الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظن اعتبارها ولأن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمعرفة المصالح).
تقدّم في كتاب القياس أنّ
المناسب
إمّا أن يعلم أنّ الشارع اعتبره أو ألغاه أو يجهل حاله، وانفصل القول البليغ في القسمين الأولين والنظر هنا في الثالث وقد يعبر عنه بالمصالح المرسلة وبالاستصلاح
(1)
وفيه مذاهب:
(1)
المصلحة لغة كالمنفعة وزنًا ومعنى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، كالمنفعة بمعنى النفع، او اسم لواحدة من المصالح، والمصلحة والصلاح والمصلحة واحدة المصالح قال ابن منظور:"فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب والتحصيل، كاستحصال الفوائد واللذائذ أو بالدفع والاتقاء كاستبعاد المضار والآلام فهو جدير بأن يسمى مصلحة". ينظر: الصحاح: 1/ 383 - 384، والمصباح المنير: ص 345، ولسان العرب: 3/ 348 مادة "صلح".
وأما في اصطلاح علماء الشريعة فهي كما عرفها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بقوله: "المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم وعقولهم ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معين فيما بينها" ضوابط المصلحة ص 23.
وقال الغزالي في تعريفها: "فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم. لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما تضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة". ينظر المستصفى 1/ 286 - 287.
والمصالح المرسلة من أعوص الموضوعات فقد زلت فيها أقدام، وقد كتب فيه قديما وحديثا، وأخطر ما كتب فيه ما كتبه الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة (716 هـ) حيث اعتبر المصالح مطلقا وركب متن الغلو فيها. وقد تصدى للرد =
أحدها: المنع منه مطلقًا وهو الذي عليه الأكثرون
(1)
. رضي الله عنهم
والثاني: أنَّه معتبر مطلقًا وهو المنقول عن مالك بن أنس رحمه الله
(2)
.
= عليه علماء من عصره ومتأخرون. والمؤلفات الحديثة المعاصرة التي كتبت في المصالح المرسلة كثرة لكن أهمها: ضوابط المصلحة للدكتور البوطي، المصلحة في التشريع الإسلامي لمصطفى زيد، وله أيضًا ملحق في تحقيق رسالة للطوفي في شرح الأربعين حديثا للنووي وركز فيه على حديث "لا ضرر ولا ضرار". وأدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، وتعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي وهو من أحسنها، وأثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي لمصطفى البغا. وغيرها. . .
والقول بالمصلحة أمر يقتضيه العصر الذي نعيشه لكثرة النوازل والقضايا، فكثير من المشاريع التي تقوم بها الدول سواء الخاصة بكل دولة على حدة كالخطط التنموية ذات المدى القريب والمتوسط أو البعيد بحاجة إلى النظر فيها إلى المصالح والمفاسد الناجمة عن تلك الخطط. وكذا العامة بين الدول من العلاقات الدولية فهي قائمة على المصالح المتبادلة، ونظرية المصلحة نافذة في تسيير هذه العلائق. والله أعلم.
(1)
رجحه الآمدي قال: "وهو الحق الذي اتفق عليه الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم". واختاره إمام الحرمين، وقال ابن الحاجب، وهو المختار. ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 216، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 242، والبرهان: 2/ 113، شرح تنقيح الفصول: ص 446، الاعتصام للشاطبي: 2/ 11 - 112، والروضة: 2/ 737.
(2)
ينظر رأي المالكية في شرح تنقيح الفصول: ص 446، الاعتصام للشاطبي: 2/ 11 - 112.
قال ابن دقيق العيد: "الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما". ينظر: إرشاد الفحول: ص 242.
وقال القرافي: "وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا وإذا تفقدت المذاهب =
والثالث: ما اختاره المصنف أنَّه إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كليّة اعتبرت، وإن فات أحد هذه القيود الثلاثة لم تعتبر
(1)
.
والضرورية: ما تكون في الضروريات الخمس أعني الدين والعقل والنفس والمال والنسب.
والقطعية: التي تجزم بحصول المصلحة فيها.
والكلية: هي التي تكون موجبة لفائدة تعمّ جميع المسلمين
(2)
.
ومثل لذلك: بما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى المسلمين وقطعنا بأنّا لو امتنعنا عن التترس
(3)
لصدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلمًا من دون جريمة صدرت منه فيجوز والحالة هذه رميه.
