الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإحسانه «1» كثير في النظم والنثر، والقصار والمطولات. واستعمل في السّفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة، وهو الآن قاضي «2» مدينة فاس، نسيج وحده في السلامة والتّخصيص «3» ، واجتناب فضول القول والعمل، كان الله له.
محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف ابن محمد الصّريحي
«4»
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفه ربض البيّازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.
حاله: هذا «5» الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، مختص «6» ، مقبول، هشّ، خلوب، عذب الفكاهة، حلو المجالسة، حسن التوقيع، خفيف الروح، عظيم الانطباع، شره المذاكرة، فطن بالمعاريض «7» ، حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكه، غزل مع حياء وحشمة، جواد بما في يده، مشارك لإخوانه. نشأ عفّا، طاهرا، كلفا بالقراءة، عظيم الدّؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النّبل، بعيد مدى الإدراك، جيّد الفهم، فاشتهر فضله، وذاع أرجه، وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض، وشارك في جملة «8» من الفنون، وأصبح متلقّف كرة البحث، وصارخ الحلقة، وسابق الحلبة، ومظنّة الكمال. ثم ترقّى في درج المعرفة والاضطلاع، وخاض لجّة الحفظ، وركض قلم التّقييد والتّسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس، متكلّما فوق الكرسي المنصوب، وبين «9» الحفل المجموع، مستظهرا بالفنون «10» التي بعد فيها شأوه، من العربية والبيان واللغة، وما يقذف به في لج النقل، من الأخبار والتفسير. متشوّفا مع ذلك إلى السّلوك، مصاحبا للصّوفية، آخذا نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب، فكان
أملك به، وأعمل الرّحلة في طلب العلم والازدياد، وترقّى «1» إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في باب «2» الإجادة. ولمّا جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقرّ بالمغرب، أنس به، وانقطع إليه، وكرّ صحبة «3» ركابه إلى استرجاع حقّه، فلطف منه محلّه، وخصّه بكتابة سرّه.
وثابت الحال، ودالت الدولة، وكانت له الطائلة، فأقرّه على رسمه معروف الانقطاع والصّاغية، كثير الدالّة، مضطلعا بالخطّة خطّا وإنشاء ولسنا ونقدا، فحسن منابه، واشتهر فضله، وظهرت مشاركته، وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلّقه، وأرضى للسلطان حمله، وامتدّ في ميدان النثر «4» والنظم باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشّأو في مدى الإجادة، [حسبما يشهد بذلك، ما تضمّنه اسم السلطان، أيّده الله، في أول حرف الميم، في الأغراض المتعددة من القصائد والميلاديّات، وغيرها «5» ] . وهو بحاله الموصوفة إلى الآن «6» ، أعانه الله تعالى «7» وسدّده.
شيوخه: قرأ «8» العربية على الأستاذ رحلة الوقت «9» في فنّها أبي عبد الله بن الفخّار ثم على إمامها «10» القاضي الشريف، إمام الفنون اللّسانية، أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد بن لب، واختصّ بالفقيه الخطيب الصّدر المحدّث أبي عبد الله بن مرزوق فأخذ عنه كثيرا من الرّواية، ولقي القاضي الحافظ أبا عبد الله المقري عندما قدم «11» رسولا إلى الأندلس، وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزّواوي، وروى «12» عن جملة، منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج، والمحدّث أبو الحسن «13» ابن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي، والمقرئ أبو عبد الله ابن بيبش. وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشّريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلوي التّلمساني، واختصّ به اختصاصا لم يخل فيه من إفادة «14» مران وحنكة في الصّناعة «15» .
