الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(الطرف الثاني: فيما يبطل العليّة
وهو ستة:
الأول: النقض
وهو إبداء الوصف بدون الحكم مثل أنْ يقول لمن لم يبيّت يعرى أوّل صومه عن النيّة، فلا يصحّ فينتقض بالتطوع).
هذا مبدأ القول في الأمور المبطلة للعلية وهي ستة: النقض، وعدم التأثير، والكسر، والقلب، والقول بالموجب، والفرق
(1)
.
(1)
الاعتراضات الواردة على القياس عموما أوصلها بعض الأصوليين إلى ما يزيد على الثلاثين اعتراضًا. وتناولوها بالتفصيل في باب مستقل حيث جمعوا الاعتراضات الواردة على الحكم وعلى الأصل المقيس عليه، وعلى الفرع وعلى العلة، وبعضهم اقتصر على الاعتراضات الواردة على العلّة وأفردها في بحث مستقل وسماها قوادح أو مبطلات العلّة، أو غيرها من التسميات والبيضاوي وشراحه ارتأوا الطريقة الثانية.
يقول الزركشي في البحر المحيط: "وتنقسم في الأصل إلى ثلاثة أقسام مطالبات، وقوادح ومعارضات؛ لأنه إما أن يتضمن تسليم مقدمات الدليل أو لا، فالأول: المعارضة، والثاني: إما أن يكون جوابه ذلك الدليل أو لا. والأول المطالبة والثاني القادح". ينظر: البحر المحيط: 5/ 260.
يقول الفتوحي ابن النجار: "قال أهل الجدل: الاعتراضات راجعة إما إلى منع في مقدمة من المقدمات، أو معارضة في الحكم. . ." ثم قال: "ولم يذكر الغزالي في المستصفى شيئًا - غير أنه ذكرها في المنخول ص 401 وما بعدها - من القوادح وقال إن موضع ذكرها علم الجدل. . . . وعدّة القوادح عند ابن الحاجب وابن مفلح والأكثر خمسة وعشرون قادحًا. وقيل اثنا عشر". ينظر: شرح الكوكب المنير: 4/ 230.
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ طريقة المتكلمين في تناول هذا الموضوع تختلف عن طريقة الحنفية فلكل منهما منهج خاص في مباحث الأصول عموما، وفي تناولهم لمبحث نواقض العلة على وجه الخصوص.
فالحنفية من منهجهم تقسيم العلل إلى نوعين: طردية ومؤثرة. وذكروا لدفع العلل =
الأول: النقض
(1)
: وهو عبارة عن إبداء الوصف الذي ادّعى المستدل
= الطردية: القول بالموجب والممانعة وبيان فساد الوضع، والمناقضة. وأما العلل المؤثرة فقد ذكروا لدفعها طريقان فاسد وصحيح، والفاسد: له أوجه أربعة: المناقضة، وفساد الوضع، وقيام الحكم مع عدم العلة، والفرق بين الفرع والأصل. والطريق الصحيح: له أوجه أربعة: الممانعة، والقلب المبطل، والعكس الكاسر والمعارضة بعلّة أخرى. ينظر: المغني للخبازي: ص 314 وما بعدها.
(1)
النقض: لغة هو إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء أو عهد، ويأتي بمعنى الهدم، يقال نقض البناء أي هدمه.
ينظر: المصباح المنير: ص 621 "نقض"، والقاموس المحيط: ص 846 مادة "نقض".
وفي الاصطلاح كما ذكره الشارح، أو تقول: أن يوجد الوصف المدّعَى عليته، ويتخلف الحكم عنه.
ويسميه الحنفية المناقضة وتخصيص العلة وقد عرفه الدبوسي بقوله: المناقضة حدها: أن توجد العلّة على الوجه الذي جعلت علّة بلا مانع ولا حكم معها. ينظر: تقويم الأدلة للدبوسي: اللوحة 666 - 667.
والكلام في هذه المسألة ورد في المصادر التالية: المعتمد للبصري: 2/ 453، 284، والتبصرة: للشيرازي: ص 466، واللمع له: ص 64، والتلخيص له أيضًا: 2/ 673 وما بعده، والكافية في الجدل للجويني: ص 172، والبرهان: 2/ 977، والمنهاج للباجي: ص 185، والجدل لابن عقيل: ص 56، والتمهيد لأبي الخطاب: 4/ 137، والمنخول للغزالي: ص 404، والمستصفى له: 2/ 336، والمحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 323، والإحكام للآمدي: 4/ 118، ونهاية السول للإسنوي: 3/ 78، ومناهج العقول: للبدخشي: 3/ 76، وشرح العضد على ابن الحاجب: 2/ 218، 268، وشرح تنقيح الفصول: للقرافي ص 399، والمسودة لآل تيمية: ص 410، 412 - 416، والمختصر لابن اللحام: ص 154، وأصول السرخسي: 2/ 208، 233، وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 4/ 33، 43، وتيسير التحرير لأمير بادشاه: 4/ 138، والتوضيح لصدر الشريعة: 2/ 85، والمغني للخبازي: ص 318، وميزان الأصول للسمرقندي: ص 770.
حجّة عليته في بعض الصور مع تخلف الحكم عنه فيها وربما يعبر عنه المعبرون بتخصيص العلّة،
ومثاله قولنا: من لم يبيت النّية يعرى أوّل صومه عنها، فلا يصح؛ لأنَّ الصوم عبارة عن إمساك النّهار جميعه مع النية، فيجعل العراء عن النيّة في أوّل الصّوم علّة بطلانه.
فيقول الخصم: ما ذكرت منقوض بصوم التطوع، فإنّه يصحّ من غير تبييت.
وأمثلة هذا الفصل تخرج عن حدّ الحصر، فلا نطل باستقصائها
(1)
.
قال: (قيل: يقدح.
وقيل: لا مطلقا.
وقيل: في المنصوصة.
وقيل: حيث مانع وهو المختار قياسا على التخصيص. والجامع جمع الدليلين؛ ولأنَّ الظنّ باق بخلاف ما لم يكن مانع).
(1)
منها أن يقول الشافعي: في الوضوء والتيمم، إنهما طهارتان فينبغي أن لا يفترقا في وجوب النية فيهما، فقد علل وجود النية في الوضوء بكونه طهارة فلا ينبغي التفريق بينه وبين التيمم الذي هو طهارة أيضا، لكن هذا يمكن أن ينتقض بغسل الثوب والبدن عن النجاسة الحقيقية فإن كل واحد منهما طهارة واجبة عند الصلاة مع أن النية في طهارتها ليست بفرض فيهما.
ينظر: البحر المحيط: 5/ 271.
الكلام في النقض من عظائم المشكلات أصولًا وجدلًا، ونحن نتوسط في تهذيبه فلا نسهب ولا نوجز بل نأتي بالمقنع.
فنقول: اعلم أولًا أنّ الصور
(1)
في النقض تسع؛ لأنَّ العلّة إمّا منصوصة قطعًا أو ظنًّا أو مستنبطة، وتخلف الحكم؛ إمّا لمانع أو فوات شرط أو دونهما، فصارت تسعًا من ضرب ثلاثة في ثلاثة
(2)
، فالقائل بأنّ النقض قادحٌ مطلقًا قائل به في التسع، ومقابله مانع في جميع ذلك ولنذكر صورها:
الأولى: القطعية المتخلف
(3)
الحكمِ عنها لوجود مانع.
الثانية: القطعية المتخلف الحكم عنها
(4)
لفوات شرط.
الثالثة: القطعية المتخلف الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرط، وإنّما يكون ذلك بعض تعبدي
(5)
أو إجماع مع عدم ظهور مانع أو شرط.
(1)
في (ت): أن صور النقض.
(2)
أي ضرب الثلاثة الأولى: وهي المنصوصة قطعًا والمنصوصة ظنًّا، والمستنبطة في الثلاثة الثانية: تخلف الحكم لمانع، أو لفوت شرط، أو دونهما. فيصير الناتج تسعة حسب ما تناولها الشارح.
(3)
في (ت): المختلف في الجميع.
(4)
(لوجود مانع. الثانية القطعية المتخلف الحكم عنها) ساقط من (غ)، (ت).
(5)
(المتخلف الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرط، وإنّما يكون ذلك بعض تعبدي) ساقط من (غ).
الرابعة والخامسة والسادسة الظنيّة كذلك
(1)
.
السابعة والثامنة والتاسعة: المستنبطة كذلك
(2)
.
وعلى الفقيه طلب أمثلتها وسنذكر في أثناء الفصل من أمثلتها الكثير إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف النّاس في النّقض هل يكون قادحًا في العليّة على
(3)
مذاهب
(4)
:
(1)
أي بالترتيب السابق: الظنية المتخلف الحكم عنها لفوات شرط، أو لوجود مانع أو لا لمانع ولا لفوات شرط بل لبعض تعبدي أو إجماع مع عدم ظهور مانع أو شرط.
(2)
وهذه كسابقتيها.
(3)
(وقد اختلف النّاس في النّقض هل يكون قادحًا في العليّة على) ساقط من (ت).
(4)
اقتصر الشارح على بعض المذاهب وهنا أقوال أخرى وإليك الأقوال على سبيل الاختصار:
الأول: أنه يقدح مطلقا في المنصوصة والمستنبطة، وهو قول الرازي ونسبه الشارح إلى أبي الحسين البصري. كما نسبه عبد العزيز البخاري لعبد القاهر الجرجاني وأبي إسحاق الإسفراييني وقال ابن قدامة:"نصره القاضي أبو يعلى".
الثاني: أنه لا يقدح مطلقًا، حكاه البخاري عن أبي زيد الدبوسي والكرخي، وأبي بكر الرازي والعراقيين من الأحناف ونسبه لمالك وأحمد وحكى ابن تيمية عن أبي يعلى أنه المذهب الصحيح لدى الحنابلة. وقال ابن قدامة "اختاره أبو الخطاب".
الثالث: لا يقدح في المنصوصة مطلقًا ويقدح في المستنبطة مطلقًا، ذكره الرازي والشارح وابن قدامة، وهو قول تقي الدين ابن تيمية، ومال إليه الشيرازي في التبصرة واللمع والملخص.
الرابع: أنه لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة ويقدح إن لم يكن مانع مطلقا، وهو اختيار المصنف البيضاوي. =
أحدها: أنَّه يقدح مطلقًا
(1)
وهو اختيار أبي الحسين البصري، والإمام وإليه ذهب أكثر أصحابنا
(2)
.
والثاني: لا يقدح مطلقًا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد
(3)
.
= الخامس: أنه يقدح إذا كان الوصف علة للحظر مطلقًا، ولا يقدح إذن كان لغير ذلك كالوجوب والحل وغيرهما، وهو محكي عن بعض المعتزلة كما عزاه الشارح.
السادس: أنه يقدح في المنصوصة ولا يقدح في المستنبطة، ذكره ابن الحاجب.
السابع: أنه لا يقدح في المستنبطة إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ويقدح في غير ذلك. وأما إن كان دليلها قطعيا، فلا يجوز ولا يمكن وقوع النقض حينئذ، لأن دليل محل النقض لا يمكن أن يكون قطعيًا لاستحالة تعارض القطعيين، وإن كان ظنيًا، فالظني لا يعارض القطعي، وهذا اختيار الآمدي وابن الحاجب.
الثامن: لا يقدح في المنصوصة مطلقًا، وفي المستنبطة إذا كان لفوات شرط أو وجود مانع أو ما علم أنه مستثنى تعبدًا، ويقدح في المستنبطة إذا كان التخلف لغير ذلك. وهذا ذكره تقي الدين ابن تيمية عن أبي محمد البغدادي.
وأما إمام الحرمين والغزالي فلكل منهما رأي مفصل في المسألة وقد ذكر الشارح شيئا منه. وقد أوصل الزركشي في البحر المحيط الأقوال في المسألة إلى ثلاثة عشر قولا. (البحر المحيط: 5/ 262 - 264. وينظر: هذه الأقوال أيضًا في المصادر السابقة.
(1)
وجه الإطلاق: أنه يستوي ما إذا كانت العلّة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان تخلف الحكم لمانع أو غيره. وهو مذهب المتكلمين ومنهم أبو إسحاق الإسفراييني وهو مذهب بعض علماء المالكية والحنابلة والحنفية.
(2)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 323، ونشر البنود: 2/ 210 - 211، والمسودة: ص 415، 412، والآيات البينات: 4/ 161 - 165، ومسلم الثبوت: 2/ 277، ونهاية السول للإسنوي: 3/ 78.
(3)
ينظر: فواتح الرحموت: 2/ 278، والمسودة: 412، ونشر البنود: 2/ 211. وقال =
والثالث: لا يقدح في المنصوصة مطلقًا في صورها الستّ، ويقدح في المستنبطة مطلقًا في صورها الثلاث
(1)
(2)
.
والرابع: واختاره المصنف لا يقدح حيث وجدَ مانعٌ مطلقًا سواءً كانت العلّة منصوصة أو مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح مطلقًا
(3)
.
وإلى المذهبين الأخيرين
(4)
أشار بقوله: "وقيل: في المنصوصة، وقيل: حيث مانع" وتقديره وقيل: لا يقدح في المنصوصة وقيل:
= الزركشي صاحب البحر المحيط: 5/ 262 "ولم أر أحدًا من أصحابنا [أي الشافعية] أقرّ به ولا نصره".
(1)
نسبه إمام الحرمين إلى معظم الأصوليين يقول في البرهان: 2/ 977 "ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلّة المستنبطة" وقال الزركشي "هذا هو اختيار القرطبي" ينظر البحر المحيط: 5/ 262.
(2)
أي المستنبطة المتخلف الحكم عنها لمانع أو لفوات شرط، أو دونهما.
(3)
ومفاد هذا الرأي: أن تخلف الحكم عن العلّة إن كان واردًا على سبيل الاستثناء فإنه لا يقدح، وأما إن لم يكن كذلك فإنه لا يعد قادحًا متى وجد مانع مطلقًا سواء في ذلك العلّة المنصوصة أو المستنبطة.
أما إن كان التخلف لا لمانع فإنه يعد قادحًا في العليّة. وهو ما نصره البيضاوي وبمثله قال صفي الدين.
ومثلوا لما ورد التخلف فيه على سبيل الاستثناء بمسألة العرايا وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر فإنها ناقضة لعلّة تحريم الربا.
ينظر: نهاية السول للإسنوي: 3/ 76 - 80، ونهاية الوصول: 8/ 3394، والمحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 349، ونشر البنود: 2/ 214.
(4)
في (غ): الآخرين.
لا يقدح حيث مانع ولم يصرح بالنّفي؛ لأنّه معطوف على منفي.
وحكى القاضي أبو بكر في التلخيص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب والإرشاد مذهبا خامسا عن بعض المعتزله أنّه يجوز تخصيص علّة الحلّ والوجوب ونحوهما مما لا يكون حظرًا.
قال: وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى
(1)
.
وحكى ابن الحاجب مذهبًا سادسا أنّه لا يقدح في المستنبطة، ويقدح في المنصوصة عكس الثالث
(2)
.
واختار مذهبًا سابعا وهو أنّه يجوز في المستنبطة في صورتين فلا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرطٍ ولا يجوز في صورةٍ واحدةٍ، ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما. وأما المنصوصة فإذا كان النّص ظنيًّا وقدر مانع أو فوات شرط جاز، ولا يجوز في القطعيّ في صوره الثلاث أي لا يمكن وقوعه؛ لأنَّ الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أنْ يكون قطعيًا؛ لاستحالة تعارض القطعيين إلا أنْ يكون أحدهما ناسخًا ولا ظنيًّا لأنَّ الظنيَّ لا يعارض القطعي
(3)
. وهذا الذي اختاره ابن الحاجب نحو ما اختاره الآمدي
(4)
.
(1)
ينظر: التلخيص لإمام الحرمين: 3/ 279.
(2)
ينظر: مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 368.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 120 - 121.
والمنعُ في النّصِ القطعيِّ إذا لم يكن مانعٌ ولا فواتُ شرط ظاهر. وأمّا إذا كان مانعٌ أو فواتُ
(1)
شرط فلا وجه للمنع، إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل؛ لأنّه حينئذ يكون ذلك الدليل مخصصًا للنّص القطعيّ اللهمّ إلّا أن تقدّر دلالة النّص على جميع الأفراد قطعيةً، فيصحّ ما قاله؛ لأنّه حينئذ لا يمكن التّخلف.
وحاصله أنَّه في النّص القطعي لا يمكن ورود النّقض وفي الظنيّ يمكن. وقال: إنّه يقدّر مانع، ولا حاجة إلى ذلك، فقد يكون تعبديًا بالدليل الدال على التخصيص من غير ظهور معنى، فيمكن النّقض ولا يكون قادحًا، وفي المستنبطة يجوز حيث مانعٌ، أو فقدانُ شرطٍ ولا يجوز فيما سواهما، ففيما سواهما يكون قادحًا، ولا يكون النّقض قادحًا في شيء من المواضع إلا في هذا المكان وهو إذا استنبطت علّة وتخلفَ الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرطٍ، فيستدل حينئذ بالتّخلف على فسادها. فينبغي أن يختصرَ الكلام، ويقالَ: النّقض يقدح في العليّة إذا كانت مستنبطة ولم يكن
(2)
مانع ولا فوات شرط ولا يقدح فيما سواه.
وأمّا إمام الحرمين فذهب إلى رأي ثامن فقال: في المستنبطة إن انقدح من جهة المعنى فرّق بين ما وَرَد نقضًا وبين ما نصبه المستنبِط
(3)
علّة بطلت علته
(4)
؛ لأنّه يتبين بهذا أنّه ذكر في الابتداء بعض
(1)
في (ت): فات.
(2)
(يكن) ليس في.
(3)
في (ص)، (ت): المستنبطة.
(4)
(بكلت علته) ليس في (ت).
العلّة وأظهر أنّه علّة مستقلة وإن لم ينقدح فرْق فإنْ لم يكن الحكم فيها مجمعًا عليه أو ثابتًا بمسلك قاطع سمعي بطلت
(1)
علته أيضًا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلّة فإذا لم يف بحقّ طردها فكيف يُلزم الخصمَ حقّ طردها في موضع قصده، وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلّة فهذه موضع الأناة
(2)
والاتئاد، فإنْ كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علّة المعلل
(3)
معللًا بعلّة معنوية جارية فورودها ينقض العلّة من جهة أنّها منعت العلّة من الجريان
(4)
وعارضتها بفقه.
وإن كانت
(5)
المسألة قاطعة للطرد ولا فرق وكان لا يتأتى تعليلُ الحكم فيها على المناقضة بعلّة فقيهة، فهذا موضع التّوقف، هذا رأيه في المستنبطة
(6)
.
