الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توقيعه ونثره في البديهة:
كتب مع الحمائم إلى ولده الرشيد عقب الفراغ من وقعة الزّلّاقة:
يا بني، ومن أبقاه الله وسلّمه، ووقاه الأسواء وعصمه، وأسبغ عليه آلاءه وأنعمه، كتبته، وقد أعزّ الله الدين، وأظهر المسلمين، وفتح لهم على يدي مستدعيات الفتح المبين، بما يسّره الله في أمسه وسناه، وقدّره سبحانه وقضاه، من هزيمة أدفونش ابن فردلند لعنه الله وأصلاه، وإن كان طاح للجحيم، ولا أعدمه وإن كان أهل العيش الذّميم، كما قنعه الخزي العظيم. وأتى القتل على أكثر رجاله وحماته، واتصل النّهب سائر اليوم، والليلة المتصلة به، جميع محلّاته، وجمع من رؤوسهم بين يديّ، من مشهوري رجالهم، ومذكوري أبطالهم، ولم يختر منهم إلّا من شهر وقرّب، وامتلأت الأيدي ممّا سلب ونهب. والذي لا مرية فيه، أن الناجي منهم قليل، والمفلت من سيوف الجزع والبعد قتيل، ولم يصبني بفضل الله إلّا جرح أشوى، وحسن الحال عندنا والله وزكى، ولا يشغل بذلك بال، ولا يتوهم غير الحال التي أشرت إليها حال، والأدفونش بن فرذلاند، إن لم يصبح تحت السيوف فسيموت لا محالة كمدا، وإن كان لم تعلقه أسراد الحمام فغدا، فإن برأسه طمرة ولحام. فإذا ورد كتابي هذا، فمر بجمع الخاص والعام، من أهل إشبيلية، وجيرانها الأقربين، وأصفيائنا المحبين، في المسجد الجامع، أعزّهم الله، وليقرأ عليهم فيه، ليأخذوا من المسرّة بأنصبائهم، ويضيفوا شكرا لله إلى صالح دعائهم، والحمد لله على ما صنع حقّ حمده، جلّ المزيد لأمر حين، إلّا من عنده والسلام.
تلطّفه وظرفه: قال أبو بكر الداني: سألني في بعض الأيام عند قدومي عليه بأغمات، قاضيا حقّ نعمته، مستكثرا من زيارته، مستمتعا برائق أدبه، على حال محنته، عن كتبي، فأعلمته بذهابها في نهب حضرته. وكنت قد جلبت في سفرتي تلك، الأشعار الستة، بشرح الأستاذ أبي الحجاج الشّنتمري الأعلم، وكانت مستعارة، فكتمتها عنه. ووشى إليه أحد الأصحاب، فخجل بكرمه وحسن شيمته، من الأخذ معي في ذكر ما كتمته، فاستطرد إلى ذلك بغرض نبيل، ونحا فيه نحوا، يعرب عن الشّرف الأصيل، وأملى عليّ، في جملة ما كان يمليه:[الكامل]
وكواكب لم أدر قبل وجوهها
…
أنّ البدور تدور في الأزرار
نادمتها في جنح ليل دامس
…
فأعرنه مثلا من الأنوار
في وسط روضة نرجس كعيونها
…
ما أشبه النّوار بالنّوار
فإذا تواصفنا الحديث حسبتني
…
ألهو بملتقط لدرّ نثار
فإذا اكتحلت برقّ ثغر باسم
…
سكبت جفوني أغزر الأمطار
حذر الملام وخيفة من جفوة
…
تذر الصدور على شفير هار
ترك الجواري الآنسات مذاهبي
…
وسوّلها ظفر بريشة الأشعار
فلم أتمالك عند ذلك ضحكا، وعلمت أن الأمر قد سرّي إليه، فأعلمته قصّتها، فبسط العذر بفضله، وتأوّل الأمر، وقسّم الأشعار، على ثلاثة من بنيه؛ ذوي خطّ رائع، ونقل حسن، وأدب بارع، أخذوا في نسخها، وصرفوا الأصل لأجل قريب.