شعره: وشعره «1» مترام إلى نمط «2» الإجادة، خفاجيّ «3» النّزعة، كلف بالمعاني البديعة، والألفاظ الصّقيلة، غزير المادة. فمنه في غرض النّسيب «4» :
رضيت بما تقضي عليّ وتحكم
…
أهان فأقصى أم أصافي فأكرم
إذا كان قلبي في يديك قياده
…
فمالي عليك في الهوى أتحكّم
على أن روحي في يديك بقاؤه
…
بوصلك يحيى أو بهجرك يعدم
وأنت إلى المشتاق نار وجنّة
…
ببعدك يشقى أو بقربك ينعم
ولي كبد تندى إذا ما ذكرتم
…
وقلب بنيران الشوق يتضرّم
ولو كان ما بي منك بالبرق ما سرى
…
ولا استصحب الأنواء تبكي وتبسم
أراعي نجوم الأفق في اللّيل ما دجى
…
وأقرب من عينيّ للنوم أنجم
وما زلت أخفي الحبّ عن كل عادل
…
وتشفي دموع الصّب ما هو يكتم
كساني الهوى ثوب السّقام وإنه
…
متى صحّ حبّ المرء لا شيء يسقم
فيا من له العقل الجميل سجيّة
…
ومن جود يمناه الحيا يتعلّم
وعنه يروّي الناس كلّ غريبة
…
تخطّ على صفح الزمان وترسم
إذا أنت لم ترحم خضوعي في الهوى
…
فمن ذا الذي يحني عليّ ويرحم
وحلمك حلم لا يليق بمذنب
…
فما بال ذنبي عند حلمك يعظم؟
وو الله ما في الحيّ حيّ ولم ينل
…
رضاك وعمّته أياد وأنعم
ومن قبل ما طوّقتني كل نعمة
…
كأنّي وإياها سوار ومعصم
وفتّحت لي باب القبول مع الرضى
…
يغضّ الحيّ طرفي كأني مجرم
ولو كان لي نفس تخونك في الهوى
…
لفارقتها طوعا وما كنت أندم
وأترك أهلي في رضاك إلى الأسى
…
وأسلم نفسي في يديك وأسلم
أما والذي أشقى فؤادي في الهوى
…
وإن كان في تلك الشّقاوة ينعم
لأنت من قلبي ونزهة خاطري
…
ومورد آمالي وإن كنت أحرم
ومن ذلك ما خاطبني به، وهي «1» من أول نظمه، قصيدة مطلعها:[الطويل]
«أما وانصداع النّور في «2» مطلع الفجر»
وهي طويلة «3» . ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزّهد بأويس «4» ، ولم يحل مجاريه ومباريه إلّا بويح وويس، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه، المنوّه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه «5» :[الطويل]
معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا
…
وأن يشغل اللوّام بالعذل باليا
دعاني أعط الحبّ فضل مقادتي
…
ويقضي عليّ الوجد ما كان قاضيا
ودون الذي رام العواذل صبوة
…
رمت بي في شعب الغرام المراميا
وقلب إذا ما البرق أومض موهنا «6»
…
قدحت به زندا من الشوق واريا
خليليّ إني يوم طارقة النّوى
…
شقيت بمن لو شاء أنعم باليا
وبالخيف يوم النّفر يا أمّ مالك
…
تخلّفت «7» قلبي في حبالك عانيا «8»
وذي أشر عذب الثّنايا مخصّر
…
يسقّي به ماء النعيم الأقاحيا
أحوم عليه ما دجا الليل ساهرا
…
وأصبح دون الورد ظمآن صاديا «9»
يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي
…
إذا البارق النّجديّ وهنا بدا ليا
أجيرتنا بالرّمل والرّمل منزل
…
مضى العيش فيه بالشّبية حاليا
ولم أر ربعا منه أقضى لبانة
…
وأشجى حمامات وأحلى مجانيا
سقت طلّه «10» الغرّ الغوادي ونظّمت
…
من القطر في جيد الغصون لآليا
أبثّكم أني على النّأي حافظ
…
ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا
أناشدكم والحرّ أوفى بعهده
…
ولن يعدم الأحسان والخير «1» جازيا
وورد «2» على السلطان أبي سالم ملك المغرب، رحمة الله تعالى عليه، وفد الأحابيش بهديّة من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمّى بالزّرافة «3» ، فأمر من يعاني الشعر من الكتّاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:
[الكامل]
لولا تألّق بارق التّذكار
…
ما صاب واكف دمعي المدرار
لكنه مهما تعرّض خافقا
…
قدحت يد الأشواق زند أواري «4»
وعلى «5» المشوق إذا تذكّر معهدا
…
أن يغري الأجفان باستعبار
أمذكّري غرناطة حلّت بها
…
أيدي السّحاب أزرّة النّوّار؟
كيف التخلّص للحديث وبيننا «6»
…
عرض الفلاة وطافح زخّار «7» ؟
وغريبة قطعت إليك على الونى
…
بيدا تبيد بها هموم السّاري
تنسيه طيّته «8» التي قد أمّها
…
والرّكب فيها ميّت الأخبار
يقتادها من كلّ مشتمل الدّجى
…
وكأنما عيناه جذوة نار
خاضوا بها لجج الفلا فتخلّصت
…
منها خلوص البدر بعد سرار
سلمت بسعدك من غوائل مثلها
…
وكفى بسعدك حاميا لذمار
وأتتك يا ملك الزمان غريبة
…
قيد النّواظر نزهة الأبصار
موشيّة الأعطاف رائقة «9» الحلى
…
رقمت بدائعها يد الأقدار
راق العيون أديمها فكأنه
…
روض تفتّح عن شقيق بهار
ما بين مبيضّ وأصفر فاقع
…
سال اللّجين به خلال نضار
يحكي حدائق نرجس في شاهق
…
تنساب فيه أراقم الأنهار
وأنشد «1» السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه، رحمه الله تعالى:[الطويل]
تأمّل أطلال الهوى فتألّما
…
وسيما الجوى والسّقم منها تعلّما
أخو زفرة هاجت له منه «2» ذكرة
…
فأنجد في شعب الغرام وأتهما
وأنشد «3» السلطان في وجهة للصّيد أعملها، وأطلق أعنّة الجياد في ميادين ذلك الطّراد وأرسلها قوله:[الكامل]
حيّاك يا دار الهوى من دار
…
نوء السّماك بديمة مدرار
وأعاد وجه رباك طلقا مشرقا
…
متضاحكا بمباسم النّوّار
أمذكّري دار الصّبابة والهوى
…
حيث الشّباب يرفّ «4» غصن نضار
عاطيتني عنها الحديث كأنما
…
عاطيتني عنها كؤوس عقار
إيه وإن أذكيت نار صبابتي
…
وقدحت زند الشّوق بالتّذكار
يا زاجر الأظعان وهي مشوقة
…
أشبهتها في زفرة وأوار
حنّت إلى نجد وليست دارها
…
وصبت إلى هنديّة والقار «5»
شاقت به برق الحمى واعتادها
…
طيف الكرى بمزارها المزوار «6»
ومن شعره في غير المطولات «7» : [الطويل]
لقد زادني وجدا وأغرى بي الجوى
…
ذبال «8» بأذيال الظّلام قد التفّا
تشير وراء الليل منه بنانة
…
مخضّبة والليل قد حجب الكفّا
تلوح سنانا حين لا تنفح الصّبا
…
وتبدو «9» سوارا حين تثني له العطفا
قطعت به ليلا يطارحني الجوى
…
فآونة يبدو وآونة يخفى
إذا قلت لا يبدو أشال لسانه
…
وإن قلت لا يخبو الصّبابة إذ لفّا «1»
إلى أن أفاق الصّبح من غمرة الدّجى
…
وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا
لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي
…
وقد شفّها من لوعة الحبّ ما شفّا
وممّا ثبت له في صدر رسالة «2» : [الطويل]
أزور بقلبي معهد الأنس والهوى
…
