الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالشّرّ، فتحصّن بإشبيلية وجهاتها على نفسه، وطال على الأمة الواصلة في سبيل نصره الأمر. فرجعت إلى بلادها، ووقيت نفرة الفرسان، وأولي الأتباع، وأظهروا الخلاف، وكشفت جيّان وجهها في خلعانه، والرّجوع إلى دعوة أخيه المتصرّف، فتحرّك إليها السلطان المترجم به، بعد أن احتشد المسلمين، فكان من دخولها عنوة، واستباحة المسلمين إياها وتخريبها، ما هو مذكور في موضعه. ثم ألحقت بها مدينة أبّدة، الذاهبة في مخالفة مذاهبها والحمد لله. وخالفت عليه قرطبة، واستقرّ بها من الكبار جملة، كاتبوا أخاه، واستعجلوا، فتعرّف في هذه الأيام، أنه قد بلغ أرض برغش، ونار الفتنة بينهم، ويد الإسلام لهذا العهد، والمنية لله، وحده غالبة.
وإنما مددنا القول في ذكر هذه الأحوال الرّومية، لغرابة تاريخها، وليستشعر الحذر، ويؤخذ من الأمة المذكورة وغيرها، والله وليّ نصر المؤمنين بفضله.
وبأرض رغون سلطانها الكائن على الدولة الأولى.
بعض مناقب الدولة لهذا العهد:
وأولا ما يرجع إلى مناقب الحلم والكظم من مآزق الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.
فمن ذلك أن السلطان لمّا جرت الحادثة، وعظه التمحيص، وألجأ إلى وادي آش، لا يملك إلّا نفسه في خبر طويل، بادر إلى مخاطبة ثقته بقصبة ألمريّة، قلعة الملك، ومظنّة الامتناع، ومهاد السّلامة، ومخزن الجباية والعدّة، وقد أصبح محلّ استقراره، بينها، وبين المنتزى سدّا، وبيعة أهلها لم ينسخ الشرع منها حكما يناشده الله في رمقه، ويتملّقه في رعي ذمّته، والوفاء له، وإبراء غربته، وتمسّكه من أمانته، فردّ عليه أسوأ الردّ، وسجن رسوله في المطبق، وخرج منها لعدوّه، وناصح بعد في البغي عليه. فلمّا ردّ الله الأمر، وجبر الحق، أعتب وأجرى عليه الرّزق. ولمّا ثار في الدولة الثانية الدليل البركي «1» ، هاتفا بالدعوة لبعض القرابة، وأكذبه الله، وعقّه الشيطان بعد نشر راية الخلاف، وجعل للدولة، علوّ اليد، وحسن العاقبة، وتمكّن من المذكور، أبقى عليه، وغلّب حكم المصلحة العامة في استحيائه، وهو من مغربات الحلم المبني على أساس الدين، وابتغاء وجه الله.
ولمّا أجلى عن الترشيح من القرابة، بعد تقرّب التهمة، وغمس الأيدي في المعصية، صرفوا إلى المغرب صرف العافية، وأجرى على من تخلّفوه عوائد
الأرزاق، ومرافق المواسم، ووعد ضعفاءهم بالإرفاد، وتجوفي عمّا يرجع للجميع من عقار ورباع، وأسعفت آمالهم في لحاق ذويهم من أهل وولد.
وممّا يرجع إلى عوائد الرّفق، ومرافق العدل من مأزق في جهاد النفس، وقوف وكيل الدولة، مع من يجاور مستخلص «1» السلطان من العامرين «2» ومما ولي الفلاحة، وقد ادّعوا أضرارا، يجرّه الحوار بين يدي القاضي بالحضرة، حتى بعد منقطع الحقّ، على ما يخصّ السلطان من الأصول التي جرّها الميراث عن كريم السّلف. ولا كقضية التاجر المعروف بالحاج اللبّاس، من أهل مدينة وادي آش، وقد تحصّلت في داره، من قبل التاجر المذكور جارية من بنات الروم، في سبيل تفوّت الذّمم، ومستهلك المتولات، وترقّت إلى تربية ولده، وأصبحت بعض الأظآر «3» لأمرائه، واتّصل بها كلفه، وزاد هيمانه، وغشي مدافن الصّالحين من أجلها، وأنهيت إليه خبره وبثّه، وقرّرت عنده شجوه، وألمعت بما ينقل في هذا الباب عن الملوك قبله، فبادر إلى إخراجها من القصر بنفسه، وانتزاعها من أيدي الغبطة، انتزاع القهر، بحاله في جميل الزّي، فمكّنت منها يد عاشقها الذّاهل، وقد خفّت نفسه، وسكن حسّه، وكاد لقاؤه إيّاها أن يقضي عليه. ونظائر هذا الباب متعددة.