وحاصله أنّ النّقض قادحٌ فيما إذا انقدح فرق، أو لم يمكن الحكم في الصورة مجمعًا عليه أو لم يكن ثابتًا بقطعيٍّ، أو كان ثابتًا بإجماع وفي محل النّقض معنىً يعارض العلّة التي ذكرها المستدل، ويمنعها من الجريان وإنْ لم يكن كذلك فالتّوقف.
وأمّا المنصوصة فإن كان بنصٍّ ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أنّ
(1)
في (غ): بطلب.
(2)
في (ص): الإباء.
(3)
في (ت): العلل.
(4)
في (غ): الحيوان.
(5)
في (غ): طارت، وفي (ت): ضرب.
(6)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 987 - 988.
الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك من مقتضى لفظه. وتخصيص الظواهر ليس بِدْعًا وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عمّم
(1)
بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرد العلّة فيها فلا مطمَع في تخصيصها لقيام القطع على العليّة، وجريانها على اطراد ونصُّ الشارع لا يصادم، وإن نصّ الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علّة لمسائل معدودة، فلا يمتنع ذلك
(2)
ولا معترض عليه في تنصيصه وتخصيصه ولو نصّ على نصب علّة على وجه لا يقبل أصل النّصب تأويلًا، ولم يجر في لفظ الشارع بتنصيص على التّعميم على وجه لا يؤول
(3)
ولا على التخصيص بمواقع مخصوصة فهذا عام، ولا يمتنع فيه تخصيص العلّة
(4)
.
وأمّا حجّة الإسلام الغزالي فذهب إلى مقالة تاسعة فقال: تخلف الحكم عن العلّة يفرض
(5)
على ثلاثة أوجه: الأول أنْ يعرض في صوب جريان العلّة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمّى نقضا وهو قسمان:
أحدهما: ما يظهر أنَّه ورد مستثنى عن القياس مع استبقاء القياس، فلا يفسد العلّة بل يخصصها بما وراء المستثنى، ويكون علّة في غير محل الاستثناء، ولا فرق بين
(6)
أنْ يرِد ذلك على علّة مقطوعة أو مظنونة.
(1)
في (غ): عمّ.
(2)
(ذلك) ليس في (ت).
(3)
في (ت): تأويل.
(4)
ينظر تفاصيل رأي الجويني في البرهان: 2/ 999 - 1001.
(5)
(فذهب إلى مقالة تاسعة فقال: تخلف الحكم عن العلّة) ساقط من (غ).
(6)
(بين) ليس في (ت).
مثال الأوّل: إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإنّ علّة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء، والشرع لما أوجب ذلك لم ينقض هذه العلّة، إذ عليها تعويلنا في الضمانات، لكن استثنى هذه الصورة، فهذا الاستثناء لا يبين للمجتهد فساد هذه العلّة ولا ينبغي أنْ يكلف الناظر الاحتراز عنه، حتّى نقول في علّته تماثل الأجزاء في غير المصراة، فيقتضي إيجاب المثل، لأنَّ هذا تكليف قبيح
(1)
.
ومثال الثاني: مسألة العرايا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنف.
وثانيهما: ما لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إمّا أنْ يرد على المنصوصة أو المظنونة، فإنْ ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلّا بأن ينعطف منه قيد على العلّة، ويتبين أنّ ما ذكر لم يكن تمام العلّة.
مثاله: قولنا: خارج فينقض الطهر، أخذًا من قوله: الوضوء مما خرج، ثمّ بان بأنّه لم يتوضأ من الحجامة، فيعلم أنّ العلّة ليس مطلق كونه خارجًا بل خارج عن المخرج المعتاد فكان مما ذكر بعضَ العلّة، فإنْ لم يكن كذلك، فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل، أو يراد به التعليل، لكن لا لذلك الحكم المذكور، قال
(1)
ومثّل الغزالي بمثال آخر تركه السبكي رغبة منه في الاختصار يقول الغزالي: 2/ 337 "وكذلك صدور الجناية من الشخص علّة وجوب الغرامة عليه، فورود الضرب على العاقلة لم ينقض هذه العلّة ولم يفسد هذا القياس، لكن استثنى هذه الصورة فتخصصت العلّة بما وراءها".
الله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
(2)
وليس كلّ من شاقق الله ورسوله يخرِب بيته فتكون العلّة منقوضة
(3)
ولا يمكن أنْ يقال:
(4)
إنّه علّة في حقّهم خاصّة؛ لأنّ هذا يعدّ تهافتًا في الكلام، فإذن الحكم المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور، بل هو لازمه أو جزؤه الأعمّ وهو كونه عذابًا ولا شك أنّ كلّ من يشاقق الله ورسولَه فإنّه معذّب إمّا بخراب البيت أو غيره.
وهذا وإن كان خلافَ الظاهر وتأويلًا للنّص، لكن يتعين المصير إليه رعايةً لعدم انتقاض الكلام، وإن ورد على العلّة المظنونة، وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإخالة إنْ كانت العلّة مخيلة أو من طريق الشبه
(5)
إن كانت شبهًا. فهذا يبين أنّ ما ذكر
(6)
لم يكن تمام العلّة، وانعطف قيد على العلّة من مسألة النقض به يندفع النقض.
أمّا إذا كانت العلّة مخيلة
(7)
، ولم ينقدح جواب مناسب، وأمكن كون النّقض دليلًا على فساد العلّة، وكونه معرفًا اختصاص العلّة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبهية
(8)
بفصلها عن غير مجراها فهذا
(1)
سورة الحشر من الآية 2.
(2)
سورة الحشر من الآية 3.
(3)
في (ت): منصوصة.
(4)
في (ص): يقول.
(5)
في (ت)، (غ): التشبيه.
(6)
في (ت): ذكرتم.
(7)
في (ت): مختلة.
(8)
في (ت): التشبيهية، وفي (ص): الشبيهة.
الاحتراز عنه مهمٌّ في الجدل للمناظر لكنَّ المجتهدَ الناظرَ ماذا عليه أن يعتقد
(1)
في هذه العلّة الانتقاض والفساد والتخصيص؟ .
هذا عندي في محل الاجتهاد، ويتبع كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه.
ومثاله: قولنا: إنّ صوم رمضان يفتقر إلى تبييت النيّة؛ لأنَّ النّية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النّهار واجب، وأنّه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع، فإنّه لا يصح إلا بنيّة، ولا يتجزأ على المذهب الصحيح، ولا مبالاة بمذهب من يقول: إنّه صائمٌ بعض النّهار فيحتمل أنْ ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلّة بسبب التطوع ويحتمل أنْ ينقدح له أنّ التطوع ورد مستثنى رخصةً؛ لتكثير النوافل فإنّ الشرع قد يسامح في النفل بما لا يسامح به في الفرض فالمخيل
(2)
الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلًا بين مجرى العلّة وموقفها. ويكون ذلك وصفًا شَبَهيًا اعتبر في استعمال المخيل، وتمييز مجراه عن موقفه ومن أنكر قياس الشبه جوّز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهيِّ، فأكثر العِلل المخيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا تنقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلّة، وهذا التردد إنّما ينقدح في معنى مؤثر لا يحتاج إلى شهادة الأصل فإنّ مقدمّات هذا القياس مؤثرة بالاتفاق من قولنا: إنّ كلَّ
(3)
الصوم واجب وإنّ النّية عزم لا تنعطف على
(1)
في (ص): يعتقده.
(2)
في (ت): فالمختل في الجميع.
(3)
(كل) ليس في (غ)، (ت).
الماضي وإنّ الصّوم لا يصحّ إلا بنيّة فإنْ كانت العلّة مناسبة بحيث تفتقر إلى أصل يستشهد به فإنها تشهد لصحتها ثبوت الحكم في موضع واحد على وِفْقها فتنتقض هذه الشهادة بتخلف الحكم عنها في موضع آخر، فإنّ إثبات الحكم على وِفْق المعنى إنْ دلّ على التفات الشرع إليه، فقطع الحكم أيضًا يدلّ على إعراض الشرع عنه.
وقول القائل: إنّي اتبعته إلّا في محل إعراض الشّرع بالنّص ليس
(1)
بأولى من قول خصمه أعرض عنه إلا في محل اعتبار الشرع إيّاه
(2)
بالتنصيص على الحكم.
وعلى الجملة يجوز أنْ يصرح الشّرع بتخصيص العلّة واستثناء صورة عنها ولكن إذا لم يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلّة أنْ يكون لفساد العلّة، وأنْ يكون لتخصيصها
(3)
فإنْ كانت العلّة قطعيةً كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلّة وإن كانت مظنونة ولا مستند للظنّ إلّا إثباتُ الحكم على وفقها في موضع فينقطع هذا الظنّ بإعراض الشرع عن إثباتها في موضع وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة التبييت كان ذلك في محل الاجتهاد.
الوجه الثاني: لانتفاء حكم العلّة: أنْ ينتفي لا لخلل
(4)
في نفس العلّة
(1)
(ليس) ليس في (ت).
(2)
(إياه) ليس في (ت).
(3)
في (ت): التخصيص.
(4)
في (غ): أن ينتفي الخلل.
لكن يندفع الحكم عنه بمعارضةٍ علّةٍ أخرى دافعةٍ كما سيأتي تمثيله
(1)
في كلام المصنف في أنّ علة رقّ الولدِ مِلك الأمّ، وتخلف في ولد المغرور فهذا لا يَرِد نقضًا؛ لأنَّ الحكم هنا كأنّه حاصل تقديرًا.
الوجه الثالث: أن يكون النّقض مائلًا عن صوب جريان العلّة، ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلّة، لكن لعدم مصادفتها محلّها أو شرطها أو أهلها كقولنا: السرقة علّة القطع وقد وجد في حقّ النّباش فقيل: تبطل بسرقة الصبي، وسرقة ما دون النصاب، والسرقة من غير حرز، أو نقول والتبع علّة الملك وقد جرى فلا يثبت الملك في زمن الخيار، فيقال: باطل ببيع المستولدة
(2)
، والموقوف، والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت المجتهد إليه؛ لأنَّ نظره في تحقيق العلّة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره.
أمّا المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأنّ هذا منحرف عن مقصد النظر؟ وليس البحث عن المحل والشرط فيه اختلاف بين الجدليين. والخطب فيه يسير والجدل شريعة وضعها أهلها فإليهم
(3)
وضعها
(4)
كيف شاءوا. أو تكليف الاحتراز أجمع لنشر الكلام وذلك بأنْ يقول: بيعٌ صَدَرَ من أهله وصادَفَ محلَه، وجميع شروطه
(5)
فيفيد المِلْكَ بأنْ
(1)
في (غ): بمثله.
(2)
في (غ): المتولدة.
(3)
في (ت): فالمبهم.
(4)
فى (غ): وضعًا.
(5)
في (غ)، (ص): شرطه. بالإفراد.
سَرَقَ نصابًا كاملًا من حرز لا شبهة له فيه
(1)
اهـ. هذا تمام كلام الغزالي رضي الله عنه.
وهو عندنا كلامٌ جيدٌ مرضيّ، فلذلك احتملنا طوله وأوردناه
(2)
وفيما ذكرناه من تفاصيل المذاهب شفاء للعليل فلنلتفت إلى كلام صاحب الكتاب وقد علمت أنّ اختياره أنّ التخلف إن كان لمانع لا يقدح وإلا قدح سواء كانت العلّة منصوصة أو مستنبطة.
فإن قلت: كيف يتصور تخلف الحكم لا لوجود مانع، أو لفوات شرط في محل فيه وصف نصّ الشّارع قطعًا أو ظاهرًا على عليّته أو استنبط ذلك استنباطًا صحيحًا.
قلت: هو لعمر الله بعيد الوجود، والمجوز لذلك إنما مستنده جواز تخصيص العلّة منصوصةً كانت أو مستنبطةً، والتّخصيص لا يكون بغير مخصص، ذلك المخصص إنْ كان حيث يوجد
(3)
مانع أو يفوت
(4)
شرط لم يكن صورة المسألة، وإنْ كان بدونهما
(5)
أمكن وهو محتمل على بعد بأنْ يحصل نصّ على عدم الحكم في محل الوصف فيه موجود، وليس فيه معنى يدّعى أنَّه مانع أو عدمه شرط وهيهات أنْ يوجد ذلك.
(1)
ينظر: المستصفى: 2/ 336 - 341. نقل كلام الغزالي على طوله.
(2)
بالرغم من أنه لم ينقله حرفيا بل تصرف في عبارته بالحذف أحيانا أو تغيير التعبير.
(3)
فى (ت): وجد.
(4)
في (ت): تفوت.
(5)
في (ص): بدونها.
وإذا عرفت
(1)
هذا فقد استدل المصنف على ما اختاره بوجهين.
أحدهما: قياس النّقض على التخصيص، حيث لا يقدح في حجية العام في الباقي على ما سبق في مكانه، والجامع الجمع بين الدليلين المتعارضين، فترتب الحكم على العلّة فيما عدا صورة وجود المانع، إذ الوصف بالنسبة إلى موارده كالعام بالنسبة إلى أفراده، والمانع المعارض للوصف كالمخصص المعارض للعام، وهذا الوجه يختص بأحد شقي المدعى، وهو أنّ التخلف إذا كان لمانع لا يقدح.
والثاني: أنّ التّخلف إذا كان لمانع فظنّ عليّة الوصف باق، والعمل بالظنّ واجب بخلاف ما إذا لم يكن التخلف لمانع، فإنّ ظنّ العليّة ينتفي، وذلك لأنَّ انتفاء الحكم إذا لم يكن لمانع يتعين أنْ يكون لعدم المقتضى، فيكون التخلف لا لمانع قادحًا في العليّة.
قال رحمه الله: (قيل: العلّة ما يستلزم الحكم، وقبل انتفاء المانع لم يستلزمه.
قلنا: بل ما يغلب على ظنّه، وإن لم يخطر المانع وجودًا وعدمًا).
هذه حجة من حجج القائلين بأنّ النّقض يقدح مطلقًا، وتقريرها أنّ العلّة ما تستلزم الحكم وقبل أنْ ينتفي المانع أي مع وجوده لا يستلزم الحكم، فلا تكون علّة وحينئذ يكون تخلف الحكم مع وجود المانع قادحًا
(1)
في (غ)، (ت): عرف.
في العليّة، وإذا كان كذلك كان التخلف لا لمانع قادحًا بطريق أولى.
والجواب: أنّا لا نسلم كونَ العلّةِ ما تستلزم الحكم بل هي ما يغلب على الظنّ
(1)
وجود الحكم بمجرد النظر إليه، وإنْ لم يخطر وجود المانع أو عدمه بالبال.
وهذا الجواب يستدعي تحديد
(2)
العهد بالكلام في العلّة وقد بنى المصنف كلامه على المختار من أنّ العلّة المعرِّفُ.
ولقائل أنْ يقول: إن قلنا: إنّ
(3)
العلّة مؤثرةٌ أو باعثةٌ فلا ريب في أنّها تستلزم، وإنْ قلنا: إنّها معرِّفَة فقد
(4)
نصبت أمارة فتعريفها للحكم موجب ظنّ حصوله فصار مستلزمًا لحصول الظنّ، والعمل بالظنّ واجبٌ، فهي مستلزمة على الأقوال جميعها، وإن اختلفت جهة الاستلزام وحكمها.
وقال أبو الحسين في المعتمد: إنّ أقوى ما يحتج به هؤلاء أنْ يقال: تخصيص العلّة مما يمنع كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواءً ظنّ كونها جهة المصلحة أو لا يظنّ ذلك لكن ذلك باطل؛ لأنّ العلّة فائدتها كونها
(5)
توجب العلم أو الظنّ، لثبوت الحكم في الفرع وإلا ففي
(1)
(الظن) ليس في (غ).
(2)
في (ص): تجديد.
(3)
(إن) ليس في (ص).
(4)
(فقد) ليس في (ص).
(5)
(جهة المصلحة أو لا يظنّ ذلك لكن ذلك باطل؛ لأنَّ العلّة فائدتها كونها) ساقط من (غ).
الأصل لا حاجة إليها؛ لثبوت الحكم فيه بالنّص، وإذا لم يحصل هذا بطل كونه علّة.
وبيانُ أنَّه يمنع كونها أمارة على الحكم أنّا إذا علمنا أنّ علّة حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب هي كونه موزونًا، ثمّ علمنا إباحةَ بيع الرصاص بالرصاص متفاضلًا
(1)
مثلًا مع أنه موزون فلا يخلو إمّا أن يعلم ذلك بعلّة أخرى يقتضي إباحته أو بنّص، فإنْ علِمنا إباحتَه بعلّة أخرى
(2)
يقاس بها الرصاص على أصل ثبت فيه ذلك الحكم لكونه أبيضَ مثلًا فإنّا إذا علمنا في شيء أنَّه موزون وشككنا في كونه أبيضَ مثلًا لم يعلم قبح بيعه متفاضلًا ما لم يعلم أنَّه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه
(3)
موزونًا فظهر أنَّه لا يعلم بعد التخصيص تحريم بيع شيء متفاضلًا لكونه موزونًا فقط، فبطل أنْ يكون كونه موزونًا وحده علّة بل كونه موزونًا مع كونه غير أبيض
(4)
.
وإن علمنا إباحته بالنّص، فالكلام فيه كما في القسم الأول.
وأجيب: عن هذا الوجه بأنا نسلم أنَّه مهما انتفى الحكم عن العلّة في بعض الصور لمعارض
(5)
فما لم يعلم أو يظن انتفاء ذلك المعارض في غيره
(1)
(متفاضلًا) ليس في (ت).
(2)
(يقتضي إباحته أو بنّص، فإن علمنا إباحته بعلّة أخرى) ساقط من (ت).
(3)
(أبيضَ مثلًا لم يعلم قبح بيعه متفاضلًا ما لم يعلم أنَّه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه) ساقط من (غ).
(4)
ينظر المعتمد: 2/ 284.
(5)
في (ت): المعارض.
من الصور لا يمكننا إثبات ذلك الحكم فيه، لكن لم قلتم أنَّه يلزم منه أنْ يكون إثبات ذلك الحكم فيه داخلا في ذات العلّة؟ بل جاز أنْ يكون شرطًا.
واحتج القائلون: بأنّ النّقض لا يقدح مطلقًا بأوجه:
منها: ما روي عن ابن مسعود أنَّه كان يقول: "هذا حكم معدول به عن سنن القياس"
(1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مثله
(2)
واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعًا.
وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنَّه لا دلالة لقول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم على أنّ القياس الذي ثبت الحكم على خلافه أنَّه
(3)
حجّة، فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدًا.
والثاني: سلمنا أنَّه حجة، لكن يمكن حمل ذلك على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء، ويجب الحمل عليه جمعًا بين الأدلة.