وهذا التفصيل مأخوذ من الغزالي رحمه الله
(4)
ونحن نشبع القول فيه ثم نلتفت إلى الكلام مع مالك رضي الله عنه.
= وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدًا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا أو فرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة فهي حينئذ في جميع المذاهب. ." ينظر شرح تنقيح الفصول: ص 393، 446.
ومن خلال هذه النقول يتبين أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لا يخلو منه مذهب من المذاهب ولمزيد من التفاصيل ينظر: المصلحة في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى زيد: ص 45، 46، 48.
(1)
وهو رأي الغزالي ينظر: المستصفى: 1/ 284.
(2)
(المسلمين) ساقط من (ت).
(3)
في (غ)، (ص): الترس.
(4)
ينظر: المستصفى: 1/ 294.
فنقول: ما ذكرناه من المثال لا عهد به في الشريعة قال الغزالي: "فلا يبعد أنْ يؤدي إليه اجتهاد مجتهد فنقول هذا الأسير مقتول بكل حال لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضًا، فحفظ المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا على قطع نعلم أنّ الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية، فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم بأنّه لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة فيعدل عنها وليس في معناها إذا لم يقطع بظفرهم بنا
(1)
فإنها ليست قطعية بل ظنية". كذا قال الغزالي
(2)
وهو إشارة إلى اعتبار القطع بحصول المصلحة، وفي اشتراط القطع به وعدم الاكتفاء بالظنّ الغالب نظر.
وقد حكى الأصحاب في مسألة الترس وجهين من غير تصريح منهم باشتراط القطع، وعللوا وجه المنع بأنّ غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا،
(1)
(إلى أخذ القلعة فيعدل عنها وليس في معناها إذا لم يقطع بظفرهم بنا) ساقط من (غ).
(2)
ينظر: المستصفى: 1/ 294 - 296.
ودم المسلم لا يباح بالخوف. وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه.
وقد يقال: إنّ المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها والخلاف إنما هو في حالة الخوف.
وقد صرح الغزالي بذلك في المستصفى وقال: "إنّه إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظنّ قريب من القطع. وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور. ولعل مصلحة الدين في بقاء من طرح أعظم منها في بقاء من بقي ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يعين بالقرعة ولا أصل لها في الشرع، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدًا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظًا للروح فإنّه ينقدح الرخصة فيه؛ لأنه إضرار به
(1)
لمصلحته
(2)
وقد شهد الشرع بالإضرار لشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما. وكذلك قطع المضطر فلقة من فخذه إلى أن يجد الطعام هو كقطع اليد لكن ربما يكون القطع سببًا ظاهرًا في الهلاك ويكون الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشدّ فيمنع منه وليس كذلك ما إذا كان الخوف منه دون الخوف من ترك الأكل فإنه يجوز على الأصح بشرط أنْ لا يجد شيئا غيره"
(3)
.
(1)
(به) ليس في (ت).
(2)
(لمصلحته) ليس في (غ).
(3)
ينظر: المستصفى: 1/ 296 - 297.
فإن قلت: فهل يجوزون أن يقطع لنفسه من معصوم غيره أو أنْ يقطع الغير للمضطر من نفسه.
قلت: لا نجوزه لأنّه ليس رعاية مصلحة أحدهما بالقطع له أولى من رعاية الآخر بترك القطع.
فإن قلت: فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون به؟ .
قلت: قد قال به مالك رحمه الله ولكنا لا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لما علمت
(1)
من معارضة هذه المصلحة لمصلحة أخرى وهي مصلحة المضروب فربما يكون بريئًا من الذنب فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب بريء وإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح أبواب إلى تعذيب البرءاء.
فإن قلت: فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"
(2)
فماذا ترون؟
(3)
.
(1)
في (ت): غلب.
(2)
الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 75، كتاب الإيمان (2) باب:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (17) الحديث رقم (25). ومسلم في الصحيح: 1/ 53، كتاب الإيمان (1) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (8) الحديث (36/ 22). واللفظ للبخاري.
(3)
ينظر: المستصفى: 1/ 298 - 299.
قلت: المسألة في محل الاجتهاد والذي نراه قبول توبته جريًا على تعميم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّ غاية ظننا فيه أنَّه أسرّ الكفر ولسنا على قطع بذلك وقد صادم هذا الظهور بلفظه بكلمة الشهادة العاصمة عن القتل فلا يرجع إليه.
