الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض إجمالي لموضوع التفسير:
إن كلمة تفسير القرآن كان لها من الهيبة والجلال والإجلال عند السلف الصالح ما ليس لها في عصرنا، لجرأة الناس على الإقدام على التفسير في مواعظهم وخطبهم وكتبهم دون أن يستشعروا خطورة الأمر الذي يقدمون عليه ودون أن يملكوا أدوات التفسير، وكما أن الناس في عصرنا تجرؤوا على مالا تنبغي الجرأة فيه، فإن كثيراً من المفسرين فيما مضى أدخلوا على أنواع من التفاسير طاماتٍ ما كان ينبغي لهم أن يجرؤوا عليها فعلم التفسير هو العلم الذي تخدمه كل العلوم: من علوم اللغة العربية إلى علوم القرآن والحديث إلى العلوم الكونية والاجتماعية والسياسية، وأول ذلك العلم المحيط بالسنة والعلم باتجاهات الراسخين في العلم من أئمة الهدى من أهل السنة والجماعة إنْ في العقائد أو في الفقه أو في دقائق علم القلب والأخلاق والسلوك وتزكية الأنفس، ولذلك كان العلماء قديماً لا يجيزون في التفسير إلا من أحاط علماً بهذه الأمور وغيرها. لقد وجدت علوم اللغة العربية وتوسعت من نحو إلى صرف إلى علوم البلاغة إلى فقه اللغة إلى صفات الحروف إلى غير ذلك، وكل ذلك لا يستغني عنه المفسر، وكان الصحابة أعرف الناس بأسباب النزول، وبعلم الناسخ والمنسوخ، وبالأحرف السبعة، وورثت الأمة هذه العلوم كما ورثت علم فضائل القرآن وآدابه وأحكامه، وفقه آيات أحكام ومحل السنة بالنسبة له، ووجد المختصون بعلم أصول الفقه وعلم أصول العقائد ليضعوا كل شيء في محله، والمفسر لا يستغني عن ذلك كله ليستطيع أن يضع كل نص في محله بالنسبة لمجموع النصوص القرآنية، ويستطيع أن يعرف دقائق المعاني، وليكون قادراً في النهاية على إبراز ما في هذا القرآن من إعجاز ومعجزات وخصائص وصفات.
ومن المؤسف العجيب أنه وجد في عصرنا من لا يعطي من توافرت فيه هذه الشروط ثقته واحترامه، ويعطي لمن لم تتوافر فيه هذه الشروط ثقته واحترامه، وما ذلك إلا لعدم الرسوخ في العلم.
لقد رأينا مثلاً أناساً لا يعتبرون لعلوم البلاغة محلاً في فهم القرآن، وكأن القرآن لم ينزل على أساليب العرب في الخطاب، وكأن علوم البلاغة ليست كعلوم النحو والصرف اللذين
لابد منهما لضبط النطق والفهم، كما أن علوم البلاغة لابد منها لضبط الفهم للنصوص.
إن أمثال هؤلاء جعلهم بعض الناس أئمة في فهم القرآن الكريم، وحكماً على الراسخين في العلم ممن توافرت فيهم شروط المفسر الكامل، فالمفسر الكامل أصبح ضالاً عند أمثال هؤلاء.
والذي ينكر أن يكون في اللغة العربية مجاز واستعارة وكناية وحذف مما يعتبر بدهيات عند أدنى طالب للعلم، أمثال هؤلاء جُعلوا مرجعاً وحكماً على الأولين، والذين يخالفون الإجماع في أصول عقدية أصبح بعضهم يعتبرهم حكاماً على المفسرين الذين اجتمع لهم فيما اجتمع من الرسوخ في العلم الرسوخ في علم الأصوليين.
وذلك كله من غلبة الجهل والهوى وعدم معرفة الفضل لأهل الفضل. وهذا اقتضانا أن نخصص كتاباً سميناه الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص، لنرجع لمن يستأهل الثقة الجديرة به، ولنعرف أهل العصر على الزيف المخلوط بالدعاوى الكاذبة والممزوج في الوقت نفسه بكثير من الحق الذي يجعل الأمر ملتبساً، ولنعد إلى أصل الموضوع.
وهذه خلاصات نستخلصها من كتابي الإتقان ومناهل العرفان في شروط المفسر للقرآن.