واعترض صفي الدين الهندي على الأول بعد أن ذكر أنَّه إشكال قوي، بأنّ إطلاق القياس عليه يشعر إشعارًا ظاهرًا لكونه
(4)
حجة وتسميته
(1)
نقله الرازي في المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 339، والآمدي في الإحكام: 3/ 248، وصفي الهندي في النهاية: 8/ 3403. وقد تتبعت كتب الآثار المتاحة فلم أقف عليه.
(2)
لم أقف أيضًا على أثر ابن عباس.
(3)
(أنّه) ليس في (ص).
(4)
في (ص)، (غ): بكونه.
بذلك اعتبارًا بما
(1)
كان قبل ذلك الحكم المعدول به مجازًا على خلاف الأصل والقياس الذي لا يعمل به من المنسوخ والفاسد لا نسلم أنَّه يسمى قياسًا إذ ذاك
(2)
على الإطلاق في العرف وإنْ سمي به مقيدًا
(3)
.
ومنها: أنّ العلّة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع فوجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة، إذ ليس من شرط الأمارة أنْ يصحبها الحكم ولا يتخلف عنها أصلًا، وإلا لكان دليلًا قاطعًا لا أمارةً، ولهذا، إنّ جميع الأمارات الشرعية موجودة قبل ورود الشرع وإنْ لم تكن الأحكام ملازمة لها والغيمُ الرطب أمارة على وجود المطر وإن تخلف عنه المطر آونة. وخبر الواحد العدل
(4)
علامةٌ على وجود الحكم
(5)
وإن تخلف عند وجود القاطع.
وجوابه: أنا لا نسلم أنّ تخلف الحكم عن الأمارة لا يقدح في كونها أمارة.
قوله: لو صحبها الحكم في كل الصور لم تكن أمارة بل قاطعًا.
قلنا: ممنوع وهذا؛ لأنَّ القاطع هو الذي لا يجوز أنْ ينفك الحكم عنه ولو لمانع، لا أنَّه الذي لا ينفك الحكم عنه. فإنّ الدليل الظني قد لا ينفك
(1)
في (ت): أنّ ما كان.
(2)
في (غ)، (ت): ذلك.
(3)
ينظر: النهاية للصفي: 8/ 3403، وينظر المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 342.
(4)
(العدل) ليس في (غ)، (ت).
(5)
(الحكم) ليس في (ص).
الحكم عنه
(1)
وإن كان يجوز انفكاكه لمانع.
وما ذكروه من الأمثلة فنحن نمنع كونه لا يقدح في غلبة الظنّ في كونه أمارة وإنما لا يقدح ذلك إذا غلب على ظنّه حصول ما يلازم انتفاء الحكم في صورة التخلف، فأمّا إذا لم يحصل ذلك، فلا نسلم أنه لا يقدح ذلك فيه ثمّ الذي يؤيد ما ذكرناه من الاحتمال أنّ الدليل الدال على كون الأمارة أمارة للحكم الفلاني إنْ اعتبر في كونها أمارة صورًا مخصوصةً وصفةً مخصوصةً وهيئةً مخصوصةً فلا يكون تخلف الحكم في غير تلك الصور وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الأمارة بل عن بعضها؛ لأنَّ تلك الخصوصيات معتبرة في ماهية الأمارة حينئذ وإن لم يعتبر ذلك بل دلّ على كونها أمارة في سائر الصور كيف حصلت فيمتنع التخلف وإلا
(2)
يلزم الترك لمقتضى دليل الأمارة وهو باطل.
واحتج القائلون بأن النقض يقدح في المستنبطة دون المنصوصة بأنّ دليل العلّة المستنبطة اقتران الحكم بها في بعض الصور فكما أنّ اقتران الحكم بالوصف في بعض الصور يدل على العلية، فعدم الاقتران به في بعض الصور يدلّ على عدم العلية فتعارضا وتساقطا، بخلاف العلّة المنصوصة فإنّ دليل عليتها النّص، فكما أنّ تخلف حكم النّص عنه في بعض الصّور لمعارض لا يوجب إبطال العمل به فيما عداها
(3)
فكذلك العلّة
(1)
(ولو لمانع لا أنَّه الذي لا ينفك الحكم عنه. فإنّ الدليل الظني قد لا ينفك الحكم عنه) ساقط من (غ)، (ت).
(2)
في (غ): ولا يلزم.
(3)
في (ت): فيما عداه.
المنصوصة التي في معناه.
وأجيب: عنه بأنَّه ليس دليل علية المستنبطة مجردُ الاقتران بل شهادةُ المناسبة أو غيرها من الطرق المذكورة، والتخلفُ لمانع أو فواتُ شرط لا يدلّ على عدم العليّة لما سبق فلا يعارض دليل العليّة كما في المنصوصة.
قال: (والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا؛ لأنَّ الإجماع أدلّ من النقض).
ما تقدم في كلام المصنف هو فيما إذا لم تكن صورة النقض واردة على سبيل الاستثناء، أمّا إذا كانت واردةً على سبيل الاستثناء فإنّه لا يقدح على المختار خلافًا لبعض المانعين من جواز تخصيص العلّة سواءً كانت العلّة معلومةً كمسألة الصاع في المصراة
(1)
أو مظنونةً وهي
(2)
كمسألة العرايا،
(1)
المصراة: التصرية: مصدر صرّى كعلّى تعلية، وسوّى تسوية والمصرّاة التي تصر أخلافها، ولا تحلب أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها فإذا حلبها المشتري استغزرها. أو هي: جمع اللبن في ضرع بهيمة الأنعام. ينظر: المطلع على أبواب المقنع ص 236، الصحاح: 2/ 710. ولفظ الحديث كما هو في البخاري ومسلم: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر". وحديث المصراة أخرجه الشيخان: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (30) باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل (64) 2/ 410، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع (21) باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه (4) رقم (1515) 3/ 1155.
(2)
(وهي) ليس في (ص).
وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر والعنب في الكرم بالزبيب، فإنّها واردة نقضًا على تحريم الربا؛ لأنَّ العلّة في تحريمه إمّا الطعم أو الكيل أو القوت أو المال وكلّ منها
(1)
موجود في العرايا وإنما لا يقدح ذلك
(2)
في العلّة؛ لأنه إنما يعلم كونه وَرَدَ على سبيل الاستثناء إذا كان النّقضُ لازمًا على جميع المذاهب كما ذكرنا في مسألة العرايا؛ وحينئذ يكون معارضًا للإجماع فإنّه منعقد على أنّ علّة الربا أحد الأمور الأربعة، والإجماع أقوى في الدلالة منه فيقدّم عليه، ويعمل بمقتضاه.
واعلم أنّ الإمام مَثَّل للوارد على سبيل الاستثناء في المظنونة بمسألة العرايا، وفي المعلومة بضرب الدية على العاقلة، فإنّها لا تنقض علمنا بأنّ من لم يقدم على الجناية لم يؤاخذ بضمانها
(3)
.
وقد سبق الإمام بهذا المثال إمامُ الحرمين وغيره واعترض على التمثيل
(4)
به بأنّه عكس
(5)
النّقض؛ لأنَّه أبدَى الحكم بدون العلّة، وذلك أنّ الجناية سبب لوجوب الضمان وهنا وجب بدون الجناية، وهو اعتراض غير منقدح؛ لأنَّ تقرير التمثيل بذلك أنْ يقال: الجناية سببُ الضمان، وقد تخلف الحكم في القاتل خطأَ أو عمدَ خطأ مع وجود العلّة وإنْ قرر على الوجه المذكور كان بمعنى
(6)
أنْ يقول: عدم الجناية سبب لعدم الضمان.
(1)
في (غ): منهما.
(2)
فى (ت): في ذلك.
(3)
ينظر: المحصول للرازى: ج 2/ ق 2/ 352.
(4)
في (غ): التمسك.
(5)
في (ت): من عكس.
(6)
في (غ)، (ت): بمعين.
وقد وجد هذا السبب في العاقلة مع تخلف عدم الضمان
(1)
.
والمصنف اقتصر على التمثيل بمسألة العرايا؛ لأنها واردة نقضًا على علّة مظنونة، فإذا لم يقدح فيها لم يقدح في المعلومة بطريق الأولى.
وفي التمثيل بمسألة العرايا دقيقة أخرى وهي الإشارة إلى أنّ ما ورد مستثنى جاز أنْ يكون معقولَ المعنى كمسألة العرايا، فإنّها استثنيت رخصةً وتسهيلًا على المعسرين، ولذلك يختص بها الفقراء على أحد القولين
(2)
. وهذا ما عليه الجمهور؛ وأعني أنّ المستثنى يجوز أنْ يعقل له معنى وألا يعقل.
وادعى إمام الحرمين أنّ الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى وأنَّ ما يعقل معناه لا يستثنى، ثمّ أورد تحمل العاقلة ومسألة المصراة فقال إذا أردنا إجراء علّة
(3)
في تخصيص الغرامة بمختص بسببها ومقتضاها طردناها غير مكترثين بتحمل العاقلة على قطع، وتحملهم لا يعترض على ما تمهد من المعنى، ولو ظنّ ظانّ أنَّه ينقدح في تحمل العاقلة معنى يصحّ على السبر
(1)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 991.
(2)
قال الشيرازي في التهذيب: 1/ 275 "وهل يجوز للأغنياء فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز وهو اختيار المزني لأن الرخصة وردت في حق الفقراء، والأغنياء لا يشاركونهم في الحاجة فبقي في حقهم على الحظر.
والثاني: أنه يجوز لما روى سهل بن أبى حثمة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تبتاع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا" ولم يفرق ولأن كل بيع جاز للفقراء جاز للأغنياء كسائر البيوع".
(3)
(ثمّ أورد تحمل العاقلة ومسألة المصراة فقال إذا أردنا إجراء علّة) ساقط من (غ).
مأخوذًا من المعاونة فهذا غير سديد، فإنّ ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعمّ وجودًا وأغلب وقوعًا من القتل الواقع خطأ أو على شبه
(1)
العمد، ثمّ الإعانة إنما تجري في الشريعة إذا كان المعان معسرًا وعلى هذا انتظمت أبواب النفقات والكفارات والقاتل خطأ يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس بمثل هذه التخيلات اعتبار.
وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في
(2)
المثليات التي تتشابه أجزاؤها فيلزمنا عليه إيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من التّمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتفل بمثل هذا الإلزام، ولا تعويل على قول المتكلفين
(3)
إذ زعموا أنّ اللبن المحتلب في أيام احتيار الغزارة والبكاءة يقع مجهول القدر فرأي الشارع فيما يقلّ ويكثر إثبات مقدر من جنس درءًا للنزاع.
فإنّ هذا لا جريان له أصلًا ويلزم طرد مثله في كلّ مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعمّ ويغلب الابتلاء بالحكم به. فإنّ أمثال هذه المعاني البعيدة إنما تثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنَّها لو كانت كذلك أيضًا كانت من المعاني الكليّة التي لا تتخلص في مسالك العرض على السبر ثم تعيين جنس التّمر كيف يهتدي إلى تعليله. وإنما المطلوب فيما فرضناه الكلام في الجنس المعدول إليه لا في
(1)
في (غ): سببه.
(2)
في (ت): إلى.
(3)
في (ت): المتكلمين.
المقدار فإنّ ما ذكروه من دوام النزاع يقدَّر
(1)
انقطاعه بذكر مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الثمن
(2)
. انتهى.
وإمام الحرمين أجلّ من أنْ يصادم كلامه بكلمات أمثالنا ولكنا نقول على جهة الاستشكال دون المناظرة مسألة العاقلة معقولة المعنى واتفاق الجاهلية على ذلك قبل ورود الشرع يرشد إلى ذلك؛ لأنَّ التعبدي لا تهتدي إليه العقول وإنما يُتلقى من الشرع.
فإن قلت: وما ذلك المعنى؟ .
قلت: المعاونة على حمل الجناية.
قولكم: ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال.
قلنا: أولًا: هذا نقض، والكلام في أنّ النقض يقدح.
وثانيًا: أنّ الأموال غالبًا لا تتلف ما يشقّ
(3)
مؤنة، وإنّما يكون ذلك في أمور
(4)
يسيرة، وأمّا إتلاف النّفوس، فالأمر فيها مشقّ وإذا ثبت التحمل
(5)
في موضع يعظم العزم فيه لم يلزم إثباته في موضع لا يعظم فيه ولا يشقّ.
(1)
في (غ): بقدر.
(2)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 991 - 992.
(3)
في (ص): سيق.
(4)
في (ت): أشياء.
(5)
في (ص): الحمل.
وأيضًا: فوقوع إتلاف النّفوس لا يكثر بخلاف الأموال، فلم يلزم من تحمل ما يقع نادرًا تحمل ما يغلب وقوعه.
وأيضًا: فقد كانت العرب تتناضل أبطالها، وتتجاول فرسانها، وبهم إلى ذلك حاجة ويقع القتل الخطأ عند الطراد، فرجعت الفائدة إلى العاقلة فناسب توزيع الغرم الذي لا يشقّ عليهم.
قولكم: وهو أعمّ وجودًا وأغلب وقوعًا من قتل الخطأ وشبه العمد.
قلنا: لعل ذلك هو السبب في عدم التحمل فيه كما بيناه؛ فإنّ الشيء إذا كان وقوعه نادرًا تناسبت فيه المعاونة.
قوله: الإعانة إنما تكون إذا كان المعان معسرًا.
قلنا: الإعانة من حيث هي مطلوبة محبوبة، والصدقة على الأغنياء عندنا
(1)
جائزة ولكن الإعانة حالة الإعسار آكد وربما شبه إعانةَ الأقارب بتحمل الدية عنهم بإعانة الأجانب الذين غرموا لإصلاح ذات
(2)
البين بصرف سهم من الزكاة إليهم.
وأما مسألة المصرّاة فمعقولة المعنى أيضًا من جهة ما ذكره إمام الحرمين.
وقوله: يلزم طرد مثله في كلّ مثلي جهل مقداره إلى قوله كيف يهتدى إلى تعيين جنس التمر.
(1)
(عندنا) ليس في (ص).
(2)
(ذات) ليس في (ت).
قلنا: قد رجع الشرع إلى البدل من غير مثل ولا يقوم في أماكن منها الحرّ يضمن بمائة من الإبل.
ومنها: الجنين يضمن بالغرّة
(1)
ويستوي فيه الذكر والأنثى.
ومنها: المقدرات الشرعية في الشجاج
(2)
كالموضحة
(3)
مع اختلافها في الصغر
(4)
والكبر.
ومنها: جزاء الصيد فليس من شرط الضمان أنْ يكون بالمثل أو القيمة من النقدين ولا من شرط المثل أنْ يضمن بالمثل والعدول في الأمور التي لا تنضبط إلى شيء مقدر لا يختلف من محاسن الشريعة قطعًا للتشاجر والتخاصم.
والتمر كان أغلب أقواتهم كما أنّ الإبل غالب
(1)
الغرّة: العبد نفسه، أو الأمة، وأصل الغرة: البياض في وجه الفرس، فالغرة: أول الشيء وخياره، والعبد وبياض فى وجه الفرس. فإدا قال: في الجنين غرة، احتمل كل واحد منها، فإذا قال غرة عبد تخصصت الغرة بالعبد. والغرّة في الجناية: عبد أو أمة ثمنه نصف عشر الدية. ينظر: المطلع: ص 364، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي: ص 536.
(2)
الشجة: الجراحة وإنما تسمى بذلك إذا كانت في الوجه أو الرأس والجمع شجاج وقد يستعمل في غير ذلك من الأعضاء. ينظر: المصباح المنير: ص 304 "شجة"، والمطلع على أبواب المقنع: ص 366.
(3)
الموضحة: التي تبدي وضح العظم أي: بياضه، والجمع المواضح. ينظر: المطلع على أبواب المقنع: ص 367.
(4)
فى (ت): بالصغر.
أموالهم، وقد انتهى ما تخيلناه وأوردناه إيراد المستشكل وعند الإنصاف لا يخفى التعسف والتكلف فيما أوردناه ولكنّا نطرق سبيلا للبحث يسلكه الفطن غير ناظرين إلى الجزم بصحته.
وقد تعرض ابن الأبياري شارح البرهان لما أوردناه في مسألة العاقلة
(1)
. والذي نقوله أخيرًا: إنّ الظاهر أنّ الحقّ في جانب إمام الحرمين ولو عقل في العاقلة معنى المعاونة لعدى إلى الجيران ولكان أبعاض الجاني من آبائه وبنيه أولى من بقية العصبات في تحملها مع كونهم لا يتحملونها، وأما تشبيه تحمل الأقارب الدّية بإعانة الأجانب للغارمين، فأين أحدهما من الآخر؟ . والغارمون قد ثبت في ذمتهم وناسب قضاء دينهم في ذلك. أمّا
(2)
القاتل خطأً أو عمدَ خطأ فلم يشغل الشارع ذمته بشيء، فلا ريب في أنّ هذا حكم تعبدي نتلقاه على الرأس والعين وكذلك القول في مسألة المصرّاة.
ثم ألحق إمام الحرمين بتحمل العاقلة الكتابة الفاسدة حيث نزّلها منزلة الكتابة الصحيحة.
وإذا قلنا في البيع الفاسد: الملك لا ينتقل
(3)
بدون سبب شرعي، والفاسد حائد عن سبيل الصحّة غير واقع الموقع المطلوب في الشريعة فلا وقع له في مقصود العقد الصحيح لم يمكن للخصم نقض
(1)
ينظر شرح البرهان للأبياري.
(2)
في (غ): وأما.
(3)
في (ت): ينفك.
ذلك بالكتابة الفاسدة، لكونها مستثناة شاذة عن القاعدة كتحمل العاقلة وَرَأَى ذو البصائر ألا يحكموا بالشّاذ على الكليِّ، ولكن يتركون
(1)
الشّاذ على شذوذه يعتقدونه كالخارج عن المنهاج
(2)
.
ولقائل: أنْ يقول: إذا كانت الكتابة مستثناة والمستثنى عندك تعبديّ خارج عن القياس فلم قست الفاسد منها على الصحيح؟ ولا محيص عن هذا إلا أنْ يحصل
(3)
نص أو ينعقد إجماع على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة، فتصير مستثناة بذلك وإلا فللحنفي أنْ يقول: وقع الاتفاق على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة، فكذلك فاسد البيع يلحق بصحيحه.
فإن قلت: هذا مستثنى.
قلت: أين دليله الذي خرج به
(4)
؟ ثمّ نحرر عبارةً فنقول: ما اتسعت طرقه كان الفاسد أحد طرقه. الدليل عليه العتق، وبيان هذا في الفرع أنّ الملك يحصل بأسباب: البيع والهبة والإرث والاغتنام والاحتطاب والاحتشاش والالتقاط والمعدن، وفي الأصل العتق يحصل بأسباب مباشرة وتسببًا وفي الثمن وبالاستيلاد والتدبير والكتابة فلما استويا في اتساع الطرق جاز أنْ يكون الفاسد أحد الطرق وتأثير
(1)
في (غ): يتولون.