وهذا الذي رأيناه هو الذي نصّ عليه الشافعي رضي الله عنه في المختصر
(1)
وقطع به العراقيون وصححه المتأخرون
(2)
.
وخالف فيه بعض الأصحاب واستعمل هذه المصلحة في تخصيص عموم الحديث
(3)
.
وزعم الروياني أنّ العمل على ذلك
(4)
، وفي المسألة أوجه أخر ناظرة إلى ما يقوي الظنّ
(5)
.
فقال القفال الشاشي
(6)
لا تقبل توبة المتناهين في الخبث كدعاة
(1)
أي مختصر المزني.
(2)
كذا أظهره الرافعي فقال: "أظهر الوجوه: أنه لا فرق، وتقبل توبة الزنديق وإسلامه، وهذا هو المنصوص في المختصر ولم يورد العراقيون غيره". العزيز شرح الوجيز: 11/ 114.
(3)
الحديث السابق: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله".
(4)
قاله في الحلية أفاده الرافعي في العزيز شرح الوجيز: 11/ 115.
(5)
ينظر: العزيز شرح الوجيز: 11/ 115.
(6)
والشاشي: هو أبو بكر بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي، الفقيه الشافعي، المولود عام (291 هـ) والمتوفى عام (336 هـ) وقيل 365 هـ وقيل 371 هـ بمرو له من المصنفات: شرح الرسالة، وكتاب في أصول الفقه. والشاشي نسبة إلى مدينة شاش =
الباطنية وتقبل من عوامهم
(1)
.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبًا ابتداء وظهرت أمارات الصدق قبلت وهو حسن
(2)
.
وقال أبو إسحاق المروزي: لا يقبل إسلام من تكررت ردته
(3)
.
فإن قلت: رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال النّاس وجرحهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكفّ شره فماذا تقولون؟ .
قلت: إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا سبيل إلى قتله إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شرّه فليست هذه المصلحة ضرورية.
فإن قلت: فلو كان زمان فتنة لم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبديل الولايات على قرب فليس في حبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته.
قلت: هذا رجم ظنّ وحكم بالوهم فربما لا يفلت ولا تتبدل الولاية
= وهي واقعة وراء نهر سيحون. ينظر ترجمته في: طبقات الفقهاء: ص 112، والنجوم الزاهرة: 3/ 296، ومعجم البلدان: ص 233.
(1)
ينظر: الوسيط للغزالي: 6/ 428، والعزيز شرح الوجيز: 11/ 115.
(2)
صرح باسمه الرافعي في العزيز أبو إسحاق الإسفراييني، وهو من يطلق عليه الأستاذ عند الشافعية. ينظر: العزيز شرح الوجيز: 11/ 115، والوسيط للغزالي: 6/ 428.
(3)
الوسيط للغزالي: 6/ 428
والقتل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه
(1)
.
فإن قلت: إذا توقعنا من الساعي في الأرض بالفساد بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظنّ بما عرف من طبيعته وعادته المجربة
(2)
طول عمره.
قلت: قال الغزالي لا يبعد أنْ يؤدي اجتهاد مجتهد إليه. قال بل هو أولى من التترس فإنّ هذا ظهرت جرائمه الموجبة للعقوبة فكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبعه وسجيته
(3)
.
ونحن نقول فيما ذكره الغزالي نظر بل الفرق بين هذا ومسألة التترس أنّ التترس دعت الضرورة إلى المبادرة بحيث أنا لو لم نبادر في الوقت الحاضر لاستأصلونا.
وأمّا هذا فجاز أنْ يهلكه الله تعالى قبل أنْ يصدر منه ما يتوقع في المستقبل ولا يتصور قطع في
(4)
ذلك.
فإن قلت: كيف يجوز هذا في مسألة التترس وها هنا على ما ذكر الغزالي وقد قدمتم في كتاب القياس أنّ المصلحة إذا علم إلغاؤها بمخالفة النّص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملك المجامع في نهار رمضان
(5)
(1)
هذه المناظرة بكاملها من المستصفى: 1/ 300 - 301.
(2)
المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظنّ بما عرف من طبيعته وعادته المجربة) ساقط من (غ).
