الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب، ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي «1» ] .
اللغة:
قال الراغب في كتابه (مفردات القرآن) : أصل الصدق والكذب في القول، ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالإستفهام والطلب، والصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه. فإن انخرم «2» شرط لم يكن صدقا. بل إما أن يكون كذبا، أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال. صدق لكون المخبر عنه كذلك. ويصح أن يقال: كذب لمخالفة قوله لضميره. والصديق:
من كثر منه الصدق. وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو: صدق ظني. وفي الفعل نحو صدق في القتال. ومنه: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «3» ، هذا ما قال الراغب.
وقال الجمهور:
الصدق: ما طابق الواقع. والكذب: ما خالفه وقال آخرون:
الصدق ما طابق الاعتقاد والكذب ما خالفه. والهداية: الدلالة الموصلة إلى المطلوب. والبر: التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها. ويطلق على العمل الخالص الدائم. والجنة في الأصل: المرة من جنه يجنه إذا ستره، وتطلق على الحديقة ذات النخل والشجر لأنها تجن ما تحتها، وتستره بظلها، وتحري الشيء: تعمده وقصده. والفجور: شق ستر الدّيانة ويطلق على الميل إلى الفساد.
وعلى الإنبعاث في المعاصي وهو اسم جامع للشر. وأصل الفجر الشق الواسع.
الشرح:
الصدق فضيلة الفضائل. وأنس الخلائق يقوم عليه نظام الاجتماع
(1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (6094) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (6582) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التشديد في الكذب (4989) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الصدق والكذب (1971) .
(2)
انخرم: نقص.
(3)
سورة الصافات، الآية:105.
وترتيب الأمور، وسيرها السير الحميد، وإنه ليعلي صاحبه عند الناس جميعا فيجعله موضع ثقتهم، مرغوب الحديث عندهم، محبوبا إليهم، محترم الكلمة عند حكامهم، مقبول الشهادة عند قضاتهم، لهذا أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أمرنا القرآن في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «1» ، وأشاد بمكانته في حديثه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب إذ يقول: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا «2» ، ومدح به إسماعيل في قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا «3» ، وإدريس في قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «4» .
والصدق يكون في القول وفي العقيدة، وفي العمل. فالصدق في القول أن يكون مطابقا لضميره، أو وفق الحقيقة، أو وفقهما معا، وهذا يدعوك إلى التثبت في الحديث، والتحري قبله. وألا تقول بغير علم فإذا حدّثت عن الماضي فقل الحق.
وإذا حدّثت بما نويته فاجعل حديثك طبق نيتك. وإذا وعدت فاجعل نية الوفاء قرينة العزم. ولا تستفهم عن أمر وأنت به عليم لتغرر بالسامعين لحاجة في نفسك ولا تطلب من خادمك طلبا وقد أشرت إليه بعدم الإجابة؛ أو نبهته إلى ذلك من قبل.
والصدق في العقيدة أن تكون طبق الأصل في الوجود. ففي الوجود إله واحد فعّال؛ يحكم ما يريد؛ ويبدىء ويعيد؛ فلا تعتقد له في ذلك ندا «5» وشريكا وفي الوجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقد رسالته، وفي الوجود ظلم أمة أو عدالتها فاعتقد ما شهد به الوجود؛ وهكذا. والصدق في العقيدة يستدعي أولا بحثها؛ وطلب الدليل عليها من الحسيات أو العقليات، ونفي الشبهات عنها. والصدق في الفعل أن يكون مظهره في الخارج طبق صورته في النفس، فيكون خالصا لله؛ تبغي به المصلحة؛ لا يشوبه نفاق ولا رياء، ولا تريد الوصول به إلى غرض دنيء، كالذي يزور عظيما؛ مظهرا تودّده إليه، ومحبته له، وهو يريد من وراء ذلك منفعة شخصية. وكالذي يجاهد مداراة ومجاراة؛ أو طمعا في مركز أو جاه. فكل ما تقدم يشمله عنوان
(1) سورة التوبة، الآية:119.
(2)
سورة مريم، الآية:50.
(3)
سورة مريم، الآية:54.
(4)
سورة مريم، الآيتان: 56، 57.
(5)
نّدا: الند: المثل والنظير.
الصدق، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يهدي إلى البر، ويرشد إلى التوسع في الخير، ذلك أنه منبت الفضائل، وجذع شجرتها، ومتفرع غصونها. وهل الإيمان بالله. والتصديق برسله ووحيه. إلا شعبة من الصدق؛ فالصادق موفق للخيرات، مقيم للمبرات «1» ، والبر طريق الجنة، بل مفتاحها الذي لا تفتح بغيره: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرائِكِ- الأسرة- يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ- بهجه ورونقه- يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ- شراب خالص- مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «2» .
وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث مسألة من أهم مسائل الأخلاق وهي طريقة تربية الخلق وتكوينه. وتقويته في النفس وتثبيته. وجعله في صف الطبائع. ذلك أن يتحرى الإنسان القول الجميل. أو الصنع المجيد، ويعمله المرة بعد المرة، والرابعة تلو الثالثة، والسادسة بعد الخامسة، حتى يؤثر في نفسه أثرا، ويتخذ منها مجرى، يزداد تعمقا كلما تابع العمل. فإذا بذلك الأثر الخلق والفضيلة، التي تصدر عنها الأعمال الطيبة بسهولة، فمن رغب أن يكون الصدق شيمته «3» وخلقه، وديدنه وطبعه، فليتحر الصدق في أقواله وأعماله. وليتابع ذلك، فإذا بالصدق خلقه، وإذا به الصدّيق. ومن رغب أن يكون الشجاع المقدام، والبطل المغوار «4» ، فليخض غمار «5» الشدائد كلما دعته، وليناضل الخطوب «6» كلما داهمته، فإذا بالشجاعة خلقه. ومن أراد نفسه على الكرم فليبذل من ماله كلما أهاب به داعي الإحسان فإذا به الجواد الكريم.
ومعنى كتابة الله من تحري الصدق وتعوده صديقا ضبط ذلك في سجله وحسابه في زمرة الصديقين. وإعلان ذلك في الملأ الأعلى. فرحا به. ورفعا لذكره والوحي إلى قلوب العباد بذلك ليحترموه ويجلوه. ويوقّروه ويكبروه.
(1) للمبرات: برّ فلان ربه: توسع في طاعته فهو بار.
(2)
سورة المطففين، الآيات: 22- 26.
(3)
شميته: الشّمية: الخلق ج شيم.
(4)
المغوار: من الرجال: المقاتل الكثير الغارات على أعدائه.
(5)
غمار: ج الغمرة: الشدة.
(6)
الخطوب: ج الخطب: الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب.
وكما أن الصدق أسّ الفضائل فإن الكذب أسّ الرذائل، به يتصدع «1» بنيان المجتمع، ويختل سير الأمور، ويسقط خدنه «2» من العيون، لا يصدقونه في قول ولا يثقون به في عمل. ولا يحبون له مجلسا. أحاديثه منبوذة، وشهادته مردودة لذلك نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي القرآن كثير من الآيات. المقبّحة للكذب، المنفّرة منه:
المتوعدة عليه بالعذاب الشديد وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» . إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ «4» ، والكذب إنما يجري مجرى الصدق. فيكون في القول، والعقيدة، والعمل فقول ما لا يطابق الضمير أو الواقع أو هما معا، أو لا يوافق النية كذب.
وإعتقاد ما لا يساير الوجود كذب، والرياء في الأعمال وإلباسها لباسا غير لباسها النفسي كذب. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكذب يهدي إلى الفجور، ويبعث إلى الشر.
ويهتك ستر الديانة، فإذا بصاحبه مرتطم «5» في المعاصي: متهالك عليها «6» ، وهل الشرك واتخاذ الند الذي هو أكبر جريمة إلا كذب، وهل النفاق الذي هو شر من الكفر الصريح إلا كذب، وكذلك الغش في المعاملة، ونية الإخلاف في المواعيد والمراآة في الأعمال كلها من ضروب الكذب، وبين صلى الله عليه وسلم أن الفجور يهدي إلى النار، ويرمي بصاحبه إلى الدرك الأسفل وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ «7» ، وكما أن الأعمال الحميدة. بتحريها وتعودها تتكون الأخلاق العالية، التي هي مصدر الخيرات، كذلك الأعمال السيئة إذا تحراها الإنسان وتعودها. وضري بها كونت في نفسه الأخلاق السيئة. التي هي مصدر الشرور والآثام. فمن سمح لنفسه بكذبة مرة.
وأتبعها بأخرى. وعززها بثالثة. فرابعة. وهكذا أصبح الكذب خلقا له، وصار الكذاب المهين. فلتجنبها نفسك وإلا تصبح خلقك أو طبعك، دع المحارم، وإن
(1) يتصدّع: تصدّع القوم: تفرقوا.
(2)
خدنه: الخدن: الصديق.
(3)
سورة النحل، الآيتان: 116، 117.
(4)
سورة النحل، الآية:105.
(5)
مرتطم في المعاصي: واقع في المعاصي.
(6)
تهالك عليها: شديد الحرص عليها.
(7)
سورة الانفطار، الآيتان: 14، 15.