(2)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 993 مع شيء من التصرف في العبارة.
(3)
في (ت): حصل.
(4)
(به) ليس في (ت).
هذا الكلام أنّ الطرق إذا اتسعت في تحصيله فقد دخله نوع من المسامحة والمساهلة فجاز أنْ يكون الفاسد من طرقه.
ولا يقال: الكتابة حصل العتق فيها بالتعليق دون المعاوضة؛ لأنّا نقول: لو كان كذلك وجب اشتراط التّنصيص على التعليق ولا يجب التّنصيص عليه. وتقول: فإن أدّيت إليّ فأنت حرّ. وأيضًا فإنّه مستحق فسخ هذه الكتابة ولو كان التعليق هو الذي يحصل به العتق لما قبل الفسخ كسائر التعاليق. وأيضًا فإكسابه وأولاده تتبعه في العتق ولو عتق بالتعليق لم يكن ذلك. وأيضًا فلو كاتبه على خمر وأداه وجب عليه قيمة نفسه ولو عتق بالتعليق لما وجب عليه قيمة نفسه فما هذا الرجوع بالقيمة إلا حكم المعاوضة.
وقد تناهينا في الاحتجاج للخصم ولسنا ممن يغادر هذه الكلمات سالمة عن الإبطال وإن طال بها الفصل وخرج عن المقصود من الشرح.
فنقول: قد أجاب أصحابنا عن قياسهم البيع الفاسد على الكتابة الفاسدة بطرق
(1)
ونحن نزيف منها ما لا نرتضيه حتّى لا نتجاوز حدّ الإنصاف.
أحدها: قولهم البدل في الكتابة غير مقصود لتمكن السيد من أخذ اكتساب العبد دون الكتابة ولما كان كذلك لم ينظر إلى فساده وصحته وهذا غير مرضي فإن العبد قد لا يكون كسوبًا ويكاتبه السيد طمعًا فيما لعله يصل إليه من سهم الرقاب.
(1)
في (غ): بطريق.
وأيضًا كان ينبغي ألا يفسد العقد كما إذا تزوجها على صداق فاسد فإنّه لما كان البدل غير مقصود في النكاح لم يؤثر في فساده فتأثيره في الكتابة يدل على أنَّه مقصود.
وثانيها: قولهم العتق في الكتابة مضاف إلى التعليق، فإنّ الكتابة الصحيحة اشتملت على تعليق ومعاوضة، ولا بد فيها من ذكر التعليق فنقول: كاتبتك على ألف فإن أدّيت فأنت حرّ وفي الفاسدة لا بد من التّعليق، والتّعليق لا فساد فيه، وعلى هذا تمنع المسائل كلّها التي لزمت من أحكام المعاوضات كقبول الفسخ ولزوم القيمة له واستتباع الإكساب والأولاد.
وهذا الجواب أمثل من الأوّل إلّا أنّ لقائل أنْ يقول: العتق مضاف إلى المعاوضة لا إلى التعليق.
قولكم: يشترط أنْ ينص على التعليق.
قلنا: لا نسلم بل لو
(1)
نواه بقوله: كاتبتك على كذا صحت الكتابة أيضًا. وهذا واضح وأبلغ منه قول مخرّج من التدبير أنّ لفظ الكتابة صريح مغن عن التصريح بالتعليق ونيته. ونظيره قول أبي إسحاق إن كان الرجل فقيهًا صحت الكتابة وإلا فلا بد من التعليق أو نيته
(2)
، ثمّ كيف يشترط التنصيص على التعليق والعتق عند الأداء يحصل لا محالة بعقد المعاوضة وتسليم العوض يقتضي تسليم ما يقابله فلا يحتاج أن يشترطه
(3)
(1)
(لو) ليس في (غ)، (ت).
(2)
ينظر قول أبي إسحاق في: العزيز شرح الوجيز للرافعي: 13/ 444.
(3)
في (غ): يشترط.
في العقد ويصير بمثابة البيع لما
(1)
اقتضى بنفسه الملك لم يحتج إلى أنْ يقول بعتك على أنْ تتسلم أو تتملك
(2)
.
وأما المسائل فلا منع فيها وإنما منع أصحابنا استتباع الكسب والولد فحسب وأمّا الفسخ فغير ممتنع وقيمة نفسه واجبة وذلك من أحكام العوض دون التعليق.
وثالثها: قول بعضهم الكتابة في الأصل خارجة عن القياس فألحقنا فاسدها بصحيحها؛ لأنَّ ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه بخلاف البيع وهذا عندنا كلام
(3)
رديء فإنّ إلحاق فاسدها بصحيحها عين القياس ثمّ إنّها وإن عدل بها عن القياس إلا أنَّه بعد ورود الشرع بها وصفت بالصّحة فينبغي وصف فاسدها بالفساد، وإذا ثبت فسادها والفساد عند الشافعي مرادف للباطل وجب إلغاؤها وأن لا يكون لها حكم.
ألا ترى أنّ السلم والإجارة ثبتا على خلاف القياس لورودهما على معدوم ثمّ لما ثبت الصحيح منهما ونُعِتَ بالصّحة يؤدي على الفاسد بالفساد حتّى لا يثبت لفاسد كلّ منهما ما لصحيحه.
والحق عندنا في الجواب رأي رابع فنقول: الكتابة عقد إرفاق لا يقصد بها غير العتق وأن يخلص العبد من الرّق فألفينا معنى الفساد ولم ننظر
(1)
(لما) ليس في (ت).
(2)
في (غ)، (ت): تملك.
(3)
في (غ): حلم.
إليه وعمدنا إلى العتق الذي هو المقصود، ورأينا الشارع متشوفًا إلى تحصيله ما أمكن ولهذا يكمل مبعضه ويجعل بعض الملك كجميعه وبعض اللفظ كجميعه ويعتق القريب على قريبه وننزله في أبواب الكفارات في أوّل الدرجات ونضرب صفحًا عن إيجاب الصوم على ذي الميسرة العظمى وإن كان الصوم أشقّ عليه وما ذلك إلا تشوف إلى تحصيل العتق كيف قدر الأمر ولهذا إذا أدّى الأمر إلى العتق وعَتَقَ بعد هذا لا ينقض ولا يرفض وفي البيع الفاسد إذا تأدّى الأمر إلى الملك بالقبض يجب نقضه عندهم ورفضه واسترجاعه كل ذلك تغليبًا لتحصيل العتق.
فإن قلت: فما دعاك إلى أن تُتْبِعه ولده؟ .
قلت: في ثبوت الكتابة لولد المكاتبة من زنى أو نكاح أجنبي قولان فإن قلنا لا يثبت اندفع السؤال وإن قلنا بالصحيح وهو أنَّه يثبت فنقول: نحن إذا ألغينا معنى المعاوضة الفاسدة ولم ننظر إليها طلبًا لتحصيل العتق صححنا ما هو تابع طلبًا لتكثير العتق
(1)
ولهذا كان هذا
(2)
القول الصحيح هو الأحبُّ إلى الشافعي رضي الله عنه وإنما أحبه
(3)
للزومه تكثير العتق وقطع به أبو إسحاق رحمه الله وقال إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطًا
(4)
.
(1)
(العتق) ليس في (ت).
(2)
(هذا) ليس في (ت).
(3)
في (ت): وجب.
(4)
قال النووي في روضة الطالبين: 12/ 186 "ولد المكاتبة فإذا كاتب أمة لها ولد فالولد باق على ملك السيد فإن شرط دخوله في عقد الكتابة فسدت فإن أدت عتق الولد =
فرعان:
أحدهما: في وجوب الاحتراز عن النقض مذاهب ثالثها يجب في المستثنى دون غيره.
الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ مسألة النقض من القطعيات، قال القاضي: وليس الأمر كذلك عندي بل هي من المجتهدات وكلّ مأمور بما
(1)
غلب على ظنّه
(2)
.
قال: (وجوابه منع العلّة لعدم قيد)
هذه الجملة معقودة لبيان دفع النّقض وجوابه.
قال صاحب الكتاب: وهو يتأتى بأحد أمور ثلاثة:
= أيضا بموجب التعليق، وإن كان في يدها مال وشرط أن يكون المال لها فهو جمع بين البيع والكتابة بعوض واحد، وإن كانت حاملا وتيقنا الحمل بانفصاله لدون ستة أشهر فإن قلنا الحمل لا يعرف فهو كالولد الحادث بعد الكتابة وسنذكره إن شاء الله تعالى قريبا، فإن قلنا يعرف فوجهان: أصحهما أن عقد الكتابة متوجهة إليهما فإذا عتقت عتق، والثاني لا يثبت للولد كتابة وإن حدث الولد بعد الكتابة فإن كان من السيد فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، وإن كان من أجنبي بزنا أو نكاح فهل ثبتت له الكتابة قولان: أظهرهما وأحبهما إلى الشافعي وهو نصه في المختصر تثبت فيعتق بعتق الأم بالأداء أو الإبراء أو الإعتاق، وقطع أبو إسحاق بهذا القول وقال إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطا واتفق الأصحاب على أنه لا يدخل في الكتابة ولا يطالبه بشيء من النجوم لأنه لم يوجد منه التزام".
(1)
في (غ): بها.
(2)
ينظر: التلخيص: 3/ 274.
- الأول: منع وجود العلّة في محل النقض وفيه بحثان:
أحدهما: أنّ ذلك لا يكون معاندةً وضدًّا
(1)
بالمكابرة بل يكون بناءً على وجود قيد مناسب أو مؤثر في العلّة، وهو غير حاصلٍ في صفة النقض ولم يتعرض المصنف للكلام في تقسيم القيد.
فنقول: لا يخلو ذلك القيد إمّا أنْ يكون جليًا أو خفيًا.
الأول الجلي وله أمثلة:
- منها: أن نقول في نصرة القول الصحيح: هذا الحُلِيُّ مالٌ معدّ لاستعمال مباح فلا تجب فيه زكاة
(2)
كثياب البذلة
(3)
وعبيد الخدمة
(4)
فإنْ نُقض بالمعدّ لاستعمال مُحَرَّمٍ أو مكروه فدفعه واضحٌ؛ لأنَّه غيرُ معدٍّ لاستعمال مباح.
- ومنها قولنا: طهارة عن حدث فيشترط فيها النّية كالتّيمم، فإن نقض بالطهارة عن النجاسة قلنا: ليس الحدث النجاسة.
- ومنها قولنا: من لم ينو في رمضان ليلًا تعرَّى أوّل صومه عن النّية فلا يصحّ فإنْ نقض بالتطوع قلنا: العلّة عَرْي أوَّل الصوم الواجب لا مطلق الصوم.
(1)
في (ت): معاندًا، وضدًا.
(2)
في (ت): الزكاة.
(3)
البِذْلَة: كسدرة: ما يمتهن من الثياب في الخدمة. وبذل الثّوب وابتذله: لبسه في أوقات الخدمة والامتهان. ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف ص 121.
(4)
تمييزا لغيره من العبيد الذين لا يشترون لغرض الخدمة.
- ومنها قولنا في المتولد من
(1)
الظباء والغنم: حيوان متولد بين ما لا يجب فيه الزكاة بحال وما يجب فيه، فلا يجب. كما إذا كانت الأمهات ظباءً، فإن نقض بالمتولدة بين السائمة والمعلوفة قلنا: المعلوفة تجب فيها الزكاة في بعض الأحوال.
- ومنها أنْ نقول في نصرة المذهب الصحيح: النّباش آخذٌ لنصاب تامٍّ خفيةً من حرزِ مثلِه عدوانًا فيكون سارقًا يجب قطعه فإن نقض بما إذا سرق الكفن من قبر في مفازة
(2)
(3)
حيث لا يجب القطع على أصحّ الوجهين
(4)
. قلنا: ليس ذلك في حرز مثلِه.
والثاني الخفي: فإمّا أنْ يكون معناه: واحدًا أو متعددًا إمّا بطريق المتواطئ أو المشكك أو الاشتراك فهذه أقسام أربعة:
أولها: أنْ يكون معناه واحدًا:
وذكر من أمثلته قولنا: السلم
(5)
عقد معاوضة فلا يشترط فيه الأجل
(1)
في (ص): المستولد بين.
(2)
في (ص): مغارة.
(3)
المفازة: الموضع المهلك مأخوذة من فوَّزَ بالتشديد إذا مات لأنها نظنة الموت وقيل من فاز إذا نجا وسلم وسميت به تفاؤلا بالسَّلامة. ينظر: المصباح المنير: ص 483 "فاز".
(4)
قال النووي في روضة الطالبين 7/ 343: "ولو كان القبر في مفازة وبقعة ضائعة فوجهان، أحدهما: ليس بحرز، وبه قطع صاحب التهذيب والغزالي وعزاه إلى جماهير الأصحاب؛ لأن السارق يأخذ من غير خطر، والثاني: واختاره القفال والقاضي ورجحه العبادي: القبر حرز للكفن حيث كان؛ لأن النفوس تهاب الموتى". وينظر أيضًا: الحاوي للماوردي: 17/ 189.
(5)
السلم: في اللغة التقديم والتسليم وفي الشرع اسم لعقد يوجب الملك للبائع في =
كالبيع
(1)
فإن نقض بالكتابة قلنا: ليست عقد معاوضة
(2)
إذ هي بيع مال الإنسان بمال نفسه وذلك لا يجوز بل هي عقد إرفاق
(3)
ولذلك لا يحيل مقصودها لفساد العوض.
وفي هذا المثال نظر، والحقّ أنّ الكتابة معاوضة ضمنت تعليق عتق وقيل: تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة معدولة عن القياس بل الجواب عن هذا النقض أنْ نقول الكتابة وردت مستثناة فلا ترد نقضًا لما تقدم.
- ومنها قولنا في قصر الصلاة: رخصة شرعت للتخفيف فلا يتحتم الأخذ بها كالإفطار في الصّوم فإن نقض بأكل الميتة حال
= الثمن عاجلا وللمشتري في المثمن آجلا فالمبيع يسمى مسلما فيه والثمن يسمى رأس المال والبائع يسمى مسلما إليه والمشتري يسمى رب السلم. ينظر: التعريفات: ص 159 - 160. وأنيس الفقهاء: 2/ 218 - 219.
(1)
قال الماوردي في الحاوي الكبير: 7/ 12 "والدلالة على جوازه حالًا: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [سورة البقرة من الآية 275]؛ ولأنه عقد معاوضة محضة فجاز أن يصح مؤجلا ومعجلًا كالبيع. . .".
(2)
قال الماوردي - شارحا لقول المزني نقلا عن الشافعي قوله: وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة جاز في الكتابة -: "لأن الكتابة عقد معاوضة، فلم تصح إلا بعوض معلوم، وأجل معلوم، كالبيع والإجارة". 22/ 166.
(3)
عقد الإرفاق: الإرفاق لغة: نفع الغير وهو مصدر أرفق ومعنى رفق وأرفق واحد والرفق ضد العنف.
واصطلاحًا: إعطاء منافع العقار والإرفاق أحد نوعي الإقطاع؛ لأنه تمليك أو إقطاع إرفاق، ويذكر الفقهاء الإرفاق في العارية والهبة والصدقة. ينظر: الموسوعة الفقهية: 3/ 135 - 136.
الاضطرار حيث يجب على أصح الوجهين
(1)
. قلنا: لا نسلم أنّه حينئذ شرع للتخفيف بل للضرورة وقيام البينة.
وثانيها: أنْ يتعدد معناه بطريق التواطؤ.
ومن أمثلته قولنا: الصوم عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن نقض بالحج لأنه يتكرر على الأشخاص.
قلنا: المراد من التكرار التكرار بحسب الأزمان والأشخاص أو بحسب الأزمان وما ذكرتم من النقض ليس كذلك بل هو متكرر بحسب الأشخاص فقط.
- ومنها قولنا: يحج عن الميت المستطيع وإن لم يوص؛ لأنّه حق لازم عليه، فيقضى عنه سواءً أوصى به
(2)
أم لم يوص كالدّين فإن نقض بالصلاة والصوم.
قلنا: بعد تسليم الحكم وعدم الفرق الإجمالي الحقّ اللازم مقول على الحقّ المالي وعلى غيره بالتواطؤ والأوّل هو المقصود هنا دون الثاني الذي
(3)
هو المراد من النّقض.
وثالثها: أن يتعدد معناه بطريق التشكيك
(4)
كقولنا: في المتولد بين
(1)
قال الرافعي في فتح العزيز: 12/ 158 "يباح للمضطر، إذا لم يجد الحلال أكل المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما في معناهما. . . وهل يجب عليه الأكل؟ وفيه وجهان. أصحهما: نعم".
(2)
(به) ليس في (غ)، (ت).
(3)
في (غ): والذي.
(4)
في (غ): التشكك.
الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه وما فيه زكاة فلا تجب فيه
(1)
الزكاة قياسًا على ما إذا كانت الأمهات ظباءً فإنّ الخصم وافق في هذه الحالة فإنْ نقض بالمتولد بين السائمة والمعلوفة من البقر أو الغنم.
قلنا: ما لا يجب فيه الزكاة مقول بالتشكيك على ما يجب فيه مجال كالظباء وعلى ما يجب فيه من حيث الجملة كالمعلوفة، فإنّه يجب فيها الزكاة إذا صارت سائمة وكذا إذا علفت قدرًا تعيش الماشية بدونه كاليومين مثلا، فإنّها معلوفة ولا زكاة فيها والحالة هذه على أصح الأوجه
(2)
وكذا إذا لم يقصد العلف على أحد الوجهين
(3)
وقد تقدم ذكر هذه المسألة مثالًا للقيد الجلي ولكن على غير هذا الوجه فإنّها ثَمَّ مقيّدة بقولنا لا يجب فيها
(4)
الزكاة بحال.
وقد قال بعض الأصوليين: إنّ النّقض يندفع أيضًا بتفسير اللفظ وذكر هذا المثال وقال إذا صارت من سائمة وجبت زكاتها ويكون اللفظ
(5)
غير متناول لها عرفًا أو شرعًا
(6)
.
(1)
في (ص): فيها.
(2)
ينظر: فتح العزيز: 2/ 535.
(3)
ينظر: المصدر نفسه: 2/ 536.
(4)
في (غ)، (ت): فيه.
(5)
(وذكر هذا المثال وقال إذا صارت من سائمة وجبت زكاتها ويكون اللفظ) ساقط من (غ)، (ت).