(3)
ينظر المستصفى: 1/ 301.
(4)
(في) ليس في (ت).
(5)
ينظر: المستصفى: 1/ 285، والاعتصام: 3/ 97.
وهذا يخالف قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ}
(1)
.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}
(2)
فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فليخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية
(3)
.
قلت: جعل الغزالي المسألة في محل الاجتهاد قال: ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمسألة السفينة فإنه يلزم منه قتل ثلث الأمّة في استصلاح ثلثيها ترجيحا بالكثرة إذ لا خلاف في أنّ كافرًا لو قصد قتل عدد مخصوص كعشرة مثلا وتترسم بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم حكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا إلى أكل أحدهم. وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن الكلي الذي لا يحصره حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد.
ولهذا لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حلّ له النكاح ولا يحلّ له إذا اشتبهت بعشرة أو عشرين. ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم أو ذراريهم قتلناهم وإنْ كان التحريم عامًا لكن تخصيصه بغير هذه الصورة، بل أبلغ من هذه الصورة أنَّه لو لم تكن المصلحة ضرورية. وإنما كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم لجاز رميهم على أحد قولي الشافعي رحمه الله لئلا يتخذ ذلك ذريعة للجهاد، فإذا خصص العموم بما
(1)
سورة النساء: من الآية 93.
(2)
سورة الإسراء من الآية 33.
(3)
ينظر: المستصفى: 1/ 302.
ذكرناه كذلك ها هنا التخصيص ممكن.
وقول القائل: هذا سفك دم معصوم، يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها. ونحن نعلم أنّ الشرع يؤثر حفظ الكلي على الجزئي وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطدام الكفار أهمّ في مقصود الشرع من دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من جهة الشرع
(1)
والمقطوع به
(2)
لا يحتاج إلى شهادة أصل.
فإن قلت: فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا؟
قلت: لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود.
أما إذا خلت الأيدي ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر أو اشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة
(3)
في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أنْ يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثمّ
(4)
إنْ رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنَّه إذا تعارض ضرران دفع أشدهما وما يؤديه كلّ واحد منهم قليل
(1)
(من دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من جهة الشرع) ساقط من (ت).
(2)
في (ت): والمقصود لا يحتاج.
(3)
أهل العرامة بفتح العين: أهل البطر والشر والفساد. لسان العرب: 12/ 395 مادة "عرم".
(4)
(ثمّ) ليس في (ت).
بالإضافة إلى ما يخاطر به من
(1)
نفسه وماله، لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة بحفظ نظام الأمور وبقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكلّ ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة التترس لكن هذا تصرف في الأموال، والأموال بذلة يحوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهمّ منها. وإنما الخطر سفك دم معصوم من غير ذنب
(2)
.
فإن قلت: أجرة الجلاد في الحدود والقاطع في السرقة إذا قلنا بأحد الوجهين
(3)
، وهو إنّما تجب من بيت المال لا على المجلود والسارق المقطوع ولم يكن في بيت المال ما يمكن صرفه إليه فهل للإمام أخذها من الأغنياء؟ .
قلت: إنما يأخذ من الأغنياء إذا لم تكن مندوحة
(4)
عن ذلك وهنا
(1)
في (ت): في نفسه.
(2)
ينظر: المستصفى: 1/ 304 - 305.
(3)
قال الرافعي في شرحه العزيز: 10/ 268: "ونقل جماعة من الأئمة منهم المسعودي والفوراني تولد الخلاف بين الصورتين من ذمَّتين نقلوهما عن الشافعي رضي الله عنه قالوا: نصّ في القصاص على أنّ الأجرة على المقطوع والمقتول، وفي الحدود على أنّ الأجرة على بيت المال، فقررهما مقررون، وتصرف فيهما آخرون بالنقل والتخريج وأثبتوا فيهما قولين: أحدهما الوجوب على الجاني، والثاني أنه تجب في القصاص على المستحق، وفي الحدود فى بيت المال".
(4)
مندوحة: من الندح وهو الموضع المتسع من الأرض والجمع أنداح مثل قفل وأقفال ومنه يقال عنه مندوحة بفتح الميم أي سعة وفسحة. (المصباح المنير: ص 591 "ندح").
