الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حداد «1» . نحن في زمن لا يحظى فيه بنفاق، إلّا من عامل بنفاق. شغل الناس عن طريق الآخرة بزخارف الأغراض، فلجّوا في الصّدود عنها والإعراض، آثروا دنيا هي أضغاث أحلام، وكم هفت في حبها من أحلام، أطالوا فيها آمالهم، وقصروا أعمالهم، ما بالهم، لم يتفرغ لغيرها بالهم، ما لهم في غير ميدانها استباق «2» ، ولا بسوى هواها اشتياق «3» . تالله لو كشفت الأسرار، لما كان هذا الإصرار، ولسهرت العيون، وتفجّرت من شؤونها الجفون «4» . فلو أن عين البصيرة من سنتها هابّة، لرأت جميع ما في الدنيا ريحا «5» هابّة، ولكن استولى العمى على البصائر، ولا يعلم الإنسان «6» ما إليه صائر. أسأل الله هداية سبيله، ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله، إنه الحنّان المنّان لا ربّ سواه.
ومنها «7» : فلتات الهبات، أشبه شيء بفلتات الشّهوات. منها نافع لا يعقب ندما، ومنها ضارّ يبقي في النفس ألما. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد لحقّها أداء، وربما أثمرت «8» عنده اعتداء. وضرر الشهوة أن لا توافق ابتداء، فتصير لمتبّعها «9» داء، مثلها كمثل السّكر يلتذّ صاحبه بحلاوة «10» جناه، فإذا صحا يعرف «11» قدر ما جناه. عكس هذه القضية هي الحالة المرضية.
مولده: ببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وقيل: بشاطبة سنة أربعين وخمسمائة.
وفاته: توفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان أربع عشرة وستمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن شبرين
«12»
يكنى أبا بكر، شيخنا الفقيه القاضي المؤرخ الكاتب البارع، رحمة الله عليه.
أوّليّته: أصله «1» من إشبيلية، من حصن شلب من كورة باجة، من غربيّ صقعها، يعرفون فيها ببني شبرين معرفة قديمة. ولّي جدّه القضاء بإشبيلية، وكان من كبار أهل العلم، تشهد بذلك الصلاة. وانتقل أبوه منها عند تغلّب العدو عليها عام ستة وأربعين وستمائة، فاحتل رندة ثم غرناطة، ثم انتقل إلى سكنى سبتة، وبها ولد شيخنا أبو بكر، وانتقل عند الحادثة إلى غرناطة «2» ، فارتسم بالكتابة السلطانية، وولّي القضاء بعدة جهات، وتأثّل مالا وشهرة، حتى جرى مجرى الأعيان من أهلها.
حاله: كان «3» فريد دهره، ونسيج وحده في حسن السّمت والرّواء «4» ، وكمال الظّرف وجمال الشّارة، وبراعة الخطّ، وطيب المجالسة، خاصّيا، وقورا، تام الخلق، عظيم الأبّهة، عذب التّلاوة لكتاب الله، من أهل الدين والفضل والعدالة، تاريخيّا، مقيّدا، طلعة اختيار أصحابه، محققا لما ينقله، فكها مع وقاره، غزلا، لوذعيّا، عليّ شأن الكتابة، جميل العشرة، أشدّ الناس على الشّعر، ثم على المحافظة، ما يحفظه من الأبيات من غير اعتيام ولا تنقيح، يناغي الملكين في إثباتها، مقرّرة التواريخ، حتى عظم حجم ديوانه، تفرّدت أشعاره بما أبرّ على المكثرين، مليح الكتابة، سهلها، صانعا، سابقا في ميدانها، راجحا كفّة المنثور. وكانت له رحلة إلى تونس، اتّسع بها نطاق روايته. وتقلّب بين الكتابة والقضاء، منحوس الحظ في الاستعمال، مضيّقا فيه، وإن كان وافر الجدّ، موسّعا عليه.
وجرى ذكره في كتاب «التاج المحلّى» بما نصّه:
خاتمة المحسنين، وبقية الفصحاء اللّسنين، ملأ العيون هديا وسمتا، وسلك من الوقار طريقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ما شئت من فضل ذات، وبراعة أدوات. إن خطّ، نزل ابن مقلة عن درجته وإن خطّ. وإن نظم أو نثر، تبعت البلغاء ذلك الأثر.