محنته: ولم يلبث أمير اللمتونيين بعد جوازه إلى الأندلس، وظهوره على طائفة الروم، أن فسد ما بينه وبين رؤساء الطوائف بالأندلس، وعزم على خلعهم، فأجاز من سبتة العساكر، وسرب الأمداد. وأخذ المعتمد بالعزم يحصّن حصونه، وأودع المعاقل عدّته، وقسّم على مظان الامتناع ولده، وصمدت الجموع صمدة بنيه، ونازل الأمير سير إشبيلية، دار المعتمد، وحضرة ملكه، ونازل الأمير محمد ابن الحاج قرطبة، وبها المأمون، ونزل جرور من قواده رندة، وبها الرّاضي ابن المعتمد. واستمرّ الأمر، واتصلت المحاصرة، ووقعت أمور يضيق الكتاب على استقصائها. فدخلت قرطبة في جمادى الآخرة عام أربعة وثمانين وأربعمائة، وقتل الراضي، وجلب رأسه فطيف به بمرأى من أبيه. وكان دخول إشبيلية على المعتمد، دخول القهر والغلبة، يوم الأحد لعشر بقين من رجب، وشملت الغارة، واقتحمت الدّور، وخرج ابن عباد في شكّته «1» ، وابنه مالك في أمّته معهما، فقتل مالك الملقب بفخر الدولة ورهقت الخيل، وكثر، فدخل القصر ملقيا بيده. ولما جنّ الليل، وجّه ابنه الأكبر الرشيد إلى الأمير، فحجب عنه، ووكّل بعض خدمه به، وعاد إلى المعتمد فأخبره بالإعراض عنه، فأيقن بالهلكة، وودّع أهله، وعلا البكاء، وكثر الصّراخ، وخرج هو وابنه، فأنزلا في خباء حصين، ورقبا بالحرس، وأخرج الحرم من قصره، وضمّ ما اشتمل عليه، وأمر بالكتب إلى ولده برندة ففعل. ولمّا نزل، واستوصلت ذخيرته، سلا، وأجيز المعتمد البحر، ومن معه إلى طنجة، فاستقرّ بها في شعبان من العام، وفي هول البحر عليه في هذا الحال، يقول رحمه الله:[البسيط]
لم أنس والموت يدنيني ويقصيني
…
والموت كأنّ المنى يأتيني
أبصرت هولا لو أنّ الدهر أبصره
…
لما خوّفا لأمر ليس بالدّون
قد كنت ضانّا بنفس لا أجود بها
…
فبعتها باضطرار بيع مغبون
كم ليلة بتّ مطويا على حرق
…
في عسر من عيون الدبر في العين
فتلك أحسن أم ظللت به
…
في ظلّ عزّة سلطان وتمكين؟
ولم يكن والذي تعنو الوجوه له
…
عرضي مهانا ولا مالي بمخزون
وكم خلوت من الهيجا بمعترك
…
والحرب ترفل في أثوابها الجون
يا ربّ إن لم تدع حالا أسرّ به
…
فهب لعبدك أجرا غير ممنون
وجرى على بناته شيء يوم خروجهن، واضطرتهن الضيقة إلى معيشتهنّ من غزل أيديهن، وجرت عليه محن طال لها شجنه وأقعده قيده، إلى أن نقل إلى أغمات وريكة، وحلّ عنه الاعتقال، وأجري عليه رزقه، تبلّغ به لمدة من أعوام أربعة، واستنقذه حمامه، رحمة الله عليه.
وصوله إلى غرناطة: قال ابن الصّيرفي: وقد أجرى ذكر تملّك يوسف بن تاشفين غرناطة، وخلع أميرها عبد الله بن بلقّين حفيد باديس، يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب عام ثلاثة وثمانين «1» ، ولحق ابن عباد «2» وحليفه ابن مسلمة «3» بخيل ورجل ورماة وعدد، وحلّ ذلك من ابن عباد تضمّنا لمسرّة أمير المسلمين، وتحقّقا بموالاته، فدخلا عليه، وهنّئاه، وقد تحكّمت في نفس ابن عباد الطماعيّة في إسلام غرناطة إلى ابنه، بعد استصفاء نعمة صاحبها، عوضا عن الجزيرة الخضراء، وكان قد أشخصه معه، فعرّض بغرضه، فأعرض أمير المسلمين عن الجميع إعراضا، كانت منية كل منهما التخلّص من يده، والرجوع إلى بلده، فأعمل ابن عباد الحيلة، فكتب، يزعم أنه وردت عليه تحثّه من إشبيلية في اللحاق أنباء مهمة طرقت بتحرك العدو، واستأذن بها في الصّدور، فأخذ له ولحليفه ابن مسلمة، فانتهزا الفرصة، وابتدرا الرجعة، ولحق كل بموضعه يظنّ أنه ملك رئاسة أمره.
مولده: ولد المعتمد على الله بمدينة باجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وولّي سنة إحدى وستين. وخلع سنة أربع وثمانين.
وفاته: كانت وفاة المعتمد على الله بأغمات في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، بعد أن تقدمت وفاته وفاة الحرة اعتماد، وجزع عليها جزعا أقرب سرعة لحاقه بها. ولما أحسّ بالمنية رثى نفسه بهذه الأبيات وأمر أن تكتب على قبره «1» :
[البسيط]
قبر الغريب سقاك الرّائح الغادي
…
حقّا ظفرت بأشلاء ابن عبّاد
بالحلم بالعلم بالنّعمى إذا اتصلت
…
بالخصب إن أجدبوا بالرّيّ للصادي
بالطّاعن الضارب الرّامي إذا اقتتلوا
…
بالموت أحمر بالضّرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم
…
بالبدر في ظلم بالصّدر في النادي
نعم هو الحقّ فاجاني «2» على قدر
…
من السماء ووافاني «3» لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النّعش أعلمه
…
أنّ الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم
…
روّاك كلّ قطوب البرق رعّاد
يبكي أخاه الذي غيّبت وابله
…
تحت الصّفيح بدمع رائح غادي
حتى يجودك دمع الطّلّ منهمرا
…
من أعين الزّهر لم تبخل بإسعاد
فلا «4» تزل صلوات الله نازلة «5»
…
على دفينك لا تحصى بتعداد
بعض ما رثي به: قال ابن الصّيرفي: وخالف في وفاة المعتمد، فقال:
كانت في ذي حجة. فلمّا انفصل الناس من صلاة العيد، حفّ بقبره ملأ، يتوجعون ويترحمون عليه، وأقبل ابن عبد الصمد، فوقف على قبره وأنشد «6» :
[الكامل]
ملك الملوك، أسامع فأنادي
…
أم قد عدتك عن السّماع عوادي؟
لمّا خلت «7» منك القصور فلم «8» تكن
…
فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا
…
وتخذت «9» قبرك موضع الإنشاد