مندوحة فليستقرض على بيت المال إلى أن يجد سعة فإن لم يجد من يقرضه فعل ذلك على أنّ القاضي الروياني جوز أنْ تستأجر بأجرة مؤجلة أو من يستسخر من يقوم به على ما يراه
(1)
.
قال الرافعي
(2)
: "والاستئجار قريب والتسخير بعيد وبتقدير أنْ يجوز ذلك فيجوز أن يأخذ الأجرة ممن يراه من الأغنياء ويستأجر به"
(3)
.
فإن قلت: فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها؟ وكذلك
(4)
إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين وأحدهما سابق واستبهم الأمر ووقع اليأس عن البيان هل ينفسخ النكاح بالمصلحة أم تبقى المرأة محبوسة طول العمر عن الأزواج ومحرومة في الصورة الثانية عن
(1)
ينظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي: 10/ 268.
(2)
والرافعي: هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن أبو القاسم الرافعي القزويني شيخ الشافعية عالم العرب والعجم، كان متضلعًا من علوم الشريعة تفسيرًا وحديثًا وأصولًا، تفقه على والده وعلى أبي الفتح بن البطي، وأبي سليمان الزبيري، وأبي العلاء الهمذاني، وعبد الله بن أبي الفتوح، وتتلمذ عليه كثيرون منهم: أحمد بن خليل المهلبي، والمنذري. ومن مصنفاته: العزيز شرح الوجير، وشرح المسند للشافعي، والمحمود في الفقه، والإيجاز في أخطار الحجاز، والأمالي الشارحة على مفردات الفاتحة، والمحرر في فروع الشافعية، والتدوين في أخبار قزوين. ولد سنة 555 هـ وتوفي رحمه الله في ذي القعدة سنة 623 هـ.
ينظر: طبقات السبكي: 8/ 281، وطبقات ابن هداية ص 218، وطبقات ابن قاضي شهبة: 2/ 75، وشذرات الذهب: 3/ 108، طبقات الإسنوى: 1/ 281.
(3)
ينظر: المصدر نفسه.
(4)
(وكذلك) ساقط من (ت).
زوجها المالك في علم الله؟ وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها ما شاء الله وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة عن النّكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي بتربصها أربع سنين؟ فكل ذلك مصلحة ودفع ضرر، ونحن نعلم أنّ دفع الضرر مقصود شرعًا
(1)
.
قلت: المسألتان الأوليان
(2)
مختلف فيهما، فهما في محل الاجتهاد فقد قال في القديم تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين
(3)
ولكن الجديد هو الصحيح
(4)
فإنه يبعد الحكم بموته من غير بينة إذ لاندارس الأخبار أسباب سوى الموت لا سيما في حق الخَامِل الذِكْر النازل القدر، وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من إعسار وجُبِّ وعنّة وإذا كانت النفقة في دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضر لا يؤثر فكذا في الغيبة.
لا يقال: سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها؛ لأنّه معارض برعاية جانبه وفي تسليم زوجته إلى غيره بغيبته ولعله محبوس أو غير ذلك إضرارا به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها
(1)
هذه المسائل ذكرها الغزالي في المستصفى: 1/ 307.
(2)
أي مسألة المفقود زوجها، ومسألة الوليين لا يعلم أيهما سبق الآخر.
(3)
وعن القديم، وبه قال مالك وأحمد: أنها تتربص أربع سنين، وتعتد عدة الوفاة، ثمّ تنكح، ويروى ذلك عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم. أفاده الرافعي في العزيز شرح الوجيز: 9/ 484، وينظر: الوسيط 6/ 148.
(4)
والجديد: أنه لا يجوز للمرأة أن تنكح زوجًا آخر؛ حتى يتيقن موته أو طلاقه، وتعتد. ينظر: العزيز شرح الوجيز: 9/ 484. والوسيط 6/ 148.
ممكن
(1)
.
وأما مسألة الوليين فإن علم سبق أحدهما ولم يعلم عينه فباطلان على المذهب المنصوص وإن سبق معين ثم خفي فالمذهب الوقف حتى يتبين وقيل فيه قولان فلو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد لم يكن حكمًا بمجرد مصلحة بل معتضدًا بأصل معين
(2)
.
وأما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي. وقد أوجب الله تعالى التربص بالأقراء إلا على اللائي يئسن وليس هذه منهن وما من لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض فهذا عذر نادر لا يسلطنا على تخصيص النّص
(3)
.