وأنهب من أيدي النسيم رسائلا
ومهما سألت البرق يهفو من الحمى
…
يبادره «3» دمعي مجيبا وسائلا
فياليت شعري والأماني تعلّل
…
أيرعى لي الحيّ الكرام الوسائلا؟
وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم
…
يوالون بالإحسان من جاء سائلا؟
ومن أبياته الغراميات «4» : [الوافر]
قيادي قد تملّكه الغرام
…
ووجدي لا يطاق ولا يرام «5»
ودمعي دونه صوب الغوادي
…
وشجوي «6» فوق ما يشدو «7» الحمام
إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي
…
على الدّنيا وساكنها السّلام
وفي غرض يظهر من الأبيات «8» : [الطويل]
ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف
…
قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر «9»
فأبصرت أشباه الرياض محاسنا
…
وفي خدّه جرح بدا منه لي أثر
فقلت لجلّاسي خذوا الحذر إنما
…
به وصب من أسهم الغنج والحور
ويا وجنة قد جاورت سيف لحظه
…
ومن شأنها تدمي من اللّمح بالبصر
تخبّل للعينين جرحا وإنما
…
بدا كلف منه على صفحة القمر
وممّا يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق في ذلك «1» :[الطويل]
ألائمة «2» في الجود والجود شيمتي «3»
…
جبلت على آثارها «4» يوم مولدي
ذريني فلو أنّي أخلّد بالغنى
…
لكنت ضنينا بالذي ملكت يدي
ومن مقطوعاته «5» : [المتقارب]
لقد علم الله أنّي امرؤ
…
أجرّر ثوب العفاف القشيب
فكم غمّض الدهر أجفانه
…
وفازت قداحي بوصل الحبيب
وقيل رقيبك في غفلة
…
فقلت أخاف الإله الرّقيب
وفي مدح كتاب «الشّفا» «6» طلبه الفقيه أبو عبد الله بن مرزوق عندما شرع في شرحه «7» : [الطويل]
ومسرى ركاب للصّبا قد ونت به
…
نجائب سحب للتراب نزوعها
تسلّ سيوف البرق أيدي حداتها
…
فتنهلّ خوفا من سطاها دموعها
ومنها:
ولا مثل تعريف الشّفاء حقوقه
…
فقد بان فيه للعقول جميعها
بمرآة حسن قد جلتها يد النّهى
…
فأوصافه يلتاح فيه بديعها
نجوم اهتداء، والمداد يجنّها
…
وأسرار غيب واليراع تذيعها
لقد حزت فضلا يا أبا الفضل شاملا
…
فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها
ولله ممّن قد تصدّى لشرحه
…
فلبّاه من غرّ المعاني مطيعها
فكم مجمل فصّلت منه وحكمة
…
إذا كتم الإدماج منه تشيعها
محاسن والإحسان يبدو خلالها
…
كما افترّ «8» عن زهر البطاح ربيعها
إذا ما أصول المرء طابت أرومة «1»
…
فلا عجب أن أشبهتها فروعها
بقيت لأعلام الزمان تنيلها
…
هدى ولأحداث الخطوب تروعها
ومما امتزج فيه نثره ونظمه، وظهر فيه أدبه وعلمه، قوله يخاطبني جوابا عن رسالة خاطبت بها الأولاد، وهم مع مولانا أيّده الله بالمنكّب «2» :[مخلع البسيط]
ما لي بحمل الهوى يدان
…
من بعد ما أعوز التّداني
أصبحت أشكو إلى «3» زمان
…
ما بتّ منه على أمان
ما بال عينيك تسجمان
…
والدّمع يرفضّ كالجمان؟
ناداك والإلف عنك وان
…
والبعد من بعده كواني؟ «4»
يا شقّة «5» النفس، من هوان
…
لجج «6» في أبحر الهوان
لم يثنني «7» عن هواك ثان
…
يا بغية القلب «8» قد كفاني «9»
يا جانحة الأصيل، أين يذهب قرصك المذهّب، وقد ضاق بالشوق المذهب.
