الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صدقات بني سليم، فلمّا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وحاسبه قال: هذا الّذي لكم وهذه هديّة أهديت لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فهلّا جلست في بيت أبيك وبيت أمّك حتى تأتيك هديّتك إن كنت صادقا» ، ثمّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:«أمّا بعد فإني أستعمل رجالا منكم على أمور ممّا ولّاني الله فيأتي أحدكم فيقول هذا لكم وهذه هديّة أهديت لي، فهلّا جلس في بيت أبيه وبيت أمّه حتى تأتيه هديّته إن كان صادقا، فوالله لا يأخذ أحدكم منها شيئا بغير حقّه إلّا جاء الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنّ أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه- ألا هل بلّغت» . [رواه البخاري ومسلم «1» بروايات مختلفة] .
اللغة:
الرغاء: صوت البعير والخوار؛ صوت البقرة أو الثور- واليعار: صوت الشاة.
الشرح:
يضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه من نفسه مثلا للولاة والخلفاء في محاسبة عمالهم ومرؤوسيهم، على ما ولوهم عليه، فلا يناموا عنهم ولا يتركوهم يجمعون الثروات. ويبتزون «2» أموال الرعية. متخذين من سلطانهم أداة لذلك، ويسلطون أذنابهم وأتباعهم يظلمون الناس في جباية الأموال منهم بغير حق وإرهاقهم، ويتخذون منهم ومن بيوتهم وسطاء ومدخرات لجلب الإتاوات «3» لهم، كما هو الشأن في بعض الحكام في جميع الأمم، ترى الواحد يتولى إمارة مقاطعة «4» أو ولاية وهو رقيق الحال، يكاد يكون من المعدمين الذين يحل إعطاؤهم من الزكاة، فلا يلبث عاما أو عامين حتى يعود أبجر «5» الحقيبة، مكتنز
(1) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: هدايا العمال (7174) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال (4717) .
(2)
يبتزون: بزّ قرينه: سلبه.
(3)
الإتاوات: الإتاوة: الجزية والخراج وما يؤخذ كرها.
(4)
مقاطعة: الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصاديا واجتماعيا وفق نظام جماعي مرسوم.
(5)
أبجر: بجر بجرا: انتفخ جوفه ومنه بجرت حقيبته.
الجعبة»
متضخما ثراء ومالا وفيرا.
فالوظيفة تدر عليه أخلاف النعم من هدايا يتقى بها شره أو يجتلب نفعه وبره، ورشاوى يشترى بها ظلمه وجوره، ويدفع بها عن المفسدين بأسه وحزمه.
فسرعان ما يدب الفساد في أمر ولايته ويتشبه به عملاؤه فيعيثون «2» عيث الذناب «3» في الغنم ويذوق الناس منهم كل سوء وأذى. وينظرون إليهم نظر الطائر إلى الصائد فزعين وجلين، وعلى أنفسهم وأموالهم خائفين مذعورين، ويتمنون الخلاص من حكمهم ولو بذلوا في سبيل ذلك ما بذلوا فتكثر الثورات، وتعصي الأوامر وتستأسد النفوس الشريرة، وتسري في القلوب روح الفوضي والاضطراب والتمرد «4» ، وما شأن حكم يكون ذلك أساسه؟ لا شك أنه سريع الانهيار قريب الزوال.
فمحاسبة الخلفاء والملوك لولاتهم ومؤاخذتهم على ما يرتكبون من المخالفات تجعلهم حريصين على إقامة العدل والقسطاس بين من هم تحت رعايتهم، والعمل على تأمينهم من كل مخوف والسهر على راحتهم وما فيه رقيهم وسعادتهم، وعدم الاستكانة إلى الراحة والتواني «5» ؛ وكف أيديهم وألسنتهم عن تناول ما ليس لهم بحق، فتسود الطمأنينة في القلوب وينصرف الناس إلى إتقان أعمالهم. وإجادة مصنوعاتهم وترقية شؤونهم في ظل السكينة والأمن.
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سوء العاقبة من يأخذ ما ليس له بحق من الحكام والولاة وبيّن له مصيره بأن يأتي يوم القيامة حاملا ما أخذه على كتفيه مفتضحا أمره، ذائعا بين الخلائق ظلمه وجرمه.
أما بعد: فمن يرى هذا المال الوبيل «6» والمرتع الوخيم ويرضى لنفسه ذلك الخزي والهوان، بسبب مال زائل، وعرض فان، ومتاع من الدنيا قليل؟
(1) الجعبة: وعاء السهام والنبال.
(2)
فيعيثون: عاث: أفسد.
(3)
الذّناب: خيط يشد به ذنب البعير إلى حقبه لئلا يخطر بذنبه فيلطح راكبه.
(4)
التمرد: تمرّد على القوم: عصى عنيدا مصرا.
(5)
التواني: توانى في العمل: لم يبادر إلى ضبطه ولم يهتم به.
(6)
الوبيل: الشديد.