قال الغزالي: وكان لا يبعد عندي لو اكتفى بأقصى مدّة الحمل وهو أربع سنين لكن لما وجبت العدّة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد
(4)
.
قلت: وقد قال في القديم فيما إذا انقطع دمها لا لعلة تعرف أنها تتربص بتسعة
(5)
أشهر. وفي قول أربع سنين وفي قول مخرّج ستة أشهر، ثمّ تنتقل إلى الأشهر
(6)
.
(1)
ينظر: المستصفى للغزالي: 1/ 308.
(2)
ينظر: الوسيط: 5/ 87 - 88، المستصفى: 1/ 309 - 310
(3)
ينظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي: 1/ 334.
(4)
ينظر: المستصفى للغزالي: 1/ 310.
(5)
في سائر النسخ سبعة ما عدا (غ) وهو الصحيح.
(6)
ينظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي: 9/ 438 - 439.
فإن قلت: فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح فلم لم تلحقوا هذا الأصل بالكتاب والسنة والإجماع
(1)
والقياس وتجعلوه أصلًا خامسًا.
قلت: من ظنّ أنَّه أصل خامس أخطأ؛ لأنّا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع وهي معروفة بالكتاب والسنّة والإجماع، فكلّ مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودًا بهذه الأدلة فليس هذا خارجًا عن هذه الأصول لكنّه لا يسمى قياسًا بل مصلحة مرسلة، إذ القياس له أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة من الكتاب والسنّة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات فتسمى لذلك مصلحة مرسلة
(2)
.
قال الغزالي: وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها بل نقطع بكونها حجة، وحيث جاء خلاف، فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يرجح الأقوى.
ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحًا لكلمة الكفر والشرب لأنَّ الحذر من سفك دم أشدّ من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنَّه في مثل محذور الإكراه، فإذن منشأ الخلاف في مسألة التترس الترجيح؛ إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ولا رجح الجزئي على الكلي في قطع اليد المتآكلة، وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة التترس؟ فيه
(1)
(بالمصالح فلم لم تلحقوا هذا الأصل بالكتاب والسنة والإجماع) ساقط في (غ).
(2)
ينظر: المستصفى للغزالي: 1/ 310 - 311.
خلاف.
فإن قلت: لا ننكر أنّ مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أنّ هذه مخالفة.
قلت: قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود
(1)
وفي هذا استئصال الإسلام واستعلاء الكفر.
فإن قلت فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود.
قلت: اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي.
فإن قلت: لا نسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكليّ، فإنّ ذلك لا يعرف إلا بنص أو قياس.
قلت: عرف ذلك لا بنص واحد بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها الشك في أنّ حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهمّ في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود إليه الكفار بالقتل.
وهذا كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بحقارة المال في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدماء.
وكما قلنا في مسألة السفينة: إنّه لو كان فيها مال لوجب إلقاؤه؛ لأنَّ المفسدة في فواته أخف من المفسدة في
(2)
فوات أرواح
(1)
(مقصود) ساقط من (ت).
(2)
(فواته أخف من المفسدة في) ساقط من (ت).
النّاس
(1)
.
فإن قلت: لو علمنا أنّهم لا يقتلون الترس بعد استئصال الإسلام فما ترون؟ .
قلت: الذي لاح من كلام الغزالي أولًا وآخرًا أنّ الجواز إنما هو حالة العلم باستئصال الأسارى أيضًا، ولكن كلام الأصحاب في حكاية الخلاف مطلق.
والذي يظهر لي إطلاق الجواز فإن حفظ الجَمْعِ العظيم الخارج عن حدِّ الحصر مع خطة الدّين وإعلاءِ كلمة الإسلام أهمّ في مقاصد الشرع من حفظ عشرة أنفس مثلا يصيرون مستأسرين تحت ذلّ الكفر.
فإن قلت: فهلا فهمتم أنّ حفظ الكثير أهمّ من حفظ القليل في مسألة السفينة والإكراه والمخمصة.
قلت: لأنّ الإجماع قام وهو لا يصادم، على أنَّه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنَّه لا يحل لمسلم أكل مسلم في المخمصة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة بمجردها أما ترجيح الكلي فمعلوم إمّا على القطع أو بظن قريب منه لم يقم دليل على خلافه
(2)
.