(6)
ينظر: الملخص في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي يقول: "وأما دفع النقض. . . فقد =
وذكر إمام الحرمين في التلخيص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هذا المثال ثم قال: وهذا الضرب مقبول ولا تظنّنّ أنّ النّقض يندفع بالتفسير؛ ولكنّه يندفع بقضية اللفظ لاقتضاء عموم اللفظ النفي، والتفسير إيضاح له، وكلّ تفسير لا ينبني عليه قضية اللفظ في إطلاقه فلا معوّل عليه في دفع النّقض مثل أنْ يقول القائل: مطعوم فلا يباع بعضه ببعض متفاضلًا فإذا نقض عليه اعتلاله بالبر مع الشعير فلا يجديه في دفع النّقض أنْ يقول اسم المطعوم ينطلق على ما يتّحد جنسه وعلى ما يختلف جنسه فإذا خصّصه وفسره بجهة من جهات احتماله وهي ما إذا اتحد الجنس فلا يقبل ذلك منه إذ ظاهر لفظه لا ينبني عن هذا التفسير
(1)
. وأطال القاضي في هذا الفصل وما ذكره حق متقبل.
وحاصله أنّ التفسير إذا كان لا ينبئ
(2)
عنه اللفظ لم يقبل وإلا قبل ويكون حينئذ راجعًا إلى هذه الأقسام التي نحن في ذكرها.
ورابعها: أنْ يتعدد بطريق الاشتراك كقولنا: جمع الطلاق في القرء الواحد فلا يكون مبتدعًا كما لو طلقها ثلاثًا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن نقض بما لو طلقها ثلاثًا في الحيض فإنّه جمع الطلاق في الطهر
= يكون ذلك لفظا ظاهرًا وقد يكون تفسيرًا للفظ. . . فأما التفسير فهو مثل أن يذكر هذه العلة ولا يقول فيها (بحال) فإذا نقض بالمتولدة بين السائمة والمعلوفة قال قول: (لا زكاة في أحدهما) أريد به (بحال) وذلك قد تجب فيه الزكاة". 2/ 686 - 687.
(1)
ينظر: التلخيص لإمام الحرمين: 3/ 280.
(2)
في (ص): ينبني، وفي (غ): لا يبنى.
الواحد مع أنّ الطلاق بدعي
(1)
وفاقًا.
قلنا: المراد من القرء هنا الطهر.
قال: (وليس للمعترض الدليل على وجوده؛ لأنَّه نقل ولو قال ما دللت على وجوده هنا دلّ عليه ثمة فهو نقل إلى نقض الدليل).
البحث الثاني: في أنّ المستدل إذا منع حصول وجود العلّة في صورة النقض فهل للمعترض إقامة الدلالة عليه؟ فيه مذاهب:
أحدها: وبه قال الأكثرون، وجزم به الإمام
(2)
والمصنف أنَّه
(3)
لا يُمَكَّن من ذلك؛ لأنّه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى؛ لأن وجود العلّة في صورة النّقض مسألة تغاير المسألة التي أقام المستدل عليها الدليل، وأيضًا فإنّ فيه قلب القاعدة، فإنّ المعترض يصير مستدلًا والمستدل معترضًا.
والثاني: أنَّه يمكّن من ذلك
(4)
؛ لأنَّ فيه تحقيق النّقض فكان من متمماته.
والثالث: قاله الآمدي إنّه إنْ تعين ذلك طريقًا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله
(5)
منه تخفيفًا لفائدة المناظرة، وإن أمكنه القدح بطريق
(1)
في (غ): يدعي.
(2)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 343 - 344.
(3)
في (غ): لأنه. وهو خطأ.
(4)
في (غ)، (ت): يمكن منه.
(5)
في (غ): قوله.
آخر هو أفضى إلى المقصود، فلا
(1)
.
وهذا التفصيل عندي داخل في مجاري التحقيق.
والرابع: يمكّن المعترض ما لم يكن حكمًا شرعيًا كذا حكاه ابن الحاجب، وقال قطب الدّين الشيرازي: ما وجدته في شيء من الكتب ولعل تقريره أنْ يقال يمكّن المعترض في الحكم العقلي؛ لأنَّه يقدح فيه فيحصل فائدة، ولا يمكّن في الحكم الشرعي إذ
(2)
التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ولا ينفعه؛ لأنَّه بعد بيان المعترض وجود العلّة في صورة النقض يقول المستدل: يجوز أنْ يكون تخلف الحكم
(3)
لوجود مانع أو فوات شرط فيجب الحمل عليه جمعًا بين الدليلين دليل العلّة ودليل التخلف، فلا تبطل العلّة بخلاف الحكم العقلي فإنّه لا يتمشَّى ذلك فيه.
قال قطب الدّين: ويحتمل أنْ يكون المراد ما لم يكن الوصف المدعى علّة حكمًا شرعيًا فإنّه إن مُكِّن
(4)
من إثباته لزم قلبُ القاعدة لصيرورة المعترض مستدلًا لإثباته الحكم الشرعي بخلاف ما لو لم يكن الوصف حكمًا شرعيًا فإنّه لا يلزم ذلك قال وهذا الاحتمال أظهر
(5)
.
(1)
ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 119.
(2)
في (غ)، (ت): لأنّ.
(3)
في (غ): عن الحكم.
(4)
في (ت): يكن.
(5)
لم أتمكن من العثور على شرح الشيرازي على ابن الحاجب حتى أوثق منه.
قلت: وقد حكى صفي الدّين الهندي هذا المذهب وفرّق بين الحكم الشرعي وغيره بأنّ الحكم الشرعي ينتشر الكلام فيه جدًّا بخلاف غيره، فإنّ الأمر فيه
(1)
قريب
(2)
.
قوله: فلو قال: أي: فلو
(3)
قال المعترض: ما ذكرت من الدلالة
(4)
على وجود العلّة في الفرع فهو بعينه دالّ على وجود العلّة في محل النّقض فهو نقل أي انتقال من نقض
(5)
العلّة إلى نقض الدليل
(6)
أي دليل وجود العلّة في الفرع ولم يتعرض المصنف بعد قوله إنّ هذا نقل إلى أنَّه هل يكون مسموعًا
(7)
أو لا؟
ولك أن تقول: قوله: "أنَّه نقل" إشارة إلى أنَّه لا يكون مسموعًا؛ لأنّه قدّم أولًا أنَّه ليس للمعترض الدليل على وجوده لكونه نقلًا فأومأ بذلك إلى أن النَّقل لا يجوز، ويحتمل أنْ يريد أنّ مثل هذا النّقل يسمع.
وعلى هذا مشى الشيرازي شارح الكتاب وكلام الإمام
(8)
أيضا محتمل للأمرين وظاهره الإشارة إلى أنَّه لا يكون مسموعًا فإنّه قال لا يمكن
(1)
في (غ): فإن فيه الأمر.
(2)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3429 - 3430.
(3)
في (ت): لو قال.
(4)
في (ت): الأدلة.
(5)
في (ت): نقيض في الموضعين.
(6)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3429.
(7)
في (غ)، (ت): ممنوعًا.
(8)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 343 - 344.
المعترض من إقامة الدليل على وجود العلّة في صورة النّقض لكونه انتقالًا إلى مسألة أخرى بلى
(1)
لو قال: المعترض ما دللت به إلى آخره قال فيكون انتقالا من السؤال الذي ابتدأ به إلى غيره.
هذا كلامه وكأنَّه لما قال في تلك الصورة إنّها انتقال من مسألة إلى أخرى، أراد التنبيه على أنّ ما يقوله المعترض في هذا الفرع انتقال من السؤال الأوّل
(2)
إلى غيره لا من مسألة إلى أخرى فأتى بلفظة (بلى) لذلك ولم يرد أنّ هذا انتقال مسموع.
وعلى هذا مشى الشيخ صفي الدّين الهندي وقال: يعد منقطعًا
(3)
، وبه جزم الآمدي أعني بأنَّه لا يكون مسموعًا
(4)
.
نعم لو قال ذلك ابتداء أو قال يلزمك إمّا نقض العلّة أو نقض الدّليل الدّال على وجودها في الفرع كان مسموعًا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه.
قال: (أو دعوى الحكم مثل أن يقول: السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع فينتقض بالإجارة.
قلنا: هناك لاستقرار المعقود عليه
(5)
لا لصحة العقد ولو تقديرًا
(1)
في (غ): بل.
(2)
(على أنّ ما يقوله المعترض في هذا الفرع انتقال من السؤال الأوَّل) ساقط من (ت).
(3)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3429.
(4)
ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 119.
(5)
(عليه) ليس في (ص)، (غ).
كقولنا رقّ الأمّ علّة رق الولد وثبت في ولد المغرور تقديرًا وإلا لم تجب قيمته).
الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتأتى بها دفع النّقض: أن يمنع المعلل عدم الحكم في صورة النّقض ويدعي ثبوته
(1)
فيها وذلك قد يكون ظاهرًا؛ بأن يكون الحكم ثابتًا فيها جزمًا على رأي المستدل إنْ كان مجتهدًا، أو رأي إمامه إن كان مقلدًا ناصرًا لمذهبه، أو على أحد قوليه غير المرجوع عنه أو غير ذلك، ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لكونه كما قال الإمام معلومًا
(2)
، وقد يكون خفيًا وفيه كلام المصنف وذلك قد يكون تحقيقيًا
(3)
وقد يكون تقديرًا.
الأول التحقيقي: مثل السلم: عقد
(4)
معاوضة، فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع فإنْ نقض بالإجارة. قلنا: الأجل ليس شرطًا لصحة عقد الإجارة وإنما جاء فيها لتقرير المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين
(5)
.
ومن أمثلته أيضًا: الإجارة عقد معاوضة فلا تنفسخ بالموت كالبيع فإن نقض بالنّكاح قلنا: بعد تسليم كونه عقد معاوضة هناك لا ينفسخ بالموت
(1)
في ص: "ثبوتها".
(2)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 346.
(3)
(قد يكون تحقيقًا) ليس في (ت).
(4)
في (غ): عند.
(5)
في (ت): بالمعين.
لكن انتهى.
ومنها: الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إجبارها كالبالغ فإن نقض بالثيب المجنونة بحيث يجوز تزويجها على الوجه الصحيح
(1)
، قلنا: لا نسلم صحة إجبارها كما لو كانت عاقلة وهو وجه في المذهب
(2)
.
ومنها: أنْ يقول في تحالف المتبايعين بعد هلاك السلعة أنَّه فسخ بيع يصح مع ردّ العين فصحّ مع ردّ القيمة، كما لو اشترى ثوبًا بعبد وتقابضا
(3)
ثمّ هلك العبد ثم علم مشتري الثوب بالثوب عيبًا فيقول الحنفي: هذا ينتقض بالإقالة
(4)
فإنّها فسخ بيع يصح مع ردّ العين ولا يصحّ مع رد القيمة فنقول: لا نسلم ذلك فإن الإقالة عندنا تصحّ بعد هلاك السلعة ويرجع فيها بالقيمة.
والثاني التقديري: وإليه أشار بقوله: ولو تقديرًا وهو دافع للنقض على الرأي الأظهر لأنَّ المقدر كالمحقق.
مثاله قولنا: رقّ الأمّ علّة رقِّ
(5)
الولد، فيكون هذا الولد رقيقًا، فإنْ
(1)
ينظر: العزيز شرح الوجيز: 8/ 12 - 13.
(2)
ينظر: العزيز شرح الوجيز: 8/ 12 - 13.
(3)
في (غ): تقياضا.
(4)
الإقالة: في اللغة رفع وإسقاط، وفي الشرع: رفع العقد بعد وقوعه. ينظر: الصحاح: 5/ 1808، والمصباح المنير: ص 804 "قول"، وأنيس الفقهاء: ص 212، والتوقيف على مهمات التعاريف: ص 81.
(5)
في (غ): لرقّ.
نقض بولد المغرور بحرية الجارية حيث كان رقّ الأمّ موجودًا مع انعقاد الولد حرًّا.
قلنا: رقّ الولد موجود تقديرًا أو مقدر وجوده إذ لو لم يقدر رقّه لم نوجب قيمته
(1)
؛ إذ لا قيمة في الحرّ، ولذلك حكي وجه
(2)
: أنَّه ينعقد رقيقًا ثمّ يعتق على المغرور، حكاه الرافعي في كتاب العتق وجزم في النكاح بخلافه
(3)
.
واعلم أنّ الأوّل أعني التحقيقي دافع للنّقض إذا كان الحكم متفقًا عليه بين المستدل وخصمه، وكذا إن كان مذهبًا للمستدل فقط؛ لأنّه إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد، فلأنْ لا يجب على غيره كان أولى، وإنْ كان مذهبًا لخصمه فقط كما يقول هذا الوصف مما لا يطرد على أصل فإنّه ثابت في الصورة الفلانية والحكم غير ثابتٍ فيها عندي، ولسْتُ بالمنقاد إليه لم يتوجه النّقض
(4)
؛ لأنَّ خلاف الخصم في تلك المسألة كخلافه في المسألة المتنازع فيها وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معًا وأما تمكين المعترض في إقامة الدلالة على عدم الحكم ففيه الخلاف السابق في منع وجود العلّة في صورة النقض.
(1)
(إذ لو لم يقدر رقّه لم نوجب قيمته) ساقط من (ت).
(2)
(إذ لا قيمة في الحر ولذلك حكي وجه) ما بين قوسين ورد بعد قوله يعتق على المغرور.
(3)
ينظر: العزيز شرح الوجيز: 13/ 557 - 558.
(4)
(النقض) ليس في (ت).
ومن فروع هذا القسم أعني منع عدم الحكم ما إذا ذكر المعترض صورة فقال المستدل المنتصر لمذهب إمامه لا أعرف في هذه نصًا، فلا يلزمني النقض فهل يندفع النقض بذلك؟ ذكر الشيخ أبو إسحاق هذا في كتابه الملخص في الجدل
(1)
.
ومثّل له بأن يستدل الحنفي في
(2)
القارن إذا قتل صيدًا أنَّه يلزمه جزاءان؛ لأنَّه أدخل النّقض على إحرام الحج والعمرة فلزمه جزاءان كما لو أحرم بالحج فقتل صيدًا ثمّ أحرم بالعمرة فقتل صيدًا
(3)
.
فيقال له: هذا ينتقض به إذا أحرم المتمتع بالعمرة فجرح
(4)
صيدًا ثمّ أحرم بالحج فجرحه ثمّ مات، فإنّه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة ثمّ لا يلزمه جزاءان. فيقول المخالف: لا أعرف نصًّا في هذه المسألة، ثمّ قال: رأيت القاضيَ أبا الطيب يقول: في مثلِ هذا إذا جوّزت أنْ يكون مذهبك على ما ألزمته، وجب أنْ لا يحتج بهذا القياس. قال: وعندي أنَّه لا يلزمه النّقض؛ لأنّه وإنْ احتمل ما قال، إلّا أنّ القياس يقتضي أنَّه
(5)
يلزمه كفَّارَتَان فيعمل به ما لم
(1)
ينظر: الملخص في الجدل لأبي إسحاق للشيرازي: ص 615.
(2)
في (ت): على.
(3)
يلزم عند الحنفية على القارن والمتمتع - الذي ساق الهدي أو لم يسقه ولكن لم يحل من العمرة حتى أحرم بالحج - إذا قتل صيدًا جزاءان لجنايته على إحرام الحج وإحرام العمرة. ينظر: حاشية رد المختار لابن عابدين: 2/ 577، والهداية مع شرح فتح القدير: 3/ 35.
(4)
في (غ): فقتل.
(5)
في (غ): أن تلزمه.
يمنع مانع، كالعموم قبل ظهور المخصِّص
(1)
.
قلت: وحاصل هذا أنّ المعلل له أنْ يلتزم بصورة النقض عند الشيخ، وعند القاضي ليس له الالتزام بها مع احتمال أنْ لا يكون مذهب إمامه، وهذا أمر راجع إليه في نفسه، ولا خلاف بينهما في أنَّه لا يكتفي منه بأنْ يقول لا أعرف نصًّا في هذه المسألة. وهذا هو الحق وكيف يكون خلافه والمعترض ينادي يلزمك إما انتقاض علّتك أو دعوى ثبوت الحكم. أجب وإلا فلست أهلًا للمناظرة
(2)
قال: (أو إظهار المانع).
الأمر الثالث مما يجاب به عن النّقض: أنْ يُظْهر المعلل مانعًا من ثبوت الحكم في صورة النّقض فيندفع النّقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح ومنهم المصنف كما علمت.
مثاله: يجب القصاص في القتل بالمثقل قياسًا على المحدد
(3)
بجامع القتل العمد العدوان، فإن نقض بقتل الوالد ولده فإنّ الوصف فيه مع تخلف الحكم. قلنا: تخلف لمانع وهو أنّ الوالد
(4)
سبب لوجود الولد، فلا يحسن أنْ يكون الولد سببًا لعدمه، وإذا تخلف المانع فلا يقدح في العليّة.
(1)
ينظر: الملخص في الجدل: للشيرازي: 2/ 682، والجدل لابن عقيل: ص 135.
(2)
(أجب وإلا فلست أهلا للمناظرة) ساقط من (ص).
(3)
في (ت): المحدود.
(4)
(ولده بأن الوصف فيه مع تخلف الحكم. قلنا: تخلف لمانع وهو أنّ الوالد) ساقط من (غ).
ولم يذكر المصنف مما يدفع به النقض غير هذه الثلاثة، وكان ينبغي أنْ يذكر دفعه بورود
(1)
صورة النّقض مستثناة
(2)
فإنّه دافع أيضًا.
قال: (تنبيه دعوى ثبوت الحكم أو نفيُه عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس).
هذه الكلمة منبهة على ما يتجه من النقوض ويستحق الجواب وما ليس كذلك.
اعلم أنّ المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معًا أو أحدهما. فإنْ كان الأوّلَ - ولم يتعرض له المصنف - وجب أنْ يكون الحكم مطردًا ومنعكسًا مع علته كالحدّ مع المحدود فمتى ثبت عند عدمه أو عدم عند وجوده توجه عليه النقض.
وإن كان الثاني فالمدعى إمّا ثبوت الحكم أو نفيه وكل منهما إمّا
(3)
أنْ يكون في بعض الصور أو جميعها وإذا كان في بعض الصور فإمّا أنْ يكون في صورة معينة أو مبهمة فهذه أربعة
(4)
أقسام داخلة في كل من
(1)
في (ص): يورد.
(2)
وهو كما قال الآمدي: "أن يبين أنّ تخلّف الحكم عن العلّة في معرض الاستثناء، والمستثنى لا يقاس عليه ولا يناقض به، كما في صورة العرايا المذكورة." الإحكام: 4/ 121.
(3)
(إما) ليس في (غ).
(4)
في (ص): ثلاثة.
القسمين أعني ثبوت الحكم أو نفيه في صورة وثبوته أو نفيه مطلقًا.