أمست شموس الأنس محجوبة عن عيني، وقد ضرب البعد الحجاب بينها وبيني.
وعلى كل حال، من إقامة وارتحال. فما محلك من قلبي محلا بينها. وما كنت لأقنع من وجهك تخيّلا وشبيها. ومن أين انتظمت لك عقول التّشبيه واتّسقت، ومن بعض المواقع والشمس لو قطعت. صادك منذور، وأنت تتجمل بثوبي زور، وجيب الظلام على دينارك حتى الصباح مزرور، ووراءك من الغروب غريم لا يرحم، ومطالب تتقلّب منه في كفّه المطالب. ويا برق الغمام من أي حجاب تبتسم، وبأي صبح ترتسم، وأي غفل من السحاب تسم. أليست مباسم الثغور، لا تنجد بأفقي ولا تغور؟
هذا وإن كانت مباسمك مساعدة، والجوّ ملبس لها من الوجوم شعارا، فلطالما ضحكت فأبكت الغوادي، وعقت الرائح والغادي. أعوذ بواشم البروق، بنواسم الطّفل والشروق، ذوات الزائرات المتعددة الطّروق، فهي التي قطعت وهادا ونجادا، واهتدت بسيف الصباح من السحاب قرابا ومن البروق نجادا، واهتدت خبر الذين أحبّهم
مستظرفا مستجادا، فعالها ولعلها، والله يصل في أرض الوجود نهلها وعلّها، وأن يبل ظعين الشوق بنسيمها البليل، وأن نعوضه من نار الغليل، بنار الخليل، وخير طبيب يداوي الناس وهو عليل. فشكواي إلى الله لا أشكو إلى أحد. هل هو إلّا فرد تسطو رياح الأشواق على ذبالته، وعمر الشوق قد شبّ على الطّوق، ووهب الجمع للفرق ولم يقنع بالمشاهدة بالوصف دون الذّوق. وقلب تقسم أحشاؤه الوجد، وقسم باله الغور والنّجد. وهموم متى وردت قليب القلب، لم تبرح ولم تعد، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
أستغفر الله يا سيدي الذي يوقد أفكاري حلو لقائه، وأتنسّم أرواح القبول من تلقائه، وأسأل الله أن يديم لي آمالي بدوام بقائه. إن بعد مداه، قربت منّا يداه، وإن أخطأنا رفده أصبنا نداه. فثمرات آدابه الزّهر تجيء إلينا، وسحائب بنانه الغرّ تصوّب دوالينا أو علينا، على شحط هواه، وبعد منتواه. ولا كرسالة سيدي الذي عمّت فضائله وخصّت، وتلت على أولياء نعمته أنباء الكمال وقصّت، وآي قضى كل منها عجبا، ونال من التماح غرّتها واجتلاء صفحتها أربا. فلقد كرمت عنه بالاشتراك في بنوّته الكريمة نسبا، ووصلت لي بالعناية منه سببا. تولّى سيدي خيرك من يتولّى خير المحسنين، ويجزل شكر المنعمين. أما ما تحدّث به من الأغراض البعيدة العذيبة، وأخبر عنه من المعاني الفريدة العجيبة، والأساليب المطيلة، فيعجز عن وصفه، وإحكام رصفه، القلم واللسان، ويعترف لها بالإبداع المستولي على أمد الإحسان البديع وحسّان. ولقد أجهدت جياد الارتجال، في مجال الاستعجال، فما سمحت القريحة إلّا بتوقّع الآجال، وعادت من الإقدام إلى الكلال. فعلمت أن تلك الرسالة الكريمة، من الحق الواجب على من قرأها وتأمّلها، أن لا يجري في لجّة من ميادينها، ويديم يراع سيدي الإحسان كرينها، لكن على أن يفسح الرياض للقصي مدى، ويقتدي بأخلاق سيدي التي هي نور وهدى، فإنه والله يبقيه، ويقيه ممّا يتّقيه، بعد ما أعاد في شكوى البين وأبدى، وتظلّم من البعد واستعدى، ورفع حكم العتاب عن ذرات النّسيم والاقتعاب، ورعى وسيلة ذكرها في محكم الكتاب. وولّى فضله ما تولّى، وصرف هواه إلى هوى المولى أن صور السعادة على رأيه، أيّده الله تجلّى، وثمرة فكره المقدس، أيّده الله تتحلّى. شكر الله له عن جميع نعمه التي أولى، وحفظ عليه مراتب الكمال التي هو الأحقّ بها والأولى. وقد طال الكلام، وجمحت الأقلاح. ولسيدي وبركتي الفضل، أبقى الله بركته، وأعلى في الدارين درجته، والسلام الكريم يخصّكم، من مملوككم ابن زمرك، ورحمة الله وبركاته، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين.