ومن مواقف الصّدق والإحسان من خارق جهاد النفس، بناء المارستان الأعظم، حسنة هذه التخوّم القصوى، ومزيّة المدينة الفضلى. لم يهتد إليه غيره من الفتح الأول، مع توفّر الضرورة، وظهور الحاجة، فأغرى به همّة الدّين، ونفس التقوى، فأبرزه موقف الأخدان «4» ، ورحلة الأندلس، وفذلكة الحسنات، فخامة بيت، وتعدّد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحّة هواء، وتعدّد خزائن ومتوضآت، وانطلاق جراية، وحسن ترتيب، أبرّ على مارستان مصر «5» ، بالسّاحة العريضة، والأهوية الطيّبة، وتدفّق المياه من فورات المرمل، وأسود الصخر، وتموّج البحر، وانسدال الأشجار، إلى موافقته إياي، وتسويغه ما اخترعته بإذنه، وأجريته بطيب نفسه، من اتخاذ المدرسة والزاوية، وتعيين التّربة، مغيرا في ذلك كله على مقاصد
الملوك، نقشا عليه، بطيب اسمه في المزيد، وتخليد في الجدرات للذّكر، وصونا للمدافن غير المعتادة، في قلب بلده بالمقاصر والأصونة، وترتيل التلاوة، آناء الليل «1» ، وأطراف النهار. وكل ذلك إنما ينسب إلى صدقاته، وعلوّ همّته. ويشهد بما ينبّه الحسّ إلى المنقبة العظمى، في هذا الباب، من إمداد جبل الفتح، مع كونه في إيالة غيره، وخارج عن ملكة حكمه، وما كان من إعانته، وسدّ ثغره، فانهار إليه على خطر السّرى، والظهر البعيد المسعى، ما ملأ الأهواء، وقطع طمع العداة، أنفقت عليه الأموال، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، بودر بذلك، بين يدي التفاؤل، بنزول العدوّ إياه، فكان الكرى «2» على إيصال الطعام إليه، بحساب درهم واحد وربع درهم للرّطل من الطعام، منفعة فذّة، وحسنة كبرى، وبدعا من بدع الفتوى.
وفي موقف الاستعداد لعدوّ الإسلام، من خارق جهاد النفس، إطلاق البنى «3» ، للمدّة القريبة، والزمان الضيق، باثنين وعشرين ثغرا من البلاد المجاورة للعدوّ، والمشتركة الحدود، مع أراضيه، المترامية النيران لقرب جوابه، منها ثغر أرجدونة «4» ، المستولي عليه الخراب، أنفق في تجديد قصبته؛ واتخاذ جبّه، ما يناهز عشرين ألفا من الذهب، فهو اليوم شجى العدو، ومعتصم المسلمين، وحصن أشر، وما كان من تحصين جبله بالأسوار والأبراج، على بعد أقطاره، واتخاذ جباب الماء به، واحتفار السانية «5» الهايلة بربضه، ترك بها من الآثار ما يشهد بالقوة لله، والعناية بالإسلام. ثم ختم ذلك بنديد حصن الحمراء، رأس الحضرة، ومعقل الإسلام، ومفزع الملك، ومعقد الأيدي، وصوان المال والذّخيرة، بعد أن صار قاعا صفصفا، وخرابا بلقعا، فهو اليوم عروس يجلي المهضب، ويغازل الشهب، سكن لمكانه الإرجاف، وذوت نجوم الأطماع، ونقل إليه مال الجباية، المتفضّل لهذا العهد، بحسب التدبير، ونفّد الخراج، وصوّن الألقاب، وقمع الخزانة بما لم يتقدّم به عهد، من ثمانين سنة، والحمد لله، وتجديد أساطيل الإسلام، وإزاحة علل جيوش المرج، وعساكر البحر، فهي لهذا العهد، ملس الأديم، شارعة الشّبا، منقضّة جفاتها إلى مساواة الأعداء، راكبة ظهور المحاسن، قلقة الموافق، قدما إلى الجهاد، قد تعدّد إغزاؤها، وجاست
البحر سوابحها، وتعرّفت بركتها، والحمد لله، وأنصاب جيش الجهاد، استغرق الشهور المستقبلة، لرود الصفراء والبيضاء الأهلّة إلى أكفّ أهلها، على الدوام، بعد أن كانت يتحيّفها المطل، وينقصها المطال، والحمد لله.
