الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إشارة إلى قوله تعالى في الشهداء: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
«1» ، وذلك ضحى يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد ابن ناصر بن حيّون بن القاسم بن الحسن بن محمد ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
«2»
حسبما نقل من خطه:
أوّليّته: معروفة، كان وليته مثله.
حاله: هذا «3» الفاضل جملة من جمل الكمال، غريب في الوقار والحصافة، وبلوغ المدى، واستولى على الأمم حلما وأناة، وبعدا عن الريب، وتمسكا بعرى النزاهة، واستمساكا مع الاسترسال، وانقباضا مع المداخلة، معتدل الطريقة، حسن المداراة، مالكا أزمّة الهوى، شديد الشفقة، كثير المواساة، مغار حبل الصبر، جميل العشرة، كثيف ستر الحيا، قوي النفس، رابط الجأش، رقيق الحاشية، ممتع المجالسة، متوقد الذهن، أصيل الإدراك، بارعا بأعمال المشيخة، إلى جلال المنتمى، وكرم المنصب ونزاهة النفس، وملاحة الشّيبة، وحمل راية البلاغة، والإعلام في ميادين البيان، رحلة الوقت في التبريز بعلوم اللسان، حائز الخصل «4» والفضل في ميدانها، غريبة «5» غزيرة الحفظ، مقنعة الشّاهد «6» ، مستبحرة النظر، أصيلة التوجيه، بريّة عن النّوك والغفلة، مرهفة باللغة والغريب والخبر والتاريخ والبيان، وصناعة البديع، وميزان العروض، وعلم القافية، وتقدّما في الفقه، ودرسا له، وبراعة في الأحكام، وإتقان التّدريس، والصبر، والدّؤوب عليه، بارع التصنيف، حاضر الذهن، فصيح اللسان، مفخرة من مفاخر أهل بيته.
ولايته: قدم على الحضرة في دولة الخامس من ملوك بني نصر «1» ، كما استجمع شبابه، يفهق علما باللسان، ومعرفة بمواقع البيان، وينطق بالعذب الزّلال من الشعر، فسهّل له كنف البر، ونظم في قلادة كتاب الإنشاء، وهو إذ ذاك ثمينة الخزرات، محكمة الرّصف، فشاع فضله، وذاع رجله. ثم تقدم، فنقل من طور الحكم، إلى أن قلّد الكتابة والقضاء والخطابة بالحاضرة، بعد ولاية غيرها التي أعقبها ولاية مالقة في الرابع من شهر ربيع الآخر عام سبعة وثلاثين وسبعمائة. فاضطلع بالأحكام، وطبّق مفصل الفضل، ماضي الصّريمة، وحيّ الإجهار، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، قليل النّاقد، مطعم التوفيق، يصدع في مواقف الخطب، بكل بليغ من القول، مما يريق ديباجته، ويشفّ صقاله، وتبرأ من كلال الخطباء جوانبه وأطرافه. واستعمل في السّفارة للعدوّ ناجح المسعى، ميمون النّقيبة، جزيل الحياء والكرامة، إلى أن عزل عن القضاء في شعبان من عام سبعة وأربعين وسبعمائة، من غير زلّة تخفض، ولا هنة تؤثر، فتحيّز إلى التّحليق لتدريس العلم، وتفرّغ لإقراء العربية والفقه، ولم ينشب أميره المنطوي على الهاجس، المغري بمثله، أن قدّمه قاضيا بوادي آش، بنت حضرته، معزّزة بسندها الكبير الخطّة، فانتقل إليه بجملته. وكانت بينه وبين شيخنا أبي الحسن بن الجيّاب، صداقة صادقة، ومودة مستحكمة، فجرت بينهما أثناء هذه النّقلة، بدائع، منها قوله، يرقب «2» خطّة القضاء التي اخترعها، ويوليها خطة الملامة «3» :
[السريع]
لا مرحبا بالناشز الفارك
…
إن جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها
…
ما برحت تعشو إلى نارك
أقسمت بالنّور المبين الذي
…
منه بدت مشكاة أنوارك
ومظهر الحكم الحكيم الذي
…
يتلو عليه «4» طيب أخبارك
ما لقيت مثلك كفؤا لها
…
ولا أوت أكرم من دارك «5»
ثم أعيد إلى القضاء بالحضرة، فوليها، واستمرت حاله وولايته على متقدّم سمته من الفضل والنّزاهة والمراجعة فيما يأنف فيه من الخروج عن الجادّة، إلى أن هلك السلطان «1» مستقضيه، مأموما به، مقتديا بسجدته، يوم عيد الفطر، خمسة وخمسين وسبعمائة. وولي الأمر ولده «2» الأسعد، فجدّد ولايته، وأكّد تجلّته، ورفع رتبته، واستدعى مجالسته.