الأوّل: دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة فينقضه النفي عن جميع الصور؛ لأن السالبة الكلية تناقض الموجبة الجزئية
(1)
ولا
(1)
اعلم أنّ القضية في فن المنطق هي عبارة عن جملة خبرية. فالقضية مشتقة من القضاء وهو الحكم، وظاهر أن كلّ جملة خبرية لا بد أن تتضمن حكمًا موجبًا أو سالبًا.
فالكلية: هي القضية المسورة بسور كلي أي مقترنة بما يدلّ على أنّ الحكم فيها سيشمل جميع أفراد الكلّي.
والقضية الجزئية: هي القضية التي تكون مسورة بسور غير كلي، أي مقترنة بما يدل على الحكم يشمل بعض أفراد الكلّي فقط دون تعيين لأفراد هذا البعض، وربما يكون البعض هو الأكثر في عدد الأفراد من البعض الذي لا يشمله الحكم.
وكون القضية موجبة أو سالبة هو: إذا نظرنا إلى جانب الكيف في القضايا وجدنا أن النسب فيها إما أن تكون موجبة، وذلك إذا كانت هذه النسب خالية عن أدوات السلب (النفي) وإما أن تكون سالبة، وذلك إذا كانت هذه النسب منفية بتسليط أداة من أدوات السلب عليها.
مثال الكلية الموجبة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، "كل بني آدم خطاء".
مثال الكلية السالبة: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} ، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} ، {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} .
مثال الجزئية الموجبة: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} ، {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .
مثال الجزئية السالبة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} ، {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} ، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} .
ينظر التفاصيل في: إيضاح المبهم: ص 30، وضوابط المعرفة: ص 68 - 85.
ينقضه النفي عن صورة؛ لأنَّ الجزأين لا يتناقضان فالثبوت في صورة لا يناقضه النفي في صورة.
مثاله: قول الحنفي في جريان القصاص بين المسلم والذمي في حالة العمد محقونا الدم فجرى بينهما القصاص كالمسلمَيْن
(1)
، وينقضه الأب والابن فإنّهما لا يجري بينهما القصاص بحال، ولا ينقضه إذا بُيِّن عدم جريان القصاص بينهما حالة الخطأ
(2)
.
والثاني: دعوى ثبوته في صورة مبهمة وهو كالأوّل.
ومثاله: قولنا الصبي حرّ مسلم مالك للنصاب، فتجب الزكاة في ماله كالبالغ فإن نقض بالحلي وثياب البذلة لم يتجه
(3)
لما عرفت.
الثالث والرابع: دعوى نفي الحكم عن صورة معينة أو مبهمة وهو كما تقدم يناقضه الإثبات العام دون الإثبات في صورة لما عرفت.
ومثال المعيّن المنفي أنْ يقال: هذا النبيذ ليس بنجس قياسًا على خلّ الزبيب، فينتقض بأنّ كلّ نبيذ مسكر وكلّ مسكر نجس.
ومثال المبهم المنفي أنْ يقال: إذا اشتبه عليه نهر غيره بأنهار نفسه لا يحلّ له الشرب من نهر واحد لا بعينه كما لو اشتبه عليه ظرف ماء غيره
(1)
ينظر: المبسوط: 26/ 137.
(2)
في (غ): الخطاب.
(3)
في (ص): لم يجبه.
بظروف مائه بجامع الاشتباه فينقض بأنّه يحل الشرب من النهر الجاري وإن كان لغيره فإنّه لا يجوز المنع من الشرب
(1)
على أظهر الوجهين
(2)
وادّعى الشيرازي شارح الكتاب في هذا الإجماع، وليس بسديد
(3)
.
وإذا علمت هذه الأقسام الأربعة فهي المشار إليها بقوله: "دعوى ثبوت الحكم" إلى قوله: "العامين"، وتقدير الكلام دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالنفي العام ودعوى نفيه عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات العام ففيه لفّ ونشر
(4)
على جعل الأوّل للثاني والثاني للأول.
قوله: وبالعكس إشارة إلى القسم الآخر وهو أنْ يدعي ثبوت الحكم أو نفيه عامًا وقد قلنا: إنّه يدخل فيه أقسام أربعة
(5)
أيضًا:
الأول: نقض دعوى ثبوت الحكم عامًا
(6)
بالصورة المعينة.
(1)
(من النهر الجاري وإن كان لغيره فإنّه لا يجوز المنع من الشرب) ساقط من (غ).
(2)
ينظر في مظانه.
(3)
ينظر الشيرازي.
(4)
اللف والنشر: هو أن تلف شيئين، ثم تأتي بتفسيرهما جملة، ثقةً بأن السامع يَرُد إلى كلّ واحد منهما ما له. كقوله تعالى:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . ينظر: التعريفات: ص 193.
(5)
في (ص): ثلاثة.
(6)
(وقد قلنا إنه يدخل فيه أقسام. . . . . . . الأول: نقض دعوى ثبوت الحكم عامًا) ساقط من (ت).
مثاله قولنا: كل شريك فدعواه ردّ المال على شريكه مقبولة قياسًا على الوكيل إذا ادّعى الردّ على من وكّله وكذا المودع، والجامع أنّ كلًّا من الشريك والوكيل والمودع أمين، فينتقض هذا بالمرتهن حيث لا يقبل دعواه الردّ عند العراقيين وهو الأصحّ
(1)
، وكذلك ينتقض بالمستأجر.
ومن أمثلته أيضًا قولنا: يقتل كلّ رقيق بمثله، والمدبر بالمدبر وأمّ الولد بأمّ الولد، قياسًا على الحرّ بالحرّ بجامع الكفاءة
(2)
فينتقض بما إذا قتل المبعض مثله مع التساوي في قدري الرقّ والحرية حيث لا يجب القصاص على أحد الوجهين ولا ينتقض بما إذا قتل الأب الرقيق عبد ابنه؛ لأنَّ المستدل يقول: تخلف الحكم ثمّ المانع
(3)
وهو أنّ قصاص العبد لابن القاتل فلو ثبت لأدّى إلى ثبوت القصاص للولد على الوالد.
الثاني: نقض هذه الدعوى المذكورة بالصورة المبهمة ولا أستحضر له مثالًا.
الثالث: نقض دعوى نفي الحكم عامًا بالصورة المعينة.
كما إذا قال قائل: فيما إذا قطع مملوك طرف مملوك آخر. مملوكان فلا يجري بينهما القصاص كالصغيرين فينتقض بجريان القصاص بينهما في النفس.
(1)
ينظر: فتح العزيز: 4/ 510.
(2)
في (غ): الكفاءة.
(3)
في (ص): لمانع.
ومن أمثلته أيضًا أنْ يقال: بيع النحل في الكوارة
(1)
والحمامِ في البرج إذا لم يشاهد
(2)
غير صحيح، قياسًا على بيع الغائب بجامع عدم الرؤيا للمشتري، فينتقض بأنّ العبد الأعمى يصحّ أنْ يشتري نفسه من سيده مع أنّ المبيع غير مرئي للمشتري وبأنّه لو كان مرئيًا قبل العقد ولم يحتمل التغير صحّ بيعه وإن لم يشاهد في الحال ولئن قال المعلل لا يصحّ بيع
(3)
السمك في الماء والطير في الهواء قياسًا على بيع الغائب بجامع الغرر كان تعليلًا صحيحًا وليس للمعترض نقضه ببيع النحل وهو طائر حيث يصحّ على أصحّ الوجهين
(4)
، وبيع الحَمَام وهى طائرة اعتمادًا على عودها ليلًا على
(5)
أحد الوجهين
(6)
لأنَّ المعلل يمنع الغرر والحالة هذه.
الرابع: نقض هذه الدعوى بالصورة المبهمة ولا يحضرني مثاله. والله تعالى أعلم.
قال: (الثاني: عدم التأثير بأن ينفي الحكم بعده وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة بعلّة أخرى.
(1)
الكوارة: وهي ما عسّل فيه النحل، وهي الخلية أيضًا، وقيل الكوارة من الطين، والخلية من الخشب. ينظر: المطلع على أبواب المقنع: ص 228.
(2)
في (غ): لم يكن يشاهد.
(3)
(بيع) ليس في خ، ص.
(4)
ينظر فتح العزيز: 4/ 28.
(5)
(أصح الوجهين وبيع الحَمَام وهى طائرة اعتمادًا على عودها ليلًا) ساقط من خ، ص.
(6)
ينظر فتح العزيز: 4/ 36.
فالأول: كما لو قيل: مبيع لم ير، فلا يصحّ كالطير في الهواء.
والثاني: الصبح لا تقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب، ومنع التقديم ثابت فيما قصر).
عدم التأثير
(1)
وعدم العكس من واد واحد، فلذلك جمع بينهما والذي عليه الجدليون
(2)
أنّ عدم التأثير أعمّ من عدم العكس، فإنّهم قالوا: كما نقله إمام الحرمين وغيره عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها، وجعلوا الواقع في الوصف هو عدم الانعكاس وسيتضح إن شاء الله ذلك بالمثل. وقال إمام الحرمين: الذي نراه في أنّ القسمين ينشآن من الأصل
(3)
.
(1)
والكلام في هذه المسألة ورد في المصادر التالية: المعتمد للبصري: 2/ 452، 261، والتبصرة: للشيرازي: ص 466، واللمع له: ص 64، والتلخيص له أيضًا: 2/ 654 وما بعده، والكافية في الجدل للجويني: ص 68، 290، والبرهان: 2/ 1007، والمنهاج للباجي: ص 195، والجدل لابن عقيل: ص 54، والتمهيد لأبي الخطاب: 4/ 137، والمنخول للغزالي: ص 411، والمحصول للرازى: ج 2/ ق 2/ 355، والإحكام للآمدي: 4/ 151، ونهاية السول للإسنوي: 3/ 88، ومناهج العقول: للبدخشي: 3/ 86، وشرح العضد على ابن الحاجب: 2/ 265، وشرح تنقيح الفصول: للقرافي ص 401، والمسودة لآل تيمية: ص 420، والمختصر لابن اللحام: ص 158، وتيسير التحرير لأمير بادشاه: 4/ 133، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج: 3/ 261، وفواتح الرحموت: 2/ 338.
(2)
الجدليون: هم الممارسون لعلم الجدل، والجدل: هو دفع المرء خصمه عن إفساده بحجة أو شبهة أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقة.
ينظر: التعريفات: ص 106
(3)
ينظر: البرهان: 2/ 1007.
وإذا عرفت هذا فقد عرف المصنف تبعًا للإمام
(1)
عدم التأثير بأنْ ينفى الحكم بدون ما فرض علّة له. وعدم العكس بحصول الحكم في صورة بعلّة أخرى.
واعترض على هذا؛ بأنَّ قوله ينفي الحكم بدون ما فرض علّة له، إنْ أُريد به أنَّه كذلك في المحل الذي ادّعى أنَّه علّة فيه وهو ظاهر مراده فهو غير لازم؛ لأنَّ عدمَ التأثير قد يكون بأنْ يبين ثبوت الحكم في غير ذلك المحل بدون ما جعل علّة له، وإنْ أراد أنَّه كذلك في غير ذلك المحل فقط ففاسد؛ لأنّه إذا بين بقاءَ الحكم في ذلك المحل بعينه بدون ما جعل علّة له كان ذلك عدم التأثير بطريق أولى، وإنْ عنى به ما هو الأعمّ من هذين فباطل؛ لأن العكس أيضًا كذلك إذ ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة أخرى، بل لو حصل في تلك
(2)
الصورة بعينها بعلّة أخرى كان ذلك عكسًا أيضًا، وهو اعتراض منقدح إذا كان الإمام قد مشى على مراسم الجدليين.
وعلمك محيط بأنّ القوم ذوو اصطلاح
(3)
فليساعدوا عليه ما لم يخرج عن قانون معتبر وإن لم يف الإمام باصطلاحهم كان له أنْ يقول: المراد من عدم التأثير القسم الأول.
وقولكم: قد يكون بغير ذلك.
(1)
ينظر: المحصول للرازى: ج 2/ ق 2/ 355.
(2)
في (غ): ذلك.
(3)
في (غ): إصلاح.
قلنا: في مصطلحي لا يكون كذلك
(1)
بل له أنْ يقول المراد القسم الثالث.
قولكم: ليس من شرط العكس حصول الحكم في
(2)
صورة أخرى.
قلنا: بل هو من شرطه في مصطلحنا.
وإذا علمت هذا، فقد مثّل المصنف لعدم التأثير بقولنا: في الغائب مبيع غير مرئي فلا يصحّ كالطير في الهواء والسمك في الماء بجامع
(3)
عدم الرؤية، فينقدح للمعترض أنْ يقول عدم الرؤية لا تأثير له في الحكم؛ لبقاء الحكم المذكور بعد زواله فيما إذا صار البيع مرئيًا
(4)
ولكن غير مقدور على تسليمه، وهذا المثال واقع لعدم التأثير في أصل العلّة دون وصفها كما وضح.
ومثّل لعدم العكس باستدلال الحنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله: الصبح صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم أذانها على وقتها كالمغرب بجامع عدم جواز القصر
(5)
.
فيقول: هذا الوصف لا ينعكس؛ لأنَّ الحكم الذي هو منع تقديم الأذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات بعلّة أخرى وهذا المثال
(1)
في (غ): ذلك.
(2)
في (ت): في كلّ.
(3)
في (ت): لجامع.
(4)
في (غ): مرتبًا.
(5)
ينظر: الحجة لمحمد بن الحسن: 1/ 72.
واقع لعدم التأثير في الوصف كما ظهر.
ومن أمثلة الأوّل أيضًا أنْ يقال على لسان الشافعي في منع نكاح الأمة الكتابية: أمةٌ كافرةٌ، فلا يحل للمسلم نكاحها كالأمة المجوسية
(1)
.
فيقال لا أثر للرقّ
(2)
في الأصل فإنّ الحرة المجوسية محرمة
(3)
(4)
والتمجس مستقل بإثارة منع النكاح والرقّ مستغنى عنه فذكره عديم
(5)
التأثير في الأصل وقد تمّ شرح ما في الكتاب.
وقد قسم أرباب النظر عدم التأثير أقسامًا عديدة.
أولها وثانيها: عدم التأثير في الأصل والوصف وهما المتقدمان في كلام المصنف.
والثالث: عدم التأثير في الأصل والفرع جميعًا فإذا قلنا بأنّ عدم التأثير في الأصل فقط يقدح كما ستعرفه إن شاء الله كان هذا قادحًا
(6)
بطريق
(1)
ينظر حكم المسألة في: المهذب للشيرازي: 1/ 72، والوسيط للغزالي: 5/ 12، وروضة الطالبين للنووي: 7/ 132، ومغني المحتاج: 3/ 185.
(2)
في (غ)، (ت): للفرق.
(3)
(محرمة) ليس في (ت).
(4)
يقول محمد الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: 3/ 185 "ورابع الشروط إسلامها أي الأمة التي ينكحها الحر فلا يحل لمسلم نكاح الأمة الكتابية وإن كانت لمسلم لقوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ولأنه اجتمع فيها نقصان لكل منهما أثر في منع النكاح وهما الكفر والرق كما أنه لا يجوز له نكاح الحرة المجوسية لاجتماع نقصي الكفر وعدم الكتاب".
(5)
في (ت): فذكر عدم التأثير.
(6)
في (غ): قدح.
أولى.
ومثال هذا قول من اعتبر العدد في الاستجمار بالأحجار
(1)
: عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية، فينبغي أنْ يعتبر فيها العدد قياسًا على رمي الجمار، وإذا اعتبر العدد وجب أن يكون ثلاثة ضرورةَ أنَّه لا قائل بالفصل.
وقوله: لم يتقدمها معصية عديم التأثير
(2)
في الأصل والوصف معًا بخلاف قولنا أمّة كافرة، فلا
(3)
تحلّ للمسلم كالأمة المجوسية، فإنّ كونها أمة لا أثر له في الأصل، لكن له تأثير في الفرع فلئن قال مثلا: إذا سقط قولي لم يتقدمها معصية انتقض بالرجم فإنّه عبادة تتعلق بالأحجار ثمّ لا يعتبر فيه العدد.
فنقول قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: هذا أصعب ما يجيء
(4)
في هذا الباب قال: وعندي أنّ مثل هذا لا يجوز تعليق الحكم عليه. ذكره في الملخص
(5)
.
(1)
يجب عند الشافعية في الاستجمار بالحجر ثلاث مسحات، بثلاثة أحجار أو بأطراف حجر واحد، ولو حصل الإنقاء بدون ثلاث وجب الثلاث، وإذا لم يحصل الإنقاء وجبت الزيادة. ينظر: الروضة للنووي: 1/ 69، والمهذب للشيرازي: 1/ 27، ومغني المحتاج للشربيني: 1/ 45.
(2)
في (ت): عدم التأثير.
(3)
في (ت): لا تحل.
(4)
في (ت): مما نحن فيه.
(5)
ينظر: الملخص في الجدل: 2/ 659.
والرابع: عدم التأثير في الفرع دون الأصل وهو قسمان:
أحدهما: أنْ يذكر وصف في الفرع يتحقق الخلاف فيه بدونه كقولهم: نوى صوم رمضان قبل الزوال فصحّ كما لو نوى من الليل فقيل كونه من رمضان لا مدخل له في تحقيق
(1)
الخلاف إذ يتحقق بدونه فإنه لو نوى مطلق الصّوم كان فيه الخلاف أيضًا وقد اختلف في قبول هذا القسم أيضًا.
وثانيهما: أن يلحق الفرع بالأصل بوصف لا تأثير له على إطلاقه في الفرع وفاقًا كقولنا في إثبات فسخ النكاح بالعيوب الخمسة عيب ينقص الرغبة في المعقود عليه فوجب ثبوت الفسخ به
(2)
كما في البيع فالوصف المذكور في الإلحاق لا تأثير له في الفرع على إطلاقه وفاقًا ولهذا
(3)
لا يثبت الخيار في النكاح بكلّ عيب شابه ما ذكر وفاقًا وقول القاضي حسين ومن شذّ عن الأصحاب بدعواه ثبوت الخيار بكلّ عيب منفر يكسر سَوْرَة
(4)
التوقان
(5)
لا يرد على دعوانا الوفاق هنا فمن العيوب ما ينقص الرغبة ولا يكن منفرًا يكسر سورة التوقان ولا عبرة به على العموم إجماعًا وإن اختلف في أفراد خاصة.
(1)
في (غ): تحقق.
(2)
(به) ليس في (ت).
(3)
في (ت): وهذا.
(4)
سورة الخمر حدتها (ينظر: القاموس المحيط 527 مادة "سور").