وفي مواقف الجهاد الحسّي، وبيع النّفوس من الله، وهو ثمرة الجهاد الأول، ما لا يحتاج عليه إلى دليل، من الجوف «1» إلى حصن أشر، قبل الثغر، والجارح المطلّ على الإسلام، والعزم على افتتاحه، وقد غاب الناس من مساورته، وأعيا عليهم فتحه، فلزمه السلطان بنفسه، بياض يوم القيظ، محرضا للمقاتلة، مواسيا لهم، خالطا نفسه بالمستنفرة، يصابر لهيب النار، ووقع السلاح، وتعميم الدّخان، مفديا للكلمات، محرّضا لذوي الجراح، مباشرا الصلاة على الشهداء، إلى أن فتحه الله على يده، بعزمه وصبره، فباشر رمّ سوره بيده، وتحصين عورته بنفسه، ينقل إليه الصّخر، وينال الطّين، ويخالط الفعلة، لقرب محلّ الطاغية، وتوقع المفاجأة. ثم كان هذا العمل قانونا مطّردا في غيره، وديدنا في سواه، حسبما نذكر في باب الجهاد.
وفي باب النصيحة للمسلمين من مآزق الجهاد الأكبر، ما صدر في هذه الدولة، من مخاطبة الكافة، بلسان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، صدعت بذلك الخطباء من فوق أعواد المنابر، وأسمعت آذان المحافل، ما لم يتقدم به عهد في الزمان الغابر.
نص الكتاب: ولمّا صحّت الأخبار بخروج الأمة الإفرنسية إلى استئصال هذه البقيعة، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون، صدر من مخاطبة الجمهور في باب التحريض بما نصّه:
«من أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد نصر، أيّده الله ونصره، وأوى أمره، وخلّد مآثره، إلى أوليائنا الذين نوقظ من الغفلة أحلامهم، وندعوهم لما يطهّر من الارتياب إيمانهم، ويخلص لله أسرارهم وإعلانهم، يرثي لعدم إحسانهم، وخيبة قياسهم، ويغار من استيلاء الغفلات على أنواعهم وأجناسهم، ونسأل الله لهم ولنا إقالة العثرات، وتخفيض الشدائد المعتورات، وكفّ أكفّ العوادي المبتدرات. إلى أهل فلانة، دافع الله عن فئتهم الغريبة، وعرّفهم في الذراري والحرم عوارف اللطائف القريبة، وتداركهم بالصنائع العجيبة، سلام عليكم أجمعين، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا نشرك به أحدا، ولا نجد من دونه ملتحدا، مبتلي قلوب المؤمنين أيها أقوى جلدا، وأبعد في الصبر مدى، ليزيد الذين اهتدوا هدى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنقذ من الردى، وتكفل الشفاعة لمن غدا، ضاربا هام العدا، ومجاهدا من اتخذ مع الله ولدا، والرضى عن آله الذين كانوا لسماء ملّته عمدا، فلم ترعهم الكتائب الوافرة وكانوا لهم أقل عددا، ولا هالتهم أمم الكفر وإن كانت أظهر جمعا وأكثر عددا، صلاة لا تنقطع أبدا، ورضى لا يبلغ مدى. فإنا كتبنا إليكم، كتبكم الله فيمن امتلأ قلبه غضبا لأعدائه وحميّة، ورمى بفكره غرض السّداد، فلم يخط منه هدفا ولا رمية. وقد «1» اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام، ورعي الجوار والذّمام، وما جعل الله تعالى «2» للمأموم على الإمام، فوجب علينا «3» إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوائكم المفترقة «4» ، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة، وهو أنّ كبير «5» النصرانية، الذي إليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعادون، وعند رؤية صليبه يبكون «6» ويسجدون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضما وقضما «7» ، وأوسعتهم هضما فلم تبق لهم «8» عصبا ولا عظما، ونثرت ما كان نظما، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفو «9» ما مزّق الشّتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها كالقطر «10» المنثال، والجراد الذي تضرب به الأمثال، وعاهدهم وقد حضر التمثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمنوا «11» لمن ارتضاه «12» الطاعة، ويجمعوا من «13» ملّته الجماعة، ويطلع الكلّ على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام السّاعة، وأقطعهم، قطع الله بهم، العباد والبلاد، والطّارف والتّلاد «14» ، وسوّغهم الحريم المستضعف «15» والأولاد، وبالله نستدفع ما لا نطيقه، ومنه نسأل عادة الفرج، فما سدّت لديه طريقة، إلّا أنّا رأينا غفلة الناس مع