أولاً: أن يحيط الإنسان بالقرآن الكريم وأن يكون دقيق الفهم له، فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
ثانياً: أن يحيط بالسنة والسيرة لأنهما شارحتان للقرآن موضحتان له.
ثالثاً: أن يعرف أقوال الصحابة في التفسير إذا كان لهم قول لأنهم أدرى بأسباب النزول وبفهم القرآن.
رابعاً: أن يكون المفسر صحيح الاعتقاد، صحيح العمل، فمن كان صاحب بدعة أو هوى أو من فرقة ضالة كافرة أو مخالفاً للإجماع فإنه لا يؤتمن في الإخبار عن أبرار الله تعالى، وأن يكون من أهل الاجتهاد والمجاهدة والتقوى فقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (1).
(1) العنكبوت: من 69.
خامساً: أن يكون قادراً على أن يعرض القرآن عرضاً لا تتناقض به نصوص مع بعضها أو مع السنة الثابتة أو عمل الخلفاء الراشدين، أو يتناقض مع القطعيات العقلية.
سادساً: أن يكون قادراً على الترجيح لأصوله الصحيحة فيما تعارضت فيه الأدلة.
سابعاً: أن يكون ممتلئاً من علوم اللغة العربية، نحواً وصرفاً وبلاغة وفقه لغة ومعرفة بوجوه الإعراب ومفردات اللغة.
ثامناً: قدرته على التمييز بين ما يمكن أخذه من كتب أهل الكتاب وما يجب رفضه، وقل مثل ذلك في التمييز بين ما أوصلت إليه الحفريات، وبعض العلماء يرى وجوب غلق باب الأخذ عن الإسرائيليات لما رأوا من طامات لا يحتملها العقل والشرع تدخل في كتب التفسير.
تاسعاً: أن يعرف المتشابه والمحكم وأن يكون قادراً على حمل المتشابه على المحكم.
عاشراً: أن يعرف أقوال أئمة الهدى من الراسخين في العلم في أصول الفقه، وأصول العقائد، والعقائد والفقه، والسلوك.
حادي عشر: أن يعرف علوم القرآن وأن يعرف التحقيق في مفرداتها وخاصة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما يدخل في هذه العلوم ومما قاله صاحب مناهل العرفان في العلوم التي يحتاج إليها المفسر ناقلاً وملخصاً ما يلي:
وقد بيَّن العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا: هي اللغة والنحو؛ والصرف، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول، والقصص، والناسخ، والمنسوخ، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم، وعلم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حبُّ دنيا أو ميل إلى المعاصي. قال الله تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال الإمام الشافعي:
شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العِلْمَ نُورٌ
…
ونور الله لا يُهْدى لعاصي
هذه الشروط التي ذكرناها، وهذه العلوم كلها، إنما هي لتحقيق أعلى مراتب التفسير مع إضافة الاعتبارات المبهمة المنظورة في الكلمات القيمة الآتية:
أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعَها القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيراً من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعانٍ، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد.
فعلى المحقِّق المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزله والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه، وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية! فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه. وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب، فينبغي أن يكون عنده من علهما ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطُّن لنكته ومحاسنه، والوقوف على مُراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مُراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام. ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب. وعلم الأساليب (المعاني والبيان). ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب. ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مُسدَّدِين في النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع أتحسبون أن ذلك كان طبيعياً لهم؟ كلا. وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، لذلك صار أبناء العرب أشدَّ عجمةً من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعياً ذاتياً لهم، لما فقدوه في مدة خمسي سنة من بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبين فيه ما لم يبينه في غيره، وبين فيه كثيراً من أحوال الخلق وطبائعه وسننه الإلهية في البشر، وقصَّ
علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها. فلابدَّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشيء اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل وإيمان وكفر. ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه. ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة؛ من أهمها التاريخ بأنواعه.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمالٌ صادرٌ عمن أحاط بكل شيء علماً. وأمرنا بالنظر والتفكير والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً ولو اكتفينا من علم المكون بنظرة في ظاهره، لكنَّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا مما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوَّة من العرب وغيرهم لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه. يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". والمراد أن من نشأ في الإسلام، ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيراً لأحوال البشر، ومخرجاً لهم من الظلمات إلى النور.
خامسها: العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشؤون دنيويها وأخرويها. اهـ. من مناهل العرفان.