(5)
ينظر: العزيز شرح الوجيز: 8/ 132. والتوقان: من تاق إليه تَوْقًا وتُؤوقًا وتِياقة وتوقانًا: اشتاق. ينظر: القاموس المحيط مادة "تاق" ص 1124.
والخامس: عدم الثأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفًا لا تأثير له في الحكم المعلل به كما إذا قيل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا في دار الحرب: طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان بتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب، فالإتلاف في دار الحرب
(1)
لا تأثير له
(2)
في نفي الضمان وإثباته فإنّ من أوجب
(3)
الضمان أوجبه مطلقًا سواء كان في دار الحرب أم في غيرها ومن نفاه نفاه مطلقًا.
والفرق بين هذا والثالث فرق ما بين العام والخاص؛ لأنَّه يلزم من أنْ لا يكون له تأثير في الحكم أنْ لا يكون له تأثير في الأصل والفرع من غير عكس.
وقال الآمديُّ: حاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور، قال: وإذا بطل عدم التأثير في الفرع كما هو أحد الرأيين، ورجع حاصل هذا القسم إلى عدم التأثير في الوصف فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وفي الأصل
(4)
.
والآمدي لم يذكر القسم الثالث الذي أوردناه ولعله أهمله لكون الخامس أعمّ منه.
وإذا تفهمت ما ألقيته لك من الشرح وعلمت عود
(1)
(كأهل الحرب، فالإتلاف في دار الحرب) ساقط من (ت).
(2)
(له) ليس في (غ)، (ت).
(3)
في (غ): واجب.
(4)
ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 115.
الأقسام كلّها إلى عدم التأثير في الأصل وفي الوصف عرفت أنّ اقتصار صاحب الكتاب على ذكرهما نوع حسن من الاختصار والله أعلم.
قال: (والأول يقدح إن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين:
والثاني: حيث يمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين، وذلك جائز في المنصوصة كلإيلاء واللعان والقتل والردّة، لا في المستنبطة؛ لأنَّ ظنّ ثبوت الحكم لأحدهما يصرفة عن الآخر وعن المجموع).
تقدّم تصوير عدم التأثير وعدم العكس والكلام هنا في أنّهما هل يقدحان في العلية؟
وقد تشاجر القوم في ذلك وبنى المصنف الأول على أنَّه هل يجوز تعليل الحكم الذي هو واحد بالشخص بعلتين فيقدح عند مانعه؛ لأنَّه إذا لم يوجد الوصف المفروض علّة مع بقاء الحكم والفرض أنَّه ليس ثابتًا بعلة أخرى يحصل العلم بأنّ ذلك الوصف ليس علّة؟ .
وبنى الثاني على أنَّه هل
(1)
يمتنع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين؟ وبناؤه ظاهر مما تقدم؛ لأنَّ النّوع باق فيه ويعلم من هذا أنّ الحكم الواحد إن بقي شخصه بعد زوال العلّة فهو عدم التأثير، وإن بقي نوعه فهو عدم العكس، فامتناع بيع الطير في الهواء يبقي شخصه بعد زوال الرؤية، كما كان قبلها وامتناع نكاح الأمة المجوسية باق
(1)
(هل) ليس في (ص).
بالشخص بعد زوال الرقّ كما كان. أما منع تقديم الأذان فالباقي منه بعد زوال العلّة وهي كون الصلاة لا تقصر إنّما هو في الرباعية وما كان ثابتًا مع العلّة إنّما هو مع غيرها لكنهما اشتركا في النوعية وهو منع تقديم الأذان.
واعلم أنّ المبني عليه من أعظم ما خاض فيه الأصوليون، والمصنف اختصر القول فيه جدًّا ونحن نأخذ في شرح ما في الكتاب على الاختصار ثمّ نعود إلى الكلام في ذلك على حسب التوسط فنقول: يجوز تعليل الحكم الواحد نوعًا المختلف شخصًا بعلل مختلفة وفاقًا كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص، وخالد بالزنا بعد الإحصان وربما أومأ بعضهم إلى جريان الخلاف فيه وعلى ذلك مشى صاحب الكتاب حيث جعل عدم العكس مبنيًا عليه والأشبه ما ذكرناه وبه صرح الآمدي
(1)
وصفي الدّين الهندي
(2)
وهذا في العلل الشرعية.
أما العقلية فظاهر نقل بعضهم أنّ الخلاف في تعليل المعلول الواحد بعلل عقلية يختص بالواحد بالنوع دون الواحد بالشخص، فإنّه يمتنع تعدد علّته بلا خلاف وأمّا تعليل الحكم الواحد في شخص واحد بعلل مختلفة، نحو تحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض وزاد إمام الحرمين الصائمة
(3)
وهو سهو لأنَّ الصّوم يستحيل أن يجامع الحيض
(1)
ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 114 - 115.
(2)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3600.
(3)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 1008.
شرعا وكذا إباحة قتل الشخص الواحد بردته وقتله الموجب للقصاص هل يجوز بهذه الأمارات المزدحمة؟ اختلفوا فيه على مذاهب
(1)
:
أحدها: المنع من ذلك مطلقا
(2)
.
والثاني: الجواز مطلقا وإليه ذهب الجماهير.
والثالث: أنَّه يجوز في المنصوصة دون المستنبطة، وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك
(3)
والغزالي
(4)
، والإمام
(5)
والمصنف، قال إمام الحرمين: وللقاضي إليه صغو
(6)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
هذه المسألة توسم عند الأصوليين بتعليل الحكم بأكثر من علّة. وأخرها المصنف والشارح لما لها من صلة بموضوع القادح الثاني وهو: عدم التأثير. وإن كان قد جرى عند بعض الأصوليين أن تفرد بالبحث عند الكلام عن العلة عمومًا. وينظر تفاصيل المذاهب فيها في المصادر التالية: البرهان: 2/ 819، والمستصفى: 2/ 344، والمحصول: ج 2/ ق 2/ 375، والإحكام: 3/ 340، والمعتمد: 2/ 799، والمسودة: ص 416، وكشف الأسرار: 4/ 45، ومختصر المنتهى مع شرح العضد: 2/ 223، والبحر المحيط: 5/ 174.
(2)
منصوصة كانت أو مستنبطة، حكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي المالكية، وجزم به الصيرفي واختاره الآمدي، وهو ما أشار إليه إمام الحرمين في البرهان: 3/ 820 بقوله: إنه جائز عقلا ولكنه لم يقع.
(3)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 820.
(4)
ينظر: المستصفى: 2/ 342 - 343.
(5)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 367.
(6)
الصغو: من صغا ويصغى صُغُوًّا أي مال، وصغت النجوم إذا مالت للغروب وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرحل قال ذو الرمة: =
ظاهر في كتاب التقريب
(1)
.
قلت: وظاهر ما في التلخيص مختصر التقريب تجويزه مطلقا
(2)
.
وأما ما ذهب إليه الغزالي هنا من التفصيل فيخالف ما ذكره في الفقه فإنّه قال في كتاب البيع من الوسيط عند الكلام في زوائد المبيع: والحكم الواحد قد يعلل بعلتين
(3)
.
والرابع: عكسه
(4)
.
وذهب إمام الحرمين إلى رأي خامس وهو أنَّه جائز غير واقع
(5)
.
قوله: وذلك هذا دليل على التفصيل الذي اختاره.
وتقريره: أنَّه قد وقع تعليل الواحد بالشخص بعلتين منصوصتين فدلّ على جوازه ودليل وقوعه اللعان والايلاء فإنّهما علتان مستقلتان في تحريم
= تصغى إذا شدّها بالكور جانحة
…
حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب
ومنها قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} . ينظر: الصحاح: 6/ 2400 - 2401، مادة "صغا"، والقاموس المحيط: ص 1682 مادة "صغا"، والمختار: ص 319.
(1)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 820.
(2)
ينظر: التلخيص لإمام الحرمين: 3/ 281. (وللفائدة ينظر تعليق المحقق).
(3)
ينظر الوسيط للغزالي: 3/ 139، وعبارته:"والحكم قد يعلل بعلتين".
(4)
الجواز في المستنبطة دون المنصوصة حكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى: 2/ 223.
(5)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 820.
وطء المرأة ولك أنْ تقول: الإيلاء لا تحرم به الزوجة، فلا يصح التمثيل به ولا يمكن أنْ يبدل الإيلاء بالظهار؛ لأنَّ الظهار وإنْ كان محرمًا إلّا أنَّه لا يمكن اجتماعه مع اللعان، إذ اللعان يقطع الزوجية فلا تجتمع علتان على معلول واحد، فينبغي التمسك بالطلاق الرجعي مع الظهار فإنّهما علتان في تحريم الوطء وقد يجتمعان في المرأة فتكون رجعية ومظاهرًا منها.
ودليل وقوعه أيضًا المرتد الجاني فإنّ كلا من الارتداد والجناية علّة مستقلة في إراقة دمه وكذلك الصوم والعدّة والإحرام في تحريم وطء الزوجة.
ومثّل الغزالي بأنّ من لمس ومس وبال في وقت واحد انتقض طهره، ولا يحال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك أيضًا وجمع لبنهما وانتهيا إلى حلق المرتضعة في لحظة واحدة حرمت عليك، لأنَّك خالها وعمُّها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم واحد ولا يمكن أنْ يحال على
(1)
الخؤولة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حدّ واحد وحقيقة واحدة ويستحيل اجتماع المثلين
(2)
انتهى.
وإذا ثبت هذا
(3)
في الواحد بالشخص وضح ثبوته في الواحد بالنوع
(1)
في (غ): إلى
(2)
ينظر: المستصفى: 2/ 342 - 353.
(3)
(هذا) ليس في (ت).
بطريق أولى.
وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأنّ ظنّ ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين مانع من ظنّ ثبوته لأجل الأمر الآخر بمفرده أو لأجل المجموع وما لا يحصل الظنّ بثبوت الحكم لأجله لا يحكم بعلته بالاستنباط والاجتهاد فلا نحكم بعلية أمور متعددة لشيء واحد بالاستنباط والاجتهاد وهذا كما إذا تصدق على فقيه فقير قريب فإنّه يحتمل أنْ يكون الداعي إلى الصدقة مجموع الأوصاف أو بعضها أو فرد منها والاحتمالات متنافية لما ذكرناه.
هذا تقرير ما في الكتاب وفي الدليل المذكور نظر نذكره من بعد إن شاء الله تعالى.
عدنا إلى الكلام في أصل المسألة فنقول: اختلفوا في أنّ العكس هل يجب في العلة؟
فقالت المعتزلة وبعض أصحابنا كالإمام: لا يجب سواء كانت عقلية أم شرعية
(1)
، وادّعى القاضي في مختصر التقريب والإرشاد الاتفاق في العلل
(2)
العقلية على خلاف ذلك فإنّه قال يشترط في العلّة العقلية الاطراد والانعكاس باتفاق العقلاء القائلين بالعلل انتهى
(3)
.
وقال قوم: إنّه واجب مطلقًا وأوجبه قوم في العقلية دون الشرعية وعليه أكثر أصحابنا.
(1)
ينظر: المحصول: 2/ ق 2/ 356.
(2)
(العلل) ليس في (غ)، (ت).
(3)
ينظر: التلخيص لإمام الحرمين: 3/ 223.
وقال آخرون: يجب ذلك في المستنبطة دون المنصوصة
(1)
.
وقال الغزالي: إن لم يكن للحكم إلا علّة واحدة فالعكس لازم؛ لا لأنَّ انتفاء العلّة يوجب انتفاء الحكم؛ بل لأنَّ الحكم لا بد له من علّة فإذا اتحدت العلّة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتًا بغير سبب، أما حيث تعددت العلّة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها.
قال: والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلّة أنّا إذا قلنا: لا نثبت الشفعة للجار؛ لأنَّ ثبوتها للشريك معلل بعلّة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتحدة من المطبخ والخلاء ومطرح التراب ومصعد السطح وغيره.
فلأبي حنيفة أنْ يقول لا مدخل لهذا في التأثير فإنّ
(1)
هذء المسألة توسم أيضا بالخلاف في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين.
وقد ذكر الإسنوي مذاهب العلماء فيها: 4/ 195 - 196 فقال: "اختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين على مذاهب:
أحدها: يجوز مطلقًا واختاره ابن الحاجب.
والثاني: لا يجوز مطلقًا واختاره الآمدي
والثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة. واختاره الإمام كما نص عليه. . .".
ثم قال بعد أن ذكر المذاهب: "ثم إن مقتضى كلام المصنف أن الخلاف جار في الواحد وهذا الخلاف هو المعبر عنه بأن العكس، هل هو معتبر في العلل أم لا. لكن الإمام لما حكاه هنا ذكر العلل الشرعية لا يشترط فيها العكس، قال وفي العقلية خلاف بين أصحابنا والمعتزلة، ثم اختار مذهب المعتزلة، وهو أنه لا يشترط".
الشفعة ثابتة في العرصة
(1)
أيضًا وما لا مرافق له فهذا إلزام عكس وهو لازم؛ لأنّه يقول [لو كان هذا مناطا للحكم لا ينفي الحكم عند انتفائه فنقول: السبب فيه ضرر مزاحمة الشركة فنقول: لو كان كذلك لثبت في شركة العبيد والحيوانات والمنقولات. فإن قلنا ضرر الشركة]
(2)
فيما يتأبد ويبقى.
فنقول: فليجر في الحمام وما لا ينقسم كما هو عندكم قول قديم أو وجه فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس، وهو مؤاخذة صحيحة إلى أن يعلل بضرر مؤنة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة
(3)
بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها بوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلّة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس
(4)
. انتهى.
قال صفي الدّين الهندي: وينبغي أن لا يكون فيما ذكره الغزالي خلاف ونزاع لأحد
(5)
(1)
العرصة: العَرْصُ: العَرْسُ، والمحدّثُونَ يَلْحَنونَ فَيُعْجِمونَ الصادَ. والعَرْصَةُ: كل بُقْعَةٍ بينَ الدُّورِ واسِعَةٍ ليس فيها بِناءٌ ج: عِراصٌ وعَرَصاتٌ وأعْراصٌ. والعَرْصَتَانِ كُبْرَى وصُغْرَى: بِعَقِيقِ المَدِينةِ. ينظر: القاموس المحيط: ص 803 - 804.
(2)
(فنقول: لو كان كذلك لثبت في شركة العبيد والحوانات والمنقولات. فإن قلنا ضرر الشركة) ساقط من جميع النسخ وأثبته من المستصفى المطبوع 2/ 344.
(3)
(العلة) ليس في (غ).
(4)
ينظر: المستصفى للغزالي: 2/ 344 - 345.
(5)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3470.
ويظهر عند هذا أنّ هذه المسألة فرع مسألة تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة فلذلك لم يشتغل صاحب الكتاب بالكلام فيها بل تكلم في تعليل الحكم
(1)
الواحد بعلل فليكن كلامنا نحن
(2)
أيضًا في ذلك.
وقد عُلمت المذاهب فيها وما احتج به صاحب الكتاب على اختياره، وهو مدخول عندنا
(3)
؛ لأنَّا نقول على استدلاله في المنصوصة: لا دلالة لما ذكرت إلا على اجتماع سببين
(4)
أو أكثر على حكم واحد، وليس فيه دلالة على أنّ ذلك الحكم معلل بكلّ منها أو بواحد منها فلئن قال: أعود وأقرره على وجه آخر، فأقول: العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردّة والزنا فإمّا أنْ يقال: لا يثبت الحكم فيه أصلًا وهو باطل، أو يثبت
(5)
بواحدة معينة منها
(6)
، وهو أيضًا باطل للزوم الترجيح من غير مرجح، أو بواحدة لا بعينها وهو كذلك؛ لأنَّ ما لا تعين له لا وجود له في نفسه، وما لا وجود له
(7)
لا يصلح أنْ يكون علّة أو بمجموعها وهو كذلك؛ لأنّه حينئذ تكون كلّ واحدة منها
(8)
جزءًا لعلة وليس كلامنا فيه فيتعين أنْ يعلل الحكم بكلّ
(1)
(الحكم) ليس في (غ)، (ص).
(2)
(نحن) ليس في (ص).
(3)
من المواطن التي يعترض فيها الشارح على الماتن الإمام البيضاوي.
(4)
في (ت): شيئين.
(5)
(فإمّا أنْ يقال لا يثبت الحكم فيه أصلا وهو باطل أو يثبت) ساقطة من (غ).
(6)
(منها): ليس في (ت).
(7)
(له) ليس في (غ).
(8)
في (غ) يكون كل واحد منها.
واحدة منها.
لا يقال: نمنع وجود العلل دفعة واحدة، ونقول: فيما إذا ترتب الحكم معلل بالسابق منها وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ؛ لأنّا نقول منع وجودها مكابرة، إذ نحن على قطع أنَّه لا منافاة بين تلك الأمور، فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدةً، إذ يمكن صدور الزنا والردّة من واحد - والعياذ بالله - في ساعة واحدة.
فنقول: قاربت الإصابة بالتقرير على هذا الوجه، ولكنّا لا نسلم بعد ذلك أنّ الحكم هناك حكمٌ واحد بل أحكامٌ كثيرة، فإنّ الإباحة الحاصلة بالقتل غير الحاصلة بالردّة والدليل عليه وجهان:
الأول: أنّ الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الاباحة الحاصلة بسبب الردّة وبقيت الإباحة الحاصلة بالقتل والزنا. ثم إذا عفا وليّ الدم زالت الإباحة الحاصلة بالقتل، وبقيت الإباحة الحاصلة
(1)
بالزنا.
والثاني: أنّ القتل المستحق بالقتل يجوز لولي الدم العفو عنه، والمستحق بالردّة لا يتمكن الولي من إسقاطه فدلّ على تغاير الحكمين.
وهذا المنع الذي ذكرناه هو الذي اعتمد عليه إمام الحرمين في ردّ هذه الحجة
(2)
، وهو عندنا منعٌ صحيحٌ. وإن كان القاضي في مختصر التقريب والإرشاد قال: إنّه هذيان يدني قائله من جحد الحقائق.
(1)
(بالقتل والزنا. ثم إذا عفا وليّ الدم زالت الإباحة الحاصلة بالقتل، وبقيت الإباحة الحاصلة) ساقط من (ت).
(2)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 832.
ونحن نذكر
(1)
ما ردّ به ونزيفه بعد ذلك. وأجمع كلام في الردّ عليه كلام الإمام.
فقال: قلنا: الدليل على أنّ الحكم واحد أنّ إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد فهو إمّا أنْ يكون ممنوعًا منه من جهة الشرع بوجه ما فهو الحرمة أو لا فهو الحلّ. وإذا كانت الحياة واحدة كانت إزالتها واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدا.
فإن قلت: الفعل الواحد يجوز كونه حلالا من وجه حراما من آخر، وحينئذ يجوز أن يتعدد حكم الحلّ لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث إنّه مرتد وإنّه زان وإنّه قاتل.