تصميمهم مؤذنة بالبوار «1» ، وأشفقنا للذين «2» من وراء البحار، وقد أصبح معظمهم «3» في لهوات الكفّار، وأردنا أن نهزّهم «4» بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار، وتلهمكم الاستنصار بالله عند عدم الانتصار، فإن جبر الله الخواطر بالضراعة إليه، والانكسار، ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بانتهاء اليسار، وإلا فقد تعيّن في الدنيا والآخرة حظّ الخسار، فإنّ من ظهر عليه عدوّ دينه «5» ، وهو عن «6» الله مصروف، وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف، وعلى الحطام المسلوب ملهوف «7» ، فقد تلّه «8» الشيطان للجبين، وخسر «9» الدنيا والآخرة، وذلك «10» هو الخسران المبين. ومن نفذ فيه قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وآجر «11» بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطّن النفس عن «12» الشهوات الموبقة في دار الخلود، العائدة بالحياة الدّائمة والوجود، أو الظّهور على عدوّه المحشور إليه المحشود «13» ، صبرا على المقام المحمود، وبيعا «14» تكون الملائكة فيه من «15» الشهود، حتى تعيث «16» يد الله في ذلك البناء المهدوم، بقوة الله المحمود، والسّواد الأعظم الممدود، كان على أمر ربّه «17» بالحياء المردود: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
(52)
«18» . فالله «19» الله في الهمم، فقد خبت «20» ريحها. والله الله في العقائد، فقد خفتت «21» مصابيحها. والله الله في الرّجولة «22» ، فقد فلّ حدّها. والله الله في الغيرة، فقد نعس «23» جدّها، والله الله في الدّين، فقد طمع
العدوّ في تحويله. والله الله في الحريم، فقد مدّ إلى استرقاقه يد تأميله. والله الله في المساكن التي زحف لسكناها، والله الله في الملّة التي يريد إطفاء نورها وسناها «1» ، وقد كمل فضلها وتناهى، والله الله في القرآن العظيم «2» . والله الله في الجيران. والله الله في الطّارف والتّالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن الوالد. اليوم تستأسد النفوس المهينة، اليوم يستنزل الصبر والسكينة. اليوم «3» تحتاج الهمم أن ترعى هذه النفوس الكريمة الذّمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدة والشّمم، اليوم يرجع إلى الله تعالى المصرّون، اليوم يفيق من نومه الغافلون «4» والمغترون، قبل أن يتفاقم الهول، ويحقّ القول، ويسدّ الباب، ويحيق العذاب، ويسترق بالكفر «5» والرّقاب، فالنساء تقي بأنفسهنّ أولادهنّ الصغار، والطّيور ترفرف لتحمي الأوكار «6» ، إذا أحست العياث «7» بأفراخها والإضرار. تمرّ الأيام عليكم مرّ السحاب، وذهاب الليالي لكم ذهاب، فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كدّ إلّا لزينة يحلّى بها نحر وجيد، ولا سعي إلّا في «8» متاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد. وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمى أو رضى «9» مسخّر السحاب، واستقالة كاشف العذاب، وسؤال مرسل الدّيمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عنكم رحمة السماء؛ واغبرّت جوانبكم المخضرّة احتياجا إلى بلالة الماء وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ
(22)
«10» وإليها الأكفّ تمدّون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصحر «11» منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا للصدقة «12» خبر، وتتوقّون عن «13» إعادة الرغبة إلى الغني «14» الحميد، والولي الذي إِنْ يَشَأْ «15» يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
«16» .