إذا عرفت ما ينبغي أن يتوفر في المفسر الكامل عرفت أن المفسر الكامل، إذا أراد أن يراعي كل أدوات التفسير فإنه يمكن أن يصل تفسيره إلى عشرات المجلدات، ولذلك فإن المفسرين كانوا على طبقات فمنهم من جمع مختصراً، ومنهم من جمع متوسعاً، ومنهم من اقتصر على أن يركز على علوم بعينها، وقد كثرت التفاسير، فلمع في كل عصر مفسرون كبار خدموا كتاب الله عز وجل الخدمة التي رأوا أن عصرهم يحتاجها، فوجد عندنا مالا
يحصى من التفاسير، ولابد للمسلم أن يميز بين نوعين من التفاسير، تفاسير أهل السنة والجماعة، وتفاسير الفرق الضالة، أو تفاسير أهل الشذوذ الذين خالفوا الإجماع، وغير المتمكن في العلوم لا ينبغي له أن يطالع إلا في تفاسير أهل السنة والجماعة ومع ذلك، فإن تفاسير أهل السنة والجماعة تأثر بعضها بثقافات خاطئة كانت محل اعتبار في عصورهم، ومن هاهنا فإن من المناسب للمسلم المعاصر أن يقرأ كتاباً موثقاً لمفسر معاصر، وقد كتبنا كتابنا الأساس في التفسير محاولين فيه أن نتجنب مثل هذه الأخطاء.
وهناك كتب أطلق عليه اسم التفاسير وهي ليست في شيء من التفسير، وهي ما اصطلح عليه بالتفسير الإشاري وهذا النوع وجد في كتب خاصة ووجد في بعض التفاسير كجزء منها، وهو كما قلنا ليس من التفسير وإنما هو من باب تسجيل خواطر تقع في القلب عند تلاوة آية، فمن اعتقد أن مثل هذه الخواطر تفسير للقرآن عندما تتناقض مع ما قاله المفسرون الأثبات فإنه يكفر بذلك، فلابد من الانتباه إلى مثل هذا.
ويقسم بعض المؤلفين التفسير إلى نوعين: تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي، وهو تقسيم مدرسي لا نعترض عليه لكنا نقول لا فارق في باب الهداية بين هذين النوعين من التفاسير ما دام أصحابه من أئمة الهدى الراسخين في العلم.
ومن المناسب للمسلم المعاصر أن تكون له مطالعاته في كتب التفسير الموثقة حتى إذا أراد معرفة إعراب أو نكتة بلاغية عرف كيف يراجعها، ومن المناسب لأتباع كل مذهب فقهي من المذاهب الأربعة أن يرجعوا إلى تفسير لإمام من أئمة مذهبهم ليعرفوا وجهة نظر مذهبهم الفقهي من فهم الآيات كأحكام القرآن للجصاص، وكتفسير أبي السعود مثلاً من فقهاء الحنفية، هذا مع محاولة التعرف على مفردات القرآن في كتاب يجمعها ككتاب المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني فإنه قيم جداً، ومحاولة قراءة لتفسير معاصر شامل وموثق.
ونحن في هذا الفصل سنقتصر على ذكر ما اعتاد المحدثون أن يذكروه في كتبهم تحت عنوان التفسير، وسنرى بذلك نموذجاً على التفسير المأثور بحق، كما سنرى أن اهتمامات
المحدثين في باب التفسير تنصب إلى حد كبير على أسباب النزول وعلى الناسخ والمنسوخ هذا وإننا لم نذكر كل ما أدخلته أصول هذا الكتاب (1) في هذا الفصل لأن بعضاً منها ذكر في سياقات أخر ففي قسم السيرة وقسم العقائد وفي بية أقسام هذا الكتاب وردت أشياء في سياقاتها الألصق بها، إذ كان بالإمكان إدخالها في فصل التفسير، ثم إن بعضاً منها ليس له أسانيد متصلة، وبعضها منقول عما بعد جيل التابعين وهذا لا يدخل في أصل موضوع هذا الكتاب، فلم نذكره وهناك أحاديث لصيقة بكتب التفسير عند المحدثين إلا أنها وردت عندنا في سياقات أخرى فكثير منها لم نذكره حتى لا يتكرر ما أمكننا ذلك وإلى نصوص هذا الفصل.
(1) التي اعتمد عليها المؤلف من كتب السنة.