قلت: حرمة الشيء من وجه وحلّه من آخر
(2)
غير معقول؛ لأنَّ الحلّ هو تمكين الشرع من الفعل ولا يتحقق هذا المعنى إلا إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلًا. بلى ليس من شرط الحرمة أنْ يكون حرامًا من جميع جهاته؛ لأنَّ الظلم حرام مع أنّ كونه حادثًا وعرضًا وحركة لا يقتضى الحرمة وحينئذ نقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل تعدده؛ لأنّ هذا الإطلاق يستحيل أن يتعدد، والعلم بذلك ضروري
(3)
. هذا ما ذكره الإمام
(4)
.
(1)
في (غ)، (ت): نرد ما ردّ به.
(2)
في (ت): وحله من وجه.
(3)
ينظر: المحصول للرازى: ج 2/ ق 2/ 371 - 372. ذكره في القادح الخامس: الفرق.
(4)
(الإمام) ليس في (ت).
وقد اعترض النقشواني على قوله: إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد بالمنع. وفيه نظر، ثمّ بعد التسليم بأنّك لم قلت أنّ ما يكون طريقًا إلى الشيء يجب أنْ يكون واحدًا؛ لأنَّ الحكم الذي كلامنا فيه ليس نفس إبطال حياة الشخص بل الطريق إليه. ألا ترى أنّ حياة الشخص الواحد يمكن إبطالها بضرب عنقه وقدّه نصفين، وأمور لا تعدّ فيما نحن فيه. لم ادعيت أنّه ليس كذلك فإنّ إباحة القتل بالردّة هو طريق واحد إلى إبطال الحياة وحكمه أنْ يقتله الإمام ما لم يتب، وليس له إسقاطه وإباحته بالقصاص أنْ يتمكن الولي من قتله بمثل الطريق التي صدرت عنه أو بالسيف، وله العفو وإباحته بالزنا أن يرجم ولا يتبع إذا هرب ولا يسقط فهذه طرق مختلفة غير أنّها اشتركت في أمر واحد وذلك لا يوجب اجتماع العلل على حكم واحد.
وأيضًا عصمة دم المرء حكم شرعي وهو مشروط بأمور منها الإسلام ويضاده الكفر ومنها العفة ويضادها الزنا ومنها العدل ويضاده القتل
(1)
ظلما ويختل كلّ واحد منها بواحد من هذه الأفعال
(2)
.
وكما قال إمام الحرمين لن يعدم الآنس بالفقه استمساكًا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف
(3)
ونظير هذا في الأمور العقلية أنّ حياة الشخص الواحد مشروطة
(1)
(الكفر ومنها العفة ويضادها الزنا ومنها العدل ويضاده القتل) ساقط من (غ).
(2)
ينظر: تلخيص المحصول لتهذيب الأصول للنقشواني: 2/ 900 - 901.
(3)
ينظر: البرهان للجويني: 2/ 1008.
بشروط منها بقاء الأعضاء الرئيسية على أمزجتها المعينة ومنها اتصال بعضها ببعض وغير ذلك وكلّ ما يحصل في البدن مبطلا لواحد من هذه الشروط تصير سببا لإبطال الحياة ولا جرم أن تعددت أسباب إبطال الحياة فإذا فرضنا اجتماع عدّة منها لا نقول: إنّ العلل الكثيرة تواردت على معلول واحد وإذا فرضنا دفعة واحدة جزّ رقبة شخص وقدّه بنصفين من شخصين معًا لا يقال اجتمع هاتان العلتان على معلول واحد إذ لا يتصور ذلك في العلل العقلية التّامّة
(1)
المؤثرة فكلّما ذكره عذرًا في هذه الصورة كان عذرًا لنا في دفع ما ذكر من الدليل ولسنا بالمعتذرين عن العلل العقلية فإنّ العلّة العقلية لا حقيقة لها عندنا ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلّة والمعلول ولكنا نحيل الأمر إلى الإمام.
ثم قال الإمام: قولكم الدليل على التغاير إنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقي الآخر.
قلنا: لا نسلم أنّه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحكم معللا بالردّة فالزائل ليس هو نفس الحلّ بل وصف كونه معللا بالردة.
ولقائل أن يقول: لو لم يزل ذلك الحلّ لكان مستمرًا بدون علته فإنّه لا أثر للزائل في المستمر بل التحقيق أنّ الحلَّ المضاف إلى الردّة زال وبقي حلّ آخر ثَمَّ.
قال قولكم: ولي الدم مستقل بإسقاط أحد الحلين.
(1)
في (غ): الثامنة.
قلنا: ممنوع بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب، فإذا زال ذلك السبب زال انتساب ذلك الحكم إليه لا الحكم نفسه
(1)
.
واعترض عليه النقشواني أيضًا بأنّا نعلم أنّ الولي كان متمكنًا من إزالة الحل الثابت له وهذا الزوال يستدعي سببًا ولا سبب غير عفوه.
وبأنّا نقول: إنْ كان الزائل بالعفو شيئًا آخر غير حلّ القتل فموجب قتل القاتل ظلمًا هو ذلك الشيء؛ لأنّ العفو يسقط موجب الجناية فإذا كان موجب الجناية غير الحلّ فلا يلزم اجتماع العلل على حكم واحد.
وهكذا نقول في سائر الصّور المذكورة من
(2)
اجتماع العدّة والحيض في الزوجة وصورة الرضاع في زوجة الأخ والأخت وغيرها وإنّ كلّ هذه الأحكام مشروطة بشروط على ما تقرر.
ثم إنّا نقول: ما ذكرتم من الصور التي فرضتم الكلام فيها فيه أمر عجاب، فإنّ بعضها مستنبطة وبعضها مومأ إليها، فإنّ عليّة ما أوردتم إنّما جاء من الاستنباط وإيماء النصوص لا من النّص
(3)
وأنتم لا تجوزون اجتماعها على المعلول الواحد إذ
(4)
فرقتم بين المستنبطة والمنصوصة فكيف يحصل الغرض من هذا؟
(5)
.
(1)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 372 - 373.
(2)
في (ت): في اجتماع.
(3)
(لا من النص) ليس في (غ).
(4)
في (غ)، (ت): إذا.
(5)
ينظر: تلخيص المحصول لتهذيب الأصول للنقشواني: 2/ 903 - 904.
وعليهم في هذا الدليل اعتراضات أخر أضربنا عنها إذ قد أطلنا بعض الإطالة
(1)
.
ولإمام الحرمين هنا كلمات لا نرى إخلاء هذا الشرح منها فلا يطولنّ الفصل عليك ففيه كبير
(2)
فائدة.
قال: قد يظنّ الظانّ الفطن في هذا المقام أنّ المسؤول إذا فرض الكلام في طرف من المسألة لغرض إيضاح كلام ولصورة الفرض تعلقٌ بالعلّة من حيث العمومُ وليست مقصود الفارضي ومن حيث الخصوصُ وهي مقصود الفارض وإذا كان كذلك فقد تعلق الحكم في هذا الطرف بعلتين.
قال: وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر
(3)
وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الغرض فنقول إذا قدّم الغاصب الطعام المغصوب إلى ضيف فأكله الضيف ظانّا أنّ الطعام ملك هذا المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المضيف ومعتمد هذا الفنّ تقرير
(4)
التغرير وكون الغرور مناطًا للضمان
(5)
.
وقد قال أبو حنيفة: لو أكره الغاصب إنسانًا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرًا أو موجرًا كما إذا كان مختارًا في التناول
(6)
.
(1)
ينظر: المصدر نفسه: 2/ 904.
(2)
في (ت): كثير.
(3)
في (ت): والقذر.
(4)
في (ت): تقدير.
(5)
ينظر: روضة الطالبين: 3/ 500.
(6)
ينظر: المبسوط: 3/ 500، وحاشية ابن عابدين:367.
فإذا فرض الفارض في صورة الإكراه فليس يجبر؛ لأنّه إنّما يصح أن لو كان في الصورة عموم وخصوص، والغرور
(1)
ليس أعمّ من الإجبار إذ الإجبار ينافي الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض إجبار
(2)
في المغرور مع استناد اختياره إلى الاغترار فأمّا المجبر المكره فلا يتصور بصورة
(3)
مغتر وإن فرض منه ظنّ فليس ذلك الاغترار المعنيّ.
قال: فهذا النوع ليس بمرضي من جهة أنَّه مجانب لمحل السؤال أو لا إذ لا عموم وخصوص فيه والفرض المستحسن هو ما اشتمل على ذلك.
ثمّ قال: وليس للفرض في هذه المسألة وجه أيضًا فإنّه إذا ثبت الضمان لا يستقر على المكره فكيف ينبني عليه عدم القرار على المختار الطاعم في مسألة التقرير ولا معتمد في التقرير على المختار إلا الاغترار.
وحاصل هذا أنَّه لا عموم وخصوص في هذه الصورة وليس للشافعي إلزام الحنفي بها؛ لأنَّ الضمان إذا ثبت لا يستقر على المكره، وهو كلام صحيح، إلا أنّ المذهب الصحيح المشهور في الجديد أنّ قرار الضمان في مسألة التغرير على الآكل دون المضيف، والصحيح في مسألة الإكراه استقرار الضمان على المكْرِه بكسر الراء على خلاف ما قاله فيهما.
ثم ذكر إمام الحرمين صورة من الفرض المستحسن فقال: إذا سأل
(1)
في (ت): المغرور.
(2)
في (ت): اختيار.
(3)
في (ت): تصوره.
السائل
(1)
عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعمّ المعتق الموسر والمعسر، فإذا فرض المسؤول كلامه في المعسر كان مندرجًا تحت سؤال السائل ويستفيد الفارض بالفرض في المعسر أمرين:
أحدهما: دفع أسئلة قد لا يحضر عنده الجواب عنها كسريان العتق إلى ملك الشريك فلا يلزمه إذا فرض كلامه في هذه الصورة؛ لأنَّ عتق المعسر غير سار عند الشافعي.
وأحسنهما
(2)
أنّ الخصم قد يتمسك في كلامه على أنّ قيمة العبد في غرض المالية منزل منزلة العبد فليس الراهن المعتق مفوتا على المرتهن غرضه من الاستيثاق فإنه إذا أقام قيمة العبد مقامه هنا لم يكن معترضًا على محل حق المرتهن.
قال وهذا لا حقيقة له إذ ليس هو مبني على مذهب من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إقامة القيمة مقام المقوم بل سبب نفوذه الملك وصحة العبارة فاستفاد الفارض بفرضه المسألة في المعسر قطع هذا الكلام الواقع فضلة لا أثر لها.
قال: فليكن قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك ويتجه للفارض في المعسر أنْ يقول يستأصل المعسر المعتق لو نفذ عتقه حقّ المرتهن بكماله ويشير إلى أنَّه لا يجد ما يقيمه مقام المرهون فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية.
(1)
في (ت): سائل.
(2)
في (غ): أحسنها.
قال وهنا وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول: من منع نفوذ العتق يكتفي فيما يقرره بأنّه لو نفذ أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في عين الرهن وإذا كفى هذا فأي حاجة للتعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة قال: ويوشك لو لم يتفطن الفارض أنَّه يقع في المحذور الذي ذكرناه وهو التعلق بما لا اعتبار به ولا وقع له.
فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة قطع المالية بالكلية وقطع حق المرتهن من العين المخصوصة فيعلل امتناع النفوذ بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق من عين العبد فإن هذا شيء يعم المعسر والموسر.
فنقول هذا هو الغرض من سياق هذا الكلام وهذا ليس بشيء فإنّ المالية ليست مرعية في حقّ المرتهن وإنما المعتبر اختصاص استحقاق استيثاقه بعين يستمسك بها إذا عرضت له توقعات العسر في الدّين الذي يقع في الذمّة وهو تأثر مسبوق بالعين التي
(1)
استمسك بها فهذا غرض الرهن
(2)
وإذا كان الراهن مطالبًا بالدّين فقد خرج عن
(3)
مقصود الرهن.
قال: ولهذا السّر لا يجوز رهن الدّين. نعم لو فرض من الراهن إتلاف المرهون فالشرع يتقاضاه أنْ يقيم قيمته مقامه إذ مسلك
(4)
الشرع إثبات
(1)
في (غ): الذي.
(2)
في (ت): الراهن.
(3)
في (ت): من.
(4)
في (ت): ملك.
الضمان جبرانًا لكلّ بدل فائت فلا ينبغي أنْ تعدّ قضايا الشرع في مظانّ الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول اهـ.
(1)
وهو بليغ لا معترض عليه ومراده أنّ هذه الصورة إن أوردها عليه من يقول باجتماع العلتين خلص
(2)
عن إيراده بأن يقول: العلّة عندي واحدة وهي
(3)
ما ذكرت وإن اعتقد الخصم أنّ المالية مرعية فلا مبالاة بمعتقده.
ثم قال: وهذا يناظر عندي مسلكي في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقى العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف في أحد عوضين وقد زلّ جماهير الفقهاء فاعتقدوا أنّ التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة [في الأساليب]
(4)
وهذا زلل وسوء مدرك فإنّ العقد ما أنشئ على التوزيع. وإنما هو أمر ضروري أحوج إثبات الشفعة
(5)
إليه
(6)
اهـ.
ومناظره ما ذكر؛ لأنَّ قضايا الشرع في محل الضرورة لا يعدّ من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول ظاهرة على مسلكه كما ذكر ولكن هو مسلك حاد به عن سبيل الأصحاب ومع ذلك هو مدخول.
(1)
ينظر: البرهان: 2/ 1007 - 1014.
(2)
(خلص) ليس في (ت).
(3)
(وهي) ليس في (غ).
(4)
ما بين المعكوفين، من كتاب البرهان المطبوع: 2/ 1014. وهو كتاب مخطوط لم يطبع بعد على علمي.
(5)
في (ت): الشقص.
(6)
ينظر: البرهان: 2/ 1014 - 1015.
ومن وجوه الاعتراض عليه ما ذكره الرافعي فقال: أليس قد ثبت التوزيع المفصّل في مسألة الشفعة وهي ما إذا باع شقصًا من عقار وسيفا بألف ولولا أنَّه قضية العقد لكان ضمّ السيف إلى الشقص من الأسباب الدافعة للشفعة فإنّها قد تندفع بأسباب وعوارض
(1)
.
واعترض عليه أيضًا حيث قال المعتمد عندي في التعليل أنّا تعبدنا بالمماثلة تحقيقًا وإذا باع مدًّا ودرهما بمدّين لم تتحقق المماثلة، فيفسد العقد فإنّ للخصم أنْ يقول تعبدنا بتحقيق المماثلة فيما إذا تمحضت مقابلة شيء منها بجنسه أم على الإطلاق إنْ قلنا بالثاني فممنوع وإن قلنا: بالأوّل فمسلم، ولكنّه ليس صورة المسألة إلّا أنّ هذا اعتراض ضعيف ولا سيما في الغرض الذي فرضه وهو إذا باع مدّا ودرهما بمدين فإنّه يصحّ في هذه الصورة أنَّه باع تمرا بتمر؛ لأنَّ التمر الذي مع الدرهم مبيع قطعًا ولا مقابل له إلا تمر ومتى صدق أنَّه باع تمرا بتمر وجبت المماثلة بالنّص، وتمحضُ المفاضلة قيدٌ زائد لم يدلّ عليه دليل فالكلام في هذا دخيل في الكتاب. ولعلنا: نأتي إن شاء الله تعالى منه في كتابنا الأشباه والنظائر بالعجب العجاب.
ثم قال: وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صائرًا إلى أنّ الراهن إذا كان موسرًا ينفذ إعتاقه ويلزمه إحلال القيمة موضع العبد وإن كان معسرًا لا ينفذ إعتاقه لتعذر تغريمه وإفضاء الإعتاق فيه بتقدير نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ذلك
(1)
ينظر العزيز: 5/ 510.
بتفصيل مذهبه في تسرية عتق الشريك إذا كان موسرًا دون ما إذا كان معسرًا فاتحاد العلّة على هذا المذهب أوضع
(1)
فإنّ صاحبه متشوف إلى اعتبار انقطاع علقة الرهن من عرض
(2)
الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من عتق الرهن عنده وقع أصلا فلذلك ينفذ عتق الراهن الموسر فلم ينتظم على المسلكين علّتان عامة وخاصة في صورة الفرض.
ثمّ قال: إذا فرض الشافعي الكلام في مسألة ضمان منافع المغصوب في طرف الإتلاف طرد ما يرتضيه في الباب؛ فقد يعتقد الفطن أنَّه يجتمع في هذا الطرف معنيان:
أحدهما: الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك اختار القاضي
(3)
تعيين هذا الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به
(4)
. وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت يد العادية وهذا أقرب مسلك في تخيل اجتماع معنيين بحكم واحد.
ونحن نقول فيه: العلّة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإنّ المتلف
(5)
الحاصل تحت اليد العادية إنّما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد بمنع الحق مستحقه فصار الضياع الذي يقع سماويًا في اطراد منع
(1)
(أوضح) ليس في (ت).
(2)
في (ت): عوض.
(3)
في (ص): الفارض.
(4)
(به) ليس (ت).
(5)
في (ت): التلف.
المتعدي مشبها بإتلافه وإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبّه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبّه به واعتقاد اجتماع المشبّه والمشبّه به في صورة واحدة محال أهـ
(1)
.
وهو بليغ لا يخدشه شيء وهذا ما أردنا إيراده من كلام إمام الحرمين.
ولنعد إلى الكلام على ما استدل به صاحب الكتاب على اختياره فنقول: وأما ما استدل به على المنع في المستنبطة فلولا مراعاة الإنصاف
(2)
لما رددناه لأنَّه ماش على معتقدنا ولكنّا نقول للخصم أنْ يقول: لا نسلم أنّ ظنّ ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين يمنع ظنّ ثبوته لأجل الأمر الآخر أو المجموع وإنما يكون ذلك أن لو تاقت عليّة أحدهما للحكم عليّة الآخر وهو أول النزاع.
فإن قلت: قد تحصل لنا من اختيارك موافقة إمام الحرمين على عدم وقوع اجتماع العلل على المعلول الواحد وما دللت عليه بل زدت على هذا أنْ أبطلت الدليل على المنع في المستنبطة وهو بعض مطلوبك.
قلت: طال الفصل وما بقي الشرح يحتمل أكثر من هذا التطويل ولذلك لم يشتغل بالكلام في حجج بقية المذاهب، ولعلنا نقرر اختيارنا في مجموع آخر
(3)
وبالله الوفيق.
(1)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 1015 - 1017.
(2)
في (ص): الاتفاق.
(3)
ولعله يقصد جمع الجوامع.