وأيم الله لو كان لهوا لارتقبت الساعات، وضاقت المتّسعات، وتزاحمت على جماله وغصّت الجماعات «17» . أتعزّزا على الله وهو القوي العزيز؟ وتلبيسا «18» على الله وهو
الذي يميّز الخبيث من الطيب والشّبه من الإبريز؟ أمنابذة والنواصي بيده «1» ؟ أغرورا في الشدائد «2» بالأمل والرجوع بعد إليه؟. من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ ثم «3» ينزل الرزق ويفيده؟ من يرجع إليه في الملمّات؟ من يرجّى في الشدائد والأزمات؟ من يوجد في المحيا والممات؟ أفي الله شكّ يختلج القلوب؟ أم «4» غير الله يدفع المكروه، وييسّر المطلوب؟ تفضلون على اللجإ إليه في الشدائد، بواسم الجهل «5» ، وثرّة الأهل «6» وطائفة منكم قد برزت إلى استسقاء رحمته، تمدّ إليه الأيدي والرقاب، وتستكشف بالخضوع لعزته «7» العقاب، وتستعجل إلى مواعد «8» إجابته الارتقاب، وكأنكم أنتم «9» عن كرمه قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه بنيتم. أما تعلمون كيف كان نبيّكم صلوات الله وسلامه عليه من التبلغ باليسير، والاستعداد إلى دار الرحيل «10» الحقّ والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله والرجوع؛ دخلت عليه «11» فاطمة، رضي الله عنها، وبيدها كسرة شعير، فقال: ما هذه «12» يا فاطمة؟ فقالت: يا رسول الله، خبزت قرصة، وأحببت أن تأكل منها.
فقال: يا فاطمة، أما أنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث؟ وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم سبعين مرة، يلتمس رحماه، ويقوم وهو المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، حتى تورّمت «13» قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجدّ والاجتهاد، ومواقف صبره تعرفها الرّبى والوهاد. فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون؟ وإذا لم تهتدوا بهديه «14» فبمن تهتدون؟ وإذا لم ترضوه باتّباعكم فكيف تعتزون «15» إليه وتنتسبون؟ وإذا لم ترغبوا في الاتّصاف بصفاته غضبا لله تعالى وجهادا، وتقللا من العرض الأدنى وسهادا، ففيم ترغبون؟ فابتروا حبال الآمال، فكلّ آت قريب، واعتبروا بمثلات ما دهم «16» من تقدم من أهل البلاد والقواعد، فذهولكم عنها غريب، وتفكّروا في منابرها التي كان «17» يعلوها واعظ أو خطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعدّدة الصفوف، والجماعات
المعمورة بأنواع الطّاعات «1» ، وكيف أخذ الله فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغمضوا «2» عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم، ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان. هذا والناس ناس، والزمان زمان.
فما هذه الغفلة عن من إليه الرّجعى وإليه المصير؟ وإلى متى التّساهل في حقوقه وهو السميع البصير؟ وحتى متى مدّ الأمل في الزمن القصير؟ وإلى متى نسيان اللّجإ إلى الولي النصير؟ قد تداعت الصلبان مجلبة «3» عليكم، وتحرّكت الطواغيت من كلّ جهة إليكم. أفيخذلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم؟ وألسنة الآيات تناديكم؟ لم تمح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من افتتحها «4» من عدد قليل، وصابر فيها كلّ خطب جليل، فوالله لو تمحّض الإيمان، ورضي الرحمن، ما ظهر التّثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عزم «5» التأييد. ولكن شمل الداء، وصمّ النداء، وعميت الأبصار، فكيف الاهتداء والباب مفتوح، والفضل ممنوح؟ فتعالوا نستغفر الله جميعا، فهو الغفور الرحيم، ونستقبل مقيل العثرات «6» ، فهو الرّءوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدّمت أيدينا، فقبول المعاذير من شأن الكريم. سدّت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلّا منك يا كريم «7» ، يا فتّاح، يا وهّاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
(7)
«8» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
(123)
«9» وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(139)
«10» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(200)
«11» . أعدّوا الخيل وارتبطوها، وروّضوا النفوس على الشهادة واغبطوها «12» ، فمن خاف الموت رضي بالدنيّة، ولا بدّ على كلّ حال من المنيّة، والحياة مع الذلّ ليست من شيم «13» أهل العقول والنفوس السّنيّة، واقتنوا السلاح والعدّة، وتعرّفوا إلى الله في الرّخاء يعرفكم في الشدّة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدائه وأعدائكم، واستميتوا من دون أبنائكم، وكونوا كالبنيان «14» المرصوص
لحملات العدو «1» النازل بفنائكم، وحطّوا «2» بالتعويل على الله وحدة بلادكم، واشتروا من الله جل جلاله أبناءكم «3» .