فقد علمت بما أوردناه وغالبه من كلام الغزالي
(3)
أنَّه يجوز اتباع
(1)
ينظر: المستصفى للغزالي: 1/ 311 - 314.
(2)
المصدر نفسه: 1/ 315.
(3)
بدأ النقل عن مستصفى الغزالي من ص 290 - 315. وقد تخللت عبارة السبكي =
المصالح بالشروط التي سردناها، وبان لك أنّ الاستصلاح ليس أصلًا
(1)
خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع. كما أنّ من استحسن فقد شرع.
فلنلتفت إلى الكلام مع إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه حيث اعتبر جنس المصالح مطلقًا، وقد نقل ناقلون هذا عن الشافعي رحمه الله ولم يصحّ عنه، والذي نقله عنه إمام الحرمين أنَّه لا يستجيز التنائي والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارّة في الشريعة.
واختار إمام الحرمين ذلك أو نحوًا منه وإذا حقق التفصيل الذي ذكرناه عن الغزالي لم يكن بعيدًا من هذا.
إذا عرفت هذا فنقول: قال إمام الحرمين: الذي ننكره من مذهب مالك ترك رعاية ذلك وجريانه على استرساله في الاستصواب من غير اقتصاد، ونحن نعرض على مالك واقعة وقعت نادرة لا يعهد مثلها، ونقول له: لو رأى ذو نظر فيها جدع أنف أو اصطلام شفة وأبدى رأيًا لا تنكره العقول صائرًا إلى أنّ العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا؛ لأنك تجوز لأصحاب الإيالات القتل
(2)
في التّهم العظيمة حتى نقل عنك الثقات أنك قلت: قتل ثلث الأمّة في استبقاء ثلثيها.
= بين الأسطر ويعبر بقلت: بعد فإن قيل وهو من باب الزيادة في الإيضاح والشرح.
(1)
في (غ): اصلاحًا.
(2)
في خ: العقل.
ثمّ إنّا نقول له ثانيا: أيجوز التعلق
(1)
بكل رأي فإنْ أبى ذلك لم نجد مرجعا يفرّ عنه إلا ما ارتضاه الشافعي من اعتبار المصالح المشبهة بما علم اعتباره، وإن لم يذكر ضابطًا وصرح بأنّ ما لا نص فيه
(2)
ولا أصل له فهو مردود إلا الرأي واستصواب ذوي العقول، فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط كما ذكر القاضي أبو بكر
(3)
حيث قال: المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع فإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط ويتسع الأمر ويرجع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء أثر حكمة الحكماء ويصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء حاش لله ثمّ
(4)
لا ينسب ما يرونه إلى رِبقة الشريعة وهذه ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أنّ كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عمّا درج عليه الأولون
(5)
.
وألزم إمام الحرمين مالكًا رضي الله عنه أنْ قال بالتمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة بأن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه الإيالات إذا راجع
(6)
المفتيين في واقعة فأعلموه أنها ليست منصوصة ولا أصل يضاهيها بأن
(1)
في (غ): التعليق.
(2)
(فيه) ليس في (ت).
(3)
ينظر: البرهان: 2/ 1119.
(4)
(ثم) ليس في (غ).
(5)
ينظر: البرهان: 1/ 1115.
(6)
في جميع النسخ: (رجع)، والمثبت من البرهان: 2/ 1120.
يسوغ له والحالة هذه أنْ يعمل بالصواب عنده والأليق بطرق الاستصلاح، قال: وهذا مركب صعب مساقه ردّ الأمر إلى عقول العقلاء واحتكام
(1)
الحكماء ونحن على قطع نعلم أنّ الأمر بخلاف ذلك، ثمّ وجوه الرأي تختلف بالبقاع والأصقاع والأوقات وعقول العقلاء تتباين فيلزم اختلاف الأحكام باختلاف كل ذلك
(2)
.
وهذا لا يلزم فيما له أصل وتقريب، قال: ولو ساغ هذا لاتخذ العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالات معتبرهم وهذا يجر
(3)
خبالًا لا استقلال
(4)
به.
وهذه الجملة التي أوردناها مجموعة من كلام إمام الحرمين في البرهان
(5)
، وهذا الإلزام الذي ذكره أخيرًا لا يلزم مالكًا لأنه يشترط في اتباع المصلحة أنْ لا يناقض أمرًا مفهومًا من الشريعة، والعامي من أين يعلم هذا؟ وما المانع من مناقضة ما يراه من الرأي لقواعد الشريعة؟
وقد احتج مالك بوجهين
(6)
: أشار إليهما في الكتاب.
