الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك شيئاً فشيئاً.
رابعها: التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة، والعبادات الصحيحة، والأخلاق الفضالة، بمثل تلك السياسة.
خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين، بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفيْنة بعد الفَيْنة والحين بعد الحين، من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين، وما وعد الله به عباده الصالحين، من النصر والأجر والتأييد والتمكين.
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (1).
الحكمة الثالثة
مُسايرةُ الحوادث والطواريء في تجدُّدها وتفرقها، فكلما جدَّ منهم جديد، نزل من القرآن ما يناسبه، وفصَّل الله لهم من أحكامه ما يوافقه. وتنتظم هذه الحكمة أموراً أربعة:
أولها: إجابة السائلين على أسئلتهم عندما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيها: مُجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حُكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها.
ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطئون فيها، وإرشادهم إلى شاكلة الصواب في الوقت نفسه.
رابعها: كشف حال أعداء الله المنافقين، وهَتْك أستارهم وسرائرهم للنبي والمسلمين.
الحكمة الرابعة
الإرشاد إلى مصدر القرآن، وأنه كلام الله وحده، وأنه لا يمكن أن يكون كلام [النبي] صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه.
(1) هود: 120.
وبيان ذلك أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو مُحْكَمُ السرد دقيق السبْك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضُه برقاب بعض في سوره وآياته وجُمله [هذا مع نزوله منجماً].
وفي جمع القرآن وتدوينه قال الزرقاني: "فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد اتَّخذَ كُتَّاباً للوحي، كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته، مبالغةً في تسجيله وتقييده. وزيادةً في التوثُّقِ والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى، حتى تُظاهر الكتابةُ الحفظ ويُعاضِد النقشُ اللفظ.
وكان هؤلاء الكُتاب من خيرة الصحابة، فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاوية، أبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وثابت بن قيس، وغيرهم. وكان صلى الله عليه وسلم يدلهم على موضع المكتوب من سورته، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتباً حسب إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الترتيب بتوقيف من جبريل عليه السلام، فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان يقول "ضعُوا كذا في موضع كذا" ولا ريب أن جبري لكان لا يصدر في ذلك إلا عن أمر الله عز وجل.
أما الصحابة- رضوان الله عليهم- فقد كان منهم من يكتبون القرآن، بالمقدار الذي يبلغ الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يلتزموا توالي السور وترتيبها، وذلك لأن أحدهم كان إذا حفظ سورةً أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها، ثم خرج في سَرِيةٍ مثلاً فنزلت في وقت غيابه سورة، فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ثم يستدرك ما كان قد فاته في غيابه، فيجمعه ويتتَّبعه على حسب ما يسهل له، فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير بسبب ذلك. وقد كان من الصحابة من يعتمد على حفظه فلا يكتب جرياً على عادة العرب في حفظ أنسابها، واستظهار مفاخرها وأشعارها من غير كتابة. [ثم] ألقت الخلافة قيادها إلى أبي بكر رضي الله عنه وواجهتْ أبا بكر في خلافته هذه أحداثٌ شِدادٌ ومشاكل صعاب. منها موقعة اليمامة سنة 12 اثنتي عشرة للهجرة. وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة من أتباع مُسَيْلمة الكذاب، وكانت معركة حامية
الوطيس استُشهد فيه كثيرٌ من قُرَّاء الصحابة وحفظتهم للقرآن، ينتهي عددهم إلى السبعين، وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة، من أجَلِّهم سالم مولى أبي حذيفة. ولقد هالَ ذلك المسلمين، وعز الأمر على عمر، فدخل على أبي بكر وأخبره الخبر واقترح عليه أن يجمع القرآن، خشية الضياع بموت الحفاظ وقتل القراء. فتردد أبو بكر أول الأمر لأنه كان وقافاً عند حدود ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يجرَّه التجديد إلى التبديل، أو يسوقه الإنشاء والاختراع، إلى الوقوع في مهاوي الخروج والابتداع.
ولكنه بعد مفاوضة بينه وبين عمر تجلَّى له وجهُ المصلحة فاقتنع بصواب الفكرة وشرح الله لها صدره، وعلم أن ذلك الجمع الذي يشير به عمر ما هو إلا وسيلة من أعظم الوسائل النافعة إلى حفظ الكتاب الشريف، والمحافظة عليه من الضياع والتحريف، وأنه ليس من محدثات الأمور الخارجة، ولا من البدع والإضافات الفاسقة. بل هو مُستمدٌّ من القواعد التي وضعها الرسول بتشريع كتابة القرآن، واتخاذ كُتَّاب للوحي، وجمع ما كتبوه عنده حتى مات صلوات الله وسلام عليه قال الإمام أبو عبد الله المحاسبي في كتاب فهم السنن ما نصُّه:"كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مُفرقاً في الرقاع، والأكتاف، والعسُب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكانٍ إلى مكان مجتمعاً، وكان ذلك بمنزلة أوراقٍ وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشراً، فجمعها جامع وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء" ا. هـ.
اهتم أبو بكر بتحقيق هذه الرغبة، ورأى بنور الله أن يندب لتحقيقها رجلاً من خيرة رجالات الصحابة هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، لأنه اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن، ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفَّاظ القرآن، ومن كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العَرْضَة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم. وكان فوق ذلك معروفاً بخصوبة عقله، وشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه، واستقامة دينه. فاستشار أبو بكر عمر في هذا فوافقه. وجاء زيدٌ فعرض أبو بكر عليه الفكرة، ورغَّب إليه أن يقوم بتنفيذها فتردد زيدٌ أول الأمر ولكن أبا بكرٍ ما زال به يعالج شكوكه، ويبين له وجه المصلحة، حتى اطمأن واقتنع بصواب ما نُدب إليه، وشرع يجمع، وأبو بكر وعمر
وكبار الصحابة يشرفون عليه، ويعاونونه في هذا المشروع الجلل، حتى تمَّ لهم ما أرادوا {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
دستور أبي بكر في كتابة الصحف:
وانتهج زيد في القرآن طريقةً دقيقة مُحكمة وضعها له أبو بكر وعمر، فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق، وتحريات شاملة، فلم يكتف بما حفظ قلبه، ولا بما كتب بيده، ولا بما سمع بأذنه. بل جعل يتتبَّع ويستقصي آخذاً على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين: أحدهما: ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني: ما كان محفوظاً في صدور الرجال. وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئاً من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدْلان أنه كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيدٌ بما تستحقُّ من عناية فائقة، فحفظها أبو بكر عنده. ثم حفظها عمر بعده. ثم حفظتها أمُّ المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن. ثم ردّها إليها كما يأتيك بيانه إن شاء الله.
مزايا هذه الصُّحف:
وامتازت هذه الصحف.
أولاً: بأنها جمعت القرآن على أدقِّ وجوه البحث والتحرِّي، وأسلم أُصول التثبُّت العلمي، كما سبق شرحه لك في الدستور السابق.
ثانياً: أنه اقْتُصِرَ فيها على ما لم تُنسخ تلاوته.
ثالثاً: أنها ظفرت بإجماع الأمة ليها، وتواتُر ما فيها. ولا يطعن في ذلك التواتر ما مرَّ عليك من أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبو خزيمة، فإن المراد أنه لم يوجد مكتوباً إلا عنده، وذلك لا ينافي أنه وُجد محفوظاً عند كثرة غامرة من الصحابة بلغت حدَّ التواتر، وقد قلنا غير مرة: إن المعوَّل عليه وقتئذ كان هو الحفظ والاستظهار. وإنما اعتمد على