ذكروا أنّ امرأة احتمل السبع ولدها، وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة فتصدّقت برغيف، فأطلق السبع ولدها. وسمعت النداء: يا هذه، لقمة بلقمة، وإنّا لما استودعناه لحافظون. اهجروا «4» الشهوات، واستدركوا الباقيات «5» من قبل الفوات، وأفضلوا «6» لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصّبر على الأزمات، والمواساة في المهمّات، وأيقظوا جفونكم من السّنات. واعلموا أنكم رضّع «7» ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب، والدّين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص «8» ، فتفقّدوا معاملتكم «9» مع الله تعالى، فمهما رأيتم «10» الصّدق غالبا، والقلب للمولى الكريم مراقبا، وشهاب اليقين «11» ثاقبا، فثقوا بعناية الله التي لا يغلبكم معها غالب، ولا ينالكم من أجلها «12» عدوّ مطالب، وأنكم «13» في السّتر الكثيف، وعصمة «14» الخبير اللّطيف. ومهما رأيتم الخواطر متبدّدة، والظنون بالله متردّدة، والجهات التي تخاف وترجى متعدّدة، والغفلة عن الله ملابسها «15» متجدّدة، وعادة دواعي الخذلان دائمة، وأسواق الشهوات قائمة، واعلموا «16» أنّ الله منفّذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنكم قد ظلمتم أنفسكم ولا عدوان إلّا على الظّالمين. والتوبة تردّ الشارد والله يحبّ التّوّابين، ويحب المتطهّرين، وهو القائل: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ
«17» . وما أقرب صلاح الأحوال، إذا صلحت العزائم، وتوالت على حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدّنيا الدنيّة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظّنون:
حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدّنيا الدنيّة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظّنون:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(5)
«18» .
وثوبوا «1» سراعا إلى طهارة القلوب، وإزالة الشّوب «2» ، واقصدوا أبواب غافر الذنوب «3» وقابل التّوب، واعلموا أنّ سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسدّ طريق «4» العوائد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله فتغشوا إيمانكم، ولا تعلّقوا متابكم بالصّرائر «5» ، فهو علّام السرائر، وإنما علينا معاشر الأولياء «6» أن ننصحكم وإن كنّا أولى بالنّصيحة، ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة- علم الله- عن صدق القريحة، وإن شاركناكم في الغفلة، فقد ناديناكم «7» إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنما لكم لدنيا «8» نفس مبذولة في جهاد الكفّار، وتقدّم «9» إلى ربّكم العزيز الغفّار، وتقدّم لديكم إلى مواقف الصّبر التي لا ترتضي «10» بتوفيق الله الفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدّار، والاختيار لله وليّ الاختيار، ومصرّف الأقدار. وها نحن نسرع في الخروج إلى مدافعة هذا العدوّ، ونفدي بنفوسنا البلاد والعباد، والحريم المستضعف والأولاد، ونصلى «11» من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدّعاء إلى «12» من وعد بإجابته، وتقبّل «13» من صرف إليه وجه إنابته. اللهمّ كن لنا في هذا الانقطاع «14» نصيرا، وعلى أعدائك ظهيرا، ومن انتقام عبدة الأصنام مجيرا «15» . اللهمّ قوّ من ضعفت حيلته، فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلّا أنت، إياك «16» نعبد، وإياك نستعين.
اللهمّ ثبّت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدوّ الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستسلام. اللهمّ دافع بملائكتك المسوّمين، [عمّن ضيّقت أرجاؤه، وانقطع إلّا منك رجاؤه. اللهمّ هيّئ لضعفائنا، وكلّنا ضعيف فقير، إليك، ذليل بين يديك حقير، رحمة تروى بالأزمة وتشبع، وقوة تطرد وتستتبع. يا غلاب الغلّاب، يا هازم الأحزاب، يا كريم العوائد، يا مفرّج الشدائد، ربّنا أفرغ علينا صبرا، وثبّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين «17» ] . اللهمّ اجعلنا «18» ممن تيقّظ فتيقّظ، وذكر
فتذكّر، ومن قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174)
«1» . وقد وردت علينا المخاطبات من قبل «2» إخواننا المسلمين الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين، أولي الامتعاض لله والحميّة، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحقّ الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار، والنّفرة لانتهاك ذمار نبيّهم «3» المختار، وحركة سلطانهم «4» محلّ أخينا بمن له من الأولياء والأنصار، إلى الإعانة على هؤلاء الكفّار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النّار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضّمين للعزّ والأجر والفخار، والسّلام الكريم يخصّكم أيها الأولياء، ورحمة الله وبركاته «5» . في الثاني عشر من شهر رمضان المعظم من عام سبع وستين وسبعمائة. عرّفنا الله خيره، صحّ هذا، فكان دفاع الله أقوى، وعصمته أكفى. والحمد لله على عوائده الحسنى.
