسلها إليك لتلبسها.
ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك» «2» ، ومنها حديث حذيفة عند البخاري قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة. وأن نأكل فيها. وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه «3» .
ووردت أحاديث أخرى تدل على جواز ذلك منها حديث عقبة قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير- قباء مفتوح من الخلف- فلبسه ثم صلّى فيه. ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم قال: «لا ينبغي هذا للمتقين» «4» ، ومنها حديث المسور بن مخرمة أنه قدّمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فذهب هو وأبوه للنبي صلى الله عليه وسلم لشيء منها،
(1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير للرجال (5834) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5377) .
(2)
رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من تجمل للوفود (6081) بنحوه. ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير للرجال (5371) . ورواه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الحرير (4041) . ورواه النسائي في كتاب العيدين باب: الزينة للعيدين (1559) . ورواه ابن ماجة في كتاب: اللباس، باب: كراهية لبس الحرير (3551) مختصرا.
(3)
رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: افتراش الحرير (5837) .
(4)
رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: القباء وفروج حرير وهو القباء (5801) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5394) .
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم قباء من ديباج مزرور، فقال:«يا مخرمة خبأنا لك هذا» ، وجعل يريه محاسنه، وقال:«أرضي مخرمة» ، رواهما الشيخان «1» ، ومنها ما رواه أنس أنه صلى الله عليه وسلم لبس مستقة- فرو طويل الكمين- من سندس- رفيع- أهداها له ملك الروم، ثم بعث بها إلى جعفر، فلبسها. ثم جاءه. فقال:«إني لم أعطكها لتلبسها» ، قال: فما أصنع؟
قال: «أرسل بها إلى أخيك النجاشي» - رواه أبو داود «2» ، ولبس الحرير أكثر من عشرين صحابيا. منهم أنس والبراء بن عازب راوي حديثنا.
من أجل هذا التعارض في الأدلة كان تحريم لبس الحرير موضع نظر.
فحكى القاضي عياض عن جماعة إباحته، منهم ابن علية؛ ولكن جمهور الفقهاء على التحريم للأحاديث التي سقناها أولا.
وقالوا إن حديث عقبة فيه «أنه لا ينبغي هذا للمتقين» ، فإذا كان لبسه لا يلائم المتقين فهو بالتحريم أجدر، وقالوا في حديث المسور وحديث أنس: إنهما من قبيل الأفعال، فلا تقاوم الأقوال الدالة على التحريم. على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الحرير، ثم كان التحريم آخر الأمر كما يشعر بذلك حديث جابر قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء له من ديباج أهدي إليه، ثم أوشك أن نزعه، وأرسل به إلى عمر بن الخطاب، فقيل: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله، قال:«نهاني عنه جبريل عليه السلام» ، فجاءه عمر يبكي، فقال يا رسول الله كرهت أمرا، وأعطيتنيه، فما لي؟ قال:«ما أعطيتك لتلبسه، إنما أعطيتك تبيعه؛ فباعه بألفي درهم» ، رواه أحمد، وروى مسلم نحوه «3» ، وقالوا أيضا: حديث أنس في سنده علي بن زيد بن جدعان لا يحتج بحديثه؛ وقال الخطابي. يشبه أن تكون المستقة مكففة بالسندس، وقالوا إن ما لبسه الصحابة كان خزا؛ وهو ما نسج من صوف وإبريسم.
هذا وقال محمد بن علي الشوكاني في كتابه «نيل الأوطار» يمكن أن يقال إن لبسه صلى الله عليه وسلم لقباء الديباج وتقسيمه للأقبية بين أصحابه وليس فيه ما يدل على أنه متقدم
(1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: القباء وفرّوج حرير وهو القباء (5800) . ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش أو غلظة (2428) .
(2)
رواه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: من كرهه (4047) .
(3)
رواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5386) .
على أحاديث النهي، كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه، فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة؛ ويكون ذلك جمعا بين الأدلة؛ ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا؛ ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة؛ ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه، فقد كان ينكر بعضهم على بعض ما هو أخف من هذا.
ولا نعلم مخالفا في جواز لبس الحرير للنساء إلا ابن الزبير، فإنه حرّمه عليهن محتجا بعموم الأحاديث، ولكن تخطئه الأحاديث الكثيرة الدالة على حله للنساء كحديث عليّ قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء- التي فيها خطوط كالميسور وهي برود من الحرير أو الغالب فيها الحرير؛ وفسرت بغير ذلك- فبعث بها إليّ فلبستها فعرفت الغضب في وجهه. فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء» ، رواه الشيخان «1» .
وقد أبيح لبس الحرير للعذر كالجرب ونحوه، روي الشيخان وغيرهما عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما «2» . وجاء ما يدل على إباحة التطريز به والتسجيف والقليل منه في الثوب كحديث عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة «3» - رواه مسلم وأصحاب السنن.
ونقول لك بعد هذا البيان الجامع انظر في الأدلة نظرة دقة وإنصاف، واستفت قلبك يفتك. ولا عليك أن تستمع لوحي نفسك.
(1) رواه البخاري في كتاب الهبة باب: هدية ما يكره لبسها (2614) بنحوه. ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5387) .
(2)
رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: ما يرخص للرجال من الحرير والحكة (5839) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها (5398) .
(3)
رواه مسلم في كتاب، اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5384) . ورواه النسائي في كتاب: الزينة، باب: الرخصة في لبس الحرير (5328) بنحوه. ورواه الترمذي في كتاب اللباس، باب: ما جاء في الحرير والذهب (1721) .