وإن تكلّم أنصت الحفل لاستماعه، وشرع لدرره النّفيسة صدق أسماعه. وفد على الأندلس عند كائنة سبتة، وقد طرحت النّوى برحاله، وظعن عن ربعه بتوالي إمحاله، ومصرّف بلاده، والمستولي على طارفها وتالدها، أبو عبد الله بن الحكيم، قدّس الله صداه، وسقى منتداه، فاهتزّ لقدومه اهتزاز الصّارم، وتلقاه تلقي الأكارم، وأنهض إلى لقائه آماله، وألقى له قبل الوسادة ماله، ونظمه في سمط الكتّاب، وأسلاه عن أعمال
الأقتاد، ونزل ذمامه تأكّدا في هذه الدول، وقوفي له الآتية منها على الأول، فتصرّف في القضاء بجهاتها، ونادته السيادة هاك وهاتها، فجدّد عهد حكّامه العدول من سلفه وقضاتها. وله الأدب الذي تحلّت بقلائده اللّبات والنّحور، وقصرت عن جواهره البحور. وسيمرّ من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه، ويخبر بكرم عنصره، وطيّب نبعه.
مشيخته: قرأ «1» على جدّه لأمّه الأستاذ الإمام «2» أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، وسمع على الرئيس أبي حاتم، وعلى أخيه أبي عبد الله الحسين، وعلى الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، وعلى الشريف أبي علي بن أبي الشرف، وعلى الإمام أبي عبد الله بن حريث. وسمع على العدل أبي فارس عبد العزيز الجزيري. وسمع بحضرة غرناطة على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وعلى العدل أبي الحسن بن مستقور، وعلى الوزير أبي محمد بن المؤذن، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد.
وبمالقة على الخطيب ولي الله تعالى، أبي عبد الله الطّنجالي، وعلى الوزير الصّدر أبي عبد الله بن ربيع، وعلى القاضي العدل أبي عبد الله بن برطال. وببجاية على الإمام أبي علي ناصر الدين المشذالي، وعلى أبي العباس الغبريني. وبتونس على أبي علي بن علوان، وعلى قاضي الجماعة أبي إسحاق «3» بن عبد الرّفيع، وسمع على الخطيب الصّوفي وليّ الله تعالى، أبي جعفر الزيات، والصوفي أبي عبد الله بن برطال، وعلى الصدر أبي القاسم محمد بن قائد الكلاعي. وأجازه عالم كثير من أهل المشرق والمغرب.
شعره: وشعره متعدّد الأسفار، كثير الأغراض. وفي الإكثار مجلّل الاختيار، فمنه قوله «4» :[الطويل]
أخذت بكظم الرّوح يا «5» ساعة النوى
…
وأضرمت في طيّ الحشا لاعج الجوى
فمن مخبري يا ليت شعري متى اللّقا
…
وهل تحسن الدنيا وهل يرجع الهوى؟
سلا كلّ مشتاق وأكثر «6» وجده
…
وعند النّوى «7» وجدي وفي ساكن الهوى
ولي نيّة ما عشت في حفظ عهدهم
…
إلى يوم ألقاهم وللمرء ما نوى
وقال: [المنسرح]
باتوا فمن كان باكيا يبك
…
هذي ركاب الشرى بلا شكّ
فمن ظهور الرّكاب معملة
…
إلى بطون الرّبى إلى الفلك
تصدّع الشّمل مثلما انحدرت
…
إلى صبوب جواهر السّلك
كن بالذي حدّثوا على ثقة
…
ما في حديث الفراق من إفك
من النّوى قبل لم أزل حذرا
…
هذا النّوى جلّ «1» مالك الملك
وقال: [السريع]
يا أيها المعرّض اللّاهي
…
يسوؤني هجرك والله
يا «2» ليت شعري كم أرى فيك
…
لا أقفك عن ويّه وعزاه «3»
ويحي مغيري إلى باخل واه
…
من ذا الذي رآه «4»
من يرد الله فيه فتنة
…
يشغله في الدنيا بتيّاه
يا غصن البان ألا عطفة
…
على معنّى جسمه واه؟
أوسعني بعدك ذلّا وقد
…
را يثنيا «5» عندك ذا جاه
ذكرك لا ينفكّ عن خاطري
…
وأنت عني غافل ساه
يكفيك يا عثمان من جفوني
…
لو كان ذنبي ذنب جهجاه
هيهات لا معترض لي على
…
حكمك أنت الآمر النّاهي «6»
قلت: جهجاه المشار إليه رجل من غفّار، قيل: إنه تناول عصا الخطبة من يد عثمان، رضي الله عنه، فكسرها على ركبته، فوقعت فيها الأكلة فهلك.