ومن الغيرة على الدين، وتغيّر أحوال الملحدين، من مآزق جهاد النفس، ما وقع به العمل من إخماد البدع، وإذهاب الآراء المضلة، والاشتداد على أهل الزّيغ والزّندقة. وقد أضاقت أرباب هذه الأضاليل الشريعة، وسدّت مضرّهم في الكافّة، فيسلّط عليهم الحكّام، واستدعيت الشهادات، وأخذهم التّشريد، فهل تحسّ منهم أحدا، أو تسمع لهم ركزا؟
وقيّد في ذلك عني مقالات أخرى. منها رسالة «الغيرة على أهل الحيرة» ، ورسالة «حمل الجمهور على السنن المشهور» . ورسالة «أنشدت على أهل الرّد» .
فارتفع الخوض، وكسدت تلك الأسواق الخبيثة، وصمّ منها الصّدى، ووضح نار الهدى، والحمد لله، ولو تتبعت مناقب الهدى، لأخرج ذلك عن الغرض.
الأحداث: وفي غرة ذي الحجة كانت الثورة الشّنعاء المجحفة بالدولة، وقد كان السلطان أنذر بطائفة، تداخل بعض القرابة، فعاجله بالقبض عليه، وهو في محل ولايته، فصفّد وأحمل إلى قصبة ألمريّة، وخاف أرباب المكيدة افتضاح الأمر، فتعجّلوا إبراز الكامن، وإظهار الخبث، وتولّى ذلك جملة من بني غرون ذنابى بيت
الإدبار، وقد عابهم من بني مطرون، يدور أمرهم على الدّليل البركي «1» ، فأكذب الله دعوتهم، بعد أن أركبوا الشيخ عليّا بن نصر، ونصبوه تلقاء القلعة بباب البنود «2» ، ودعوا الناس إلى بيعته. وأخذ السلطان حذره، وناصبهم القتال، وأشاع العطا، واستركب الجيش. وعمّر الأسوار، فأخفق القصد، وفرّ الدليل البركي، وتقبّض على الرئيس المذكور، وجعل الله العاقبة الحسنة للسلطان.
وكان ممّا أمليته يومئذ بين يدي السلطان، من الكلام المرسل، ما هو نصه، بعد الصّدر: وإلى هذا فممّا أفادته الفطر السليمة، والحلم والقضاء بالشريعة، والنّقل الشرعي والسّنن المرعي، أنّ مغالب الحقّ مغلوب، ومزاحم الله مهزوم، ومكابر البرهان بالجهل موسوم، ومرتع الغيّ مهجور، وسيف العدوان مفلول، وحظّ الشيطان موكوس، وحزب السلطان منصور. ولا خفاء بنعمة الله علينا، التي اطّردها في المواطن العديدة؛ والهضبات البعيدة، والشّبهات غير المبينة، والظّلمات الكثيفة، معلن بوفور الحظّ من رحمته، وإبراز القداح في مجال كرامته، والاختصاص بسيما اختياره، فجعل العصمة ليلة الحادث علينا من دون مضجع أمانا، ونهج لنا سبيل النّجاة بين يدي كسبه علينا، وسخّر لنا ظهري الطّريف والطريق، بعد أن فرّق لنا بحر الليل، وأوضح لنا خفيّ المسلك، وعبّد لنا عاصي الحزم، ودمّث غمر الشّعراء «3» ، وأوطأنا صهوة المنعة، وضرب وجوه الشّرذمة المتبعة، بعد أن ركضوا قنيب البراذن البادئة، من خزائن إهدائنا، المتجمّلة بحلي ركبنا؛ وتحمّلوا السلاح والرّياش المختار من أثير صلاتنا، وأبهروا الأنفاس التي طال ما رفعها إيناسنا وأبلغها الريق تأميننا، وصبّبوا العرق الذي أفضله طعامنا، شرهين إلى دمنا، المحظور بالكتاب والسّنّة، المحوط بسياج البيعة، المحصّن عنهم بتقديم النّعمة، وحرمة الأب ومتعدّد الأذمّة، فجعل