مشيخته: قرأ «3» ببلده سبتة على أبيه الشريف الطاهر، نسيج وحده في القيام، وعلى أبي عبد الله بن هاني وبه جلّ انتفاعه، وعليه جلّ استفادته. وأخذ عن الإمام شيخ المشيخة أبي إسحاق الغافقي. وروى عن الخطيب أبي عبد الله الغماريّ، والخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والفقيه الصالح أبي عبد الله بن حريث. وأخذ عن الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط وغيره.
محنته: دارت عليه يوم مهلك السلطان المذكور رحى الوقيعة، فعركته بالثّقال، وتخلّص من شرارها هولا، لتطارح الأمير المتوثّب أمام ألمريّة عليه، خاتما في السّجدة، ودرس الحماة إياه عند الدّجلة، من غير التفات لمحل الوطأة، ولا افتقاد لمحل صلاة تلك الأمّة، فغشيه من الأرجل، رجل الرّبى كثيرة، والتفّ عليه مرسل طيلسانه، سادّا مجرى النّفس إلى قلبه، فعالج الحمام وقتا، إلى أن نفّس الله عنه، فاستقلّ من الرّدى، وانتبذ من مطّرح ذلك الوغى، وبودر بالفصاد، وقد أشفى، فكانت عثرة لقيت لما ومتاعا، فسمح له المدى آخر من يوثق به، من محل البثّ، ومودعات السّرّ من حظيّات الملك، أن السلطان عرض عليه قبل وفاته في عالم الحلم، كونه في محراب مسجده، مع قاضيه المترجم به، وقد أقدم عليه كلب، أصابه بثوبه، ولطّخ ثوبه بدمه، فأهمّته رؤياه، وطرقت به الظنون مطارقها، وهمّ بعزل القاضي، انقيادا لبواعث الفكر، وسدّا لأبواب التوقيعات، وقد تأذن الله بإرجاء العزم، وتصديق الحلم، وإمضاء الحكم، جلّ وجهه، وعزّت قدرته، فكان من الأمر ما تقرر في محله.
تصانيفه: وتصانيفه بارعة، منها، «رفع الحجب المستورة في «1» محاسن المقصورة «2» » ، شرح فيها مقصورة الأديب أبي الحسن حازم بما تنقطع الأطماع فيه.
ومنها «رياضة الأبيّ «3» في قصيدة الخزرجي» ، أبدع في ذلك بما يدل على الاطلاع وسداد الفهم، وقيّد على «كتاب التّسهيل» لأبي عبد الله بن مالك تقييدا جليلا، وشرحا بديعا، قارب التمام. وشرع في تقييد على الخبر المسمّى ب «درر السّمط في خبر السّبط» . ومحاسنه جمّة، وأغراضه بديعة.
شعره: وأمّا الشعر، فله فيه القدح المعلّى، والحظّ الأوفى، والدّرجة العليا، طبقة وقته، ودرجة عصره، وحجة زمانه، كلامه متكافئ في اللفظ والمعنى، صريح الدّلالة، كريم الخيم، متحصّد الحبل، خالص السّبك، وأنا أثبت منه جزما خصّني به، سمّاه جهد المقل، اشتمل من حرّ الكلام، على ما لا كفاء له.
الحمد لله تردّده أخرى الليالي، فهو المسؤول أن يعصمنا من الزّلل، زلل القول، وزلل الأعمال. والصلاة على سيدنا محمد خاتم الإرسال. هذه أوراق ضمنتها جملة من بنات فكري، وقطعا مما يحيش به في بعض الأحيان صدري، ولو حزمت لأضربت عن كتبها كل الإضراب، ولزمت في دفنها وإخفائها دين الأعراب، لكني آثرت على المحو الإثبات، وتمثلت بقولهم إن خير ما أوتيته العرب الأبيات. وإذا هي عرضت على ذلك المجد، وسألها كيف نجت من الوأد، فقد أوتيتها من حرمكم إلى ظلّ ظليل، وأحللتها من بنائكم معرّسا ومقيل، وأهديتها علما بأن كرمكم بالإغضاء عن عيوبها جدّ كفيل، فاغتنم قلة التهدئة مني، إن جهد المقلّ غير قليل، فحسبها شرفا أن تبوّأت في جنابك كنفا، وكفاها مجدا وفخرا أن عقدت بينها وبين فكرك عقدا وجوارا ومما قلت في حرف الهمزة.
مولده: بسبتة في السادس لشهر ربيع الأول «4» من عام سبعة وتسعين وستمائة.
وفاته: توفي قاضيا بغرناطة في أوائل شعبان «5» من عام ستين وسبعمائة.