وقال: [البسيط]
يا من أعاد صباحي فقده حلكا
…
قتلت عبدك لكن لم تخف دركا
مصيبتي ليست كالمصائب لا
…
ولا بكائي عليها مثل كلّ بكا
فمن أطالب في شرع الهوى بدمي
…
لحظي ولحظك في قتلي قد اشتركا
وقال، وقد سبقه إليه الرّصافي؛ وهو ظريف:[المنسرح]
أشكو إلى الله فرط بلبالي «1»
…
ولوعة لا تزال تذكي لي
بمهجتي حائك شغلت به
…
حلو المعاني طرازه عالي
سألته لثم خاله فأبى
…
ومنّ ذا نخوة وإذلال
وقال حالي يصون خالي
…
يدني فويحي بالحال والخال «2»
يقرّبني الآل من مواعده
…
وأتّقي منه سطوة الآل
لكن على ظلمه وقسوته
…
فلست عنه الزّمان بالسالي
وقال أيضا مضمنا «3» : [البسيط]
لي همّة كلّما حاولت أمسكها
…
على المذلّة في أرجاء «4» أرضيها
قالت: ألم تك «5» أرض الله واسعة
…
حتى يهاجر عبد مؤمن فيها
وقال مسترجعا من ذنبه، ومستوحشا من شيبه:[السريع]
قد كان عيبي قبل «6» في غيب
…
فمذ بدا شيبي بدا عيبي
لا عذر اليوم ولا حجّة
…
فضحتني والله يا شيبي
وقال «7» : [الخفيف]
أثقلتني الذنوب ويحي وويسي
…
ليتني كنت زاهدا كأويس «8»
وجرت بينه وبين السلطان ثالث الأمراء من بني نصر «9» ، بعد خلعه من ملكه، وانتثار سلكه، واستقراره بقصبة المنكّب، غريبا من قومه، معوّضا بالسهاد من نومه،
قد فلّ الدهر سباته، وتركه يندب ما فاته، والقاضي المترجم به يومئذ مدبّر أحكامها، وعلم أعلامها، ومتولّي نقضها وإبرامها، فارتاح يوما إلى إيناسه، واجتلاب أدبه والتماسه، وطلب منه أن يعبّر عن حاله ببيانه، وينوب في بثّه عن لسانه، فكتب إليه:
[الطويل]
قفا نفسا فالخطب فيها يهون
…
ولا تعجلا إنّ الحديث شجون
علمنا الذي قد كان من صرف دهرنا
…
ولسنا على علم بما سيكون
ذكرنا نعيما قد تقضّى نعيمه
…
فأقلقنا شوق له وحنين
وبالأمس كنّا كيف شئنا وللدّنا
…
حراك على أحكامنا وسكون
وإذا بابنا مثوى الفؤاد ونحونا
…
تمدّ رقاب أو تشير عيون
فنغص من ذاك السرور مهنأ
…
وكدر من ذاك النّعيم معين
ونبا عن الأوطان بين ضرورة
…
وقد يقرب الإنسان ثم يبين
أيا معهد الإسعاد حيّيت معهدا
…
وجادك من سكب الغمام هتون
تريد الليالي أن تهين مكاننا
…
رويدك إنّ الخير ليس يهون
فإن تكن الأيام قد لعبت بنا
…
ودارت علينا للخطوب فنون
فمن عادة الأيّام ذلّ كرامها
…
ولكنّ سبيل الصابرين مبين
لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا
…
فلا عجب إنّ العبيد تخون
وما غضّ منّا مخبري غير أنه
…
تضاعف إيمان وزاد يقين
وكتب إلى الحكم بن مسعود، وهو شاهد المواريث بهذه الدّعابة التي تستخفّ الوقور، وتلج السّمع الموقور:
أطال الله بقاء أخي وسيدي، لأهل الفرائض يحسن الاحتيال في مداراتهم، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط في أمواتهم، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسّأ، معدّة لتحليل هذا الصّنف المنشّأ من الصّلصال والحمأ. فمن ميّت يغسل وآخر يقبر، ومن أجل يطوى وكفن ينشر، ومن رمس يفتح وباب يغلق، ومن عاصب يحبس ونعش يطلق، فكلما خربت ساحة، نشأت في الحانوت