(1)
في (ت): وأحكام.
(2)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 1120.
(3)
يجر، في (ت)، (غ): يخرجنا، والمثبت من (ص) وينظر: البرهان لإمام الحرمين: 2/ 1121.
(4)
لا استقلال في (ت)، (غ): لاستقلال.
(5)
(في البرهان) ليس في (ت).
(6)
يرى المالكية رحمهم الله العمل بالمصلحة المرسلة حتى أن مالكًا جوز ضرب المتهم بالسرقة ليقر. فجوز الضرب وهو الحكم، وتوقع الاقرار هو المصلحة المرسلة، وإنما =
أحدهما: أنَّ الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام واعتبار جنس المصالح يوجب ظنّ اعتبار
(1)
هذه المصلحة لكونها من
(2)
جملة أفرادها والعمل بالظنّ واجب
(3)
.
والثاني أنّ المتتبع لأحوال الصحابة رضوان الله عليهم يقطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح في الوقائع ولا يبحثون عن وجود أمر آخر وراءها فكان ذلك منهم إجماعًا على وجوب اعتبار المصالح كيف كانت
(4)
.
= جوز المالكية العمل بالمصلحة لعمل الصحابة رضي الله عنهم بها، فإن المقطوع به أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدل الدليل على إلغاء تلك المصلحة، ككتابتهم للمصاحف، وجمع الناس على مصحف واحد خوف الاختلاف، وحرق المصاحف أي جواز ذلك هو الحكم، والمصلحة المبيحة له هي الحفظ وخوف الاختلاف، وكتولية أبي بكر الصديق الخلافة لعمر الفاروق لكونه أحق بها، وكهدم البيت المجاور للمسجد وقفا أو غيره لأجل توسعة المسجد إذا ضاق بأهله، وكعمل السكة للمسلمين عملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتسهل على الناس المعاملة، وكتجديد عثمان ذي النورين رضي الله عنه للأذان الثاني في الوضع يوم الجمعة وهو الأول في الزمن أحدثه بالزوراء دار له قرب المسجد لكثرة الناس، وكاتخاذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه السجن لمعاقبة أهل الجرائم، ولم يكن كل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ينظر: فتح الودود على مراقي السعود: ص 308 - 309، ونيل السول على مرتقى الوصول: ص 308 - 309.
(1)
في (غ): اعتبار ظن.
(2)
(من) ليس في (ت).
(3)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 222، ونهاية السول للإسنوي: 3/ 137.
(4)
ينظر: المصدران نفسهما.
ولم يتعرض المصنف للجواب عن هاتين الشبهتين
(1)
.
ونحن نقول في الجواب:
عن الأولى: ليس اعتبار المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها الشارع في كونها مصالح بأولى من إلغائها لمشاركتها للمصالح التي ألغاها الشارع في ذلك فيلزم اعتبارها وإلغاؤها.
وعن الثانية: لا نسلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمجرد معرفة المصالح وسند
(2)
المنع: أنَّه لو كان كذلك لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح؛ فدلّ على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع نوعه أو جنسه القريب فإنّ الشارع لم يعتبر المصالح مطلقًا بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها إذ غاية العقل أنْ يحكم بأنّ جلب المصلحة مطلوب لكن لا يستقل بإدراك الطريق الخاص لكيفيته فلا بد من الاطلاع على تلك الطريق بدليل شرعي مرشد إلى المقصد فقبله لا يمكن اعتبار المصالح
(3)
.
فإن قيل: فبأي طريق أبلغ الصحابة رضي الله عنهم حدّ الشرب إلى ثمانين فإن كان مقدرًا فقد زادوا بالمصلحة وإن كان تعزيرًا غير مقدّر فلِمَ افتقر إلى التشبيه بحدّ القذف وكيف بلغ به مبلغ الحدّ؟ .
(1)
وقد تبع في ذلك الإمام في عدم الجواب على هذين الدليلين. أفاده الإسنوي في نهاية السول: 3/ 137.
(2)
في (ت): وسببه.
(3)
ينظر الجوابان في نهاية السول للإسنوي: 3/ 137.