الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نرى في هذا العالم شرارا لئاما، وفسقة فجارا، يعتدون على الحرمات، فيسفكون الدماء، ويسلبون الأموال، ويهتكون الأعراض لا يقدسون حقا، ولا يحترمون رأيا، تقرع آذانهم قوارع الناصحين، وعظات المخلصين، وكأن لم تكن قارعة، وكأن لم يسمعوا عظة. في سبيل المحافظة على جاههم، وبقاء سلطانهم يجترحون «1» كل فاحشة، ويقترفون كل مظلمة، وتخنق الحريات وتصدع الجماعات، ثم يعجب صوافي النفوس، وطهرة القلوب: كيف لا ترعوي هذه عن غيها؟ أليس لها قلب؟ أليس فيها عاطفة؟ أليس فيها من الإنسانية بقية؟ ولو سمعوا هذه الكلمة الخالدة. وفقهوا هذه الحكمة البالغة لعرفوا السبب، وبطل العجب. ذلك أنهم فقدوا خلق الحياء، فصنعوا ما شاؤا. واقترفوا ما أرادوا وإن كان في ذلك هلاك العباد وخراب البلاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «2» .
63- باب: حذر المؤمن
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرّتين» . [رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه «3» ] .
اللغة:
اللدغ: ما يكون من ذوات السموم. واللدغ: ما يكون من النار.
الشرح:
سبب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبا عزة الشاعر يوم بدر، فذكر له فقره وعياله، فمنّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء، وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه، فلحق بقومه، ثم رجع إلى التحريض والهجاء ثم أسر يوم أحد، فسأله المن. فقال:
لا. تمسح عارضيك بمكة تقول: «سخرت بمحمد مرتين» ؟ وأمر به فقتل وقال: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
(1) يجترحون: يرتكبون.
(2)
سورة الرعد، الآية:33.
(3)
رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (6133) . ورواه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (7423) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الحذر من الناس (4862) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الفتن، باب: العزلة (3982) .
والحديث ورد بصيغة الخبر (برفع يلدغ) وبصيغة النهي (بكسر يلدغ)، فعلى الأول هو إخبار في معنى الأمر أي ليكن المؤمن حازما حذرا. كيسا فطنا لا يؤتى من ناحية الغافلة. فيلدغ مرة بعد أخرى في أمر الدّين أو الدنيا. أو هو إخبار عن شأن المؤمن الكامل الذي أوقفته تجاربه على غوامض الأمور. وأنه دائما يعتبر في المستقبل بحوادث الماضي؛ وأما المؤمن المغافل «1» فقد يلدغ مرارا؛ وعلى أنه نهي فمعناه ما قال شارح المشكاة: إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نفسه الزكية الكريمة الميل إلى الحلم والعفو عن أبي عزة جرّد منها مؤمنا كاملا؛ حازما ذا شهامة، ونهاه عن الانخداع، وكأنه قال له: ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله، ويذب عن دينه أن ينخدع من مثل هذا الغادر المتمرد مرة بعد أخرى. فانته عن حديث الحلم؛ وامض لشأنك في الانتقام منه والانتصار من عدو الله: فإن مقام الغضب لله يأبى الحلم والعفو؛ ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله؛ فينتقم لها؛ وقد ظهر من هذا أن الحلم مطلقا غير محمود كما أن الحرد «2» كذلك.
فمقام التحلم مندوب إليه ولكن مع المؤمنين، وأما الأعداء فلهم الغلظة، ألا ترى قوله تعالى في وصف الصحابة: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» .
ولعلك عرفت بهذا أن الإيمان لا يتفق والغافلة، بل يقتضي الحذر والحيطة «4» .
وأن أولئك الذين يضحك عليهم، ولا يتعظون بالماضي، ولا يستفيدون من التجارب لم يكمل الإيمان بعد في نفوسهم. وإن كانوا قائمين برسوم العبادة. فالمؤمن كيس حذر، من خلقه الاعتبار بكل بلاء. ولعلّ مستمد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى حكاية عن يعقوب هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ «5» ، وقوله تعالى في وصف المنافقين أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ «6» .
(1) أي من لا فطنة له.
(2)
الحرد: الاعتزال والتنحي عن الناس.
(3)
سورة الفتح، الآية:29.
(4)
الحيطة: الاحتياط.
(5)
سورة يوسف، الآية:64.
(6)
سورة التوبة، الآية:126.