راحة، وكلما قامت في شعب مناحة، اتّسعت للرزق مساحة، فيباكر سيدي الحانوت وقد احتسى مرقته، وسهّل عنقفته، فيرى الصّعبة بالمناصب شطرا، فيلحظ هذا برفق وينظر إلى هذا شزرا، ويأمر بشقّ الجيوب تارة والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ القلم أخذا رفيقا، ويقول وقد خامره السرور: رحم الله فلانا لقد كان لنا صديقا، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف عند ذلك
المراتب، وتتبين الأصدقاء والأجانب، فينصرف هذا، وحظّه التهريب، والنظر الحديد، وينفصل هذا وبين يديه المنذر الصّيت والنعش الجديد. ثم يغشى دار الميت ويسأل عن الكيت والكيت، ويقول: عليّ بما في البيت. أين دعاء الثّاغية والرّاغية؟
أين عقود الأملاد بالبادية؟ وقد كانت لهذا الرجل حالا في حال. وقد ذكر في الأسماء الخمسة فقيل: ذو مال. وعيون الأعوام ترنو من عل، وأعناقهم تشرئبّ إلى خلف الكلل، وأرجلهم تدبّ إلى الأسفاط دبيب الصّقور إلى الحجل. والموتى قد وجبت منهم الجنوب، وحضر الموروث والمكسوب، وقيّد المطعوم والمشروب. وعدّت الصحاح، ووزنت الأرطال وكيلت الأقداح. والشّهود يغلظون على الورثة في الأليّة، ويصونهم بالبتات في النشأة الأوّلية. والروائح حين تفعم الأرض طيبا، وتهدي الأرواح شذا يفعل في إزعاجها على الأبدان فعلا عجيبا. والدلّال يقول: هذا مفتاح الباب، والسّمسار يصيح: قام النّدا فما تنتظرون بالثبات؟ والشّاهد يصيح فتعلو صيحته، والمشرف يشرب فتسقط سبحته. والمحتضر يهسّ ألا حيّ فلا تسمعون، ويباهي لون العباء عليه الجواب رب أرجعون. ما هذا النّشيج والضّجيج؟ متّ كلا لم أمت. ومن حجّ له الحجيج، فترتفع له الأصوات، كي لا يفسح فيه الممات. ويبقر بطنه برغمه، ويحفر له بجانب أبيه وبحذا أمّه. ثم يشرع في نفسه الفرض، ولو أكفئت السماوات على الأرض. ويقال لأهل السّهام: أحسنوا، فالإحسان ثالث مراتب الإسلام، وقد نصّ ابن القاسم على أجرة القسّام. وسوّغه أصبغ وسحنون، ولم يختلف فيه مطّرف وابن الماجشون. إن قيل إيصال الحقائق إلى أرجائها، حسن فجزاء الإحسان إحسان، وقيل إخراج النّسب والكسور كفايه، فللكاهنين حلوان. اللهمّ غفرا، ونستقيل الله من انبساط يجرّ غدرا، ونسأل الله حمدا يوجب المزيد من نعمائه وشكرا. ولولا أن أغفل عن الخصم، وأثقل رحل الفقيه أبي النجم، لأستغلّن المجلس شرحا، ولكان لنا في بحر المباسطة سبح، ولأفضنا في ذكر الوارث والورّاث، وبيّنّا العلّة في أقسام الشهود مع المشتغل بنسبة الذكور مع الإناث. والله يصل عزّ أخي ومجده، ويهب له قوة تخصّه بالفائدة وجدّه، ويزيده بصيرة يتّبع بها الحقوق إلى أقصاها، وبصرا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، ودام يحصي الخراريب والفلوس والأطمار، ويملأ الطّوامر بأقلامه البديعة الصّنعة، ويصل الطّومار بالطّومار والسلام.
والشيء بالشيء يذكر، قلت: ومن أظرف ما وقعت عليه في هذا المعنى، قال بعض كتاب الدولة الحكمية «1» بمنورقة، وقد ولّاه خطّة المواريث، وكتب إليه راغبا