وخاطبني كذلك، وهو من الكلام المرسل: أبو معارفي، ووليّ نعمتي، ومعيد جاهي، ومقوّم كمالي، ومورد آمالي، ممن توالى نعمه عليّ، ويتوفّر قسمه لدي؛ وأبوء له بالعجز، عن شكر أياديه التي أحيت الأمل، وملأت أكفّ الرغبة، وأنطقت الحدائق، فضلا عن اللسان، وأياديه البيض وإن تعددت، ومننه العميمة وإن تجدّدت، تقصر عن إقطاع أسمى شرف المجلس في الروض الممطور بيانه. فماذا أقول، فيمن صار مؤثرا إليّ بالتقديم، جاليا صورة تشريفي، بالانتساب إليه في أحسن التقويم
…
«1» وإني ثالث اثنين أتشرف بخدمتها، وأسحب في أذيال نعمتها:
[الطويل]
خليليّ، هل أبصرتما أو سمعتما
…
بأكرم من تمشي إليه عبيد؟
اللهمّ، أوزعني شكر هذا المنعم، الذي أثقلت نعمه ظهر الشكر، وأنهضت كمال الحمد، اللهمّ أدم بجميع حياته، وأمتع بدوام بقائه الإسلام والعباد، وأمسك بيمن آرائه رمق ثغر الجهاد. يا أكرم مسئول، وأعزّ ناصر. تفضّل سيدي، والفضل عادته، بالتعريف بما يقرّ عين التطلّع ويقنع غلّة التشوّف. ولقد كان المماليك لما مثلنا بين يدي مولانا، أيّده الله، لم يقدم عملا عن السؤال ولا عن الحال، إقامة لرسم الزيارة، وعملا بالواجب، فإنني أرى الديار بطرفي، فعلى أن أرى الديار بعيني، وعلى ذلك يكون العمل إن شاء الله. وإن سأل سيدي شكر الله احتفاءه، وأبقى اهتمامه، عن حال المماليك، من تعب السفر، وكدّ الطريق، فهي بحمد الله دون ما يظنّ. فقد وصلنا المنكّب تحت الحفظ والكلاءة، محرزين شرف المساوقة، لمواكب المولى، يمن الله وجهته، وكتب عصمته، واستقرّ جميعنا بمحلّ القصبة، وتاج أهبتها، ومهبّ رياح أجرائها، تحت النعم الثرّة، والأنس الكامل الشامل. قرّب الله أمد لقائكم، وطلع على ما يسرّ من تلقائكم. ولما بلغنا هذه الطّيّة، وأنخنا المطيّة، قمنا بواجب تعريفكم على الفور بالأدوار، ورفعنا مخاطبة المالك على الابتدا. والسلام.
مولده: في الرابع عشر من شوال ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
انتهى السفر السادس هنا، والحمد لله ربّ العالمين