الله بيننا وبينهم حاجزا، وسدّ ليأجوجهم من المردة مانعا، وانقلبوا يعضّون الأنامل الغضّة من سريط جفاننا، ويقلّبون الأكفّ التي أجدبها الدّهر، ترفيعا من المهن المترتّبة في خدمتنا، قد حالهم صغار القدر، وذلّ الخيبة، وكبح الله جماعتهم عن التّنفق بتلك الوسيلة. واحتللنا قصبة وادي آش، لا نملك إلّا أنفسنا، لم يشبها غشّ الملّة، ولا كياد الأمّة، ولا دنّسها والحمد لله عار الفاحشة، ولا وسمها الشّوم في الولاية، ولا
أحبط عمل نجابتها دخل العقيدة، ولا مرض السّريرة، مذ سلّمنا المقادة لمن عطف علينا القلوب، وصيّر إلينا ملك أبينا من غير حول ولا حيلة، نرى أنّها أملك لحرمتنا، وأعلم بما كنّا، وأرحم بنا، فتشبّثت بها القدم، وحميت لنا من أهلها، رعاهم الله الهمم، وصدقت في الذّبّ عنّا العزائم، وحاصرنا جيش العدو، وأولياء الشياطين، وظهر الباطل، فبان الظّفر والاستقبال، وظهرت الفئة القليلة، والله مع الصابرين، فغلبوا هناك وانقلبوا صاغرين. ومع ما لنا من الضّيق، وأهمّنا من الأمر، فلم نطلق به غارة، ولا شرهنا إلى تغيير نعمة، ولا سرّحنا عنّا اكتساح على هجمة، ولا شعنا لبسا في بيت ولا حلّة، وأمسكنا الأرماق بيسير الحلال الذي اشتملته خزائننا من أعشار وزكوات، وحظوظ من زراعات، وارتقبنا الفرج ممّن محّص بالشّدة، والإقالة ممن نبّه من الغفلة، وألهم الإقلاع والتّوبة. ثم وفّقنا سبحانه، وألهمنا من أمرنا رشدا، وسلك بنا طريقا في بحر الفتنة يبسا، فدناه بحقن الدماء، وتأمين الأرجاء، وشكرنا على البلاء؛ كشكرنا إيّاه على الآلاء. وخرجنا على الأندلس، ولقد كاد، لولا عصمته، بأن نذهب مذاهب الزّوراء، ونستأصل الشّأفة «1» ، ونستأصل العرصة «2» ، سبحانه ما أكمل صنعه، وأجمل علينا ستره، إلى أن جزنا البحر، ولحقنا بجوار سلطان المغرب. لم تنب عنّا عين، ولا شمخ علينا أنف، ولا حمل علينا بركب «3» ، ولا هتفت حولنا غاشية، ولا نزع عنّا للتقوى والعفاف ستر، بل كان الناس يوجبون لنا الحقّ الذي أغفله الأوغاد من أبناء دولتنا، والضّفادع ببركة نعمتنا، حتى إذا الناس عافوا الصّيحة، وتملّوا الحسرة، وسيموا الخسار والخيبة، وسامهم الطّغام «4» الذين يرجون لله وقارا، ولا يألون لشعائره المعظّمة احتقارا، كلاب الأطماع، وعبدة الطاغوت «5» ، ومدبّر وحجون الجهل، ومياسيس أسواق البعد عن الرّب، وعرائس محرم الزينة، ودود القزّ، وثغار النّهم الأعزّة على المؤمنين بالباطل، الأذلّة في أنفسهم بالحق، ممن لا يحسن المحاولة، ولا يلازم الصّهوة، ولا يحمل السلاح، ولا ينزه مجتمع الحشمة عن الفحشاء، ولا يطعم المسكين، ولا يشعر بوجود الله، جاروا من شقيّهم المحروم، على مضعوف ملتفّ في الحرم المحصور، محتف بلطف المهد، معلّل بالخداع، مسلوب الجرأة بأيدي انتهازهم، شؤم على الإسلام، ومعرّة في وجه الدين، أخذ الله
منهم حقّ الشريعة، وأنصف أئمّة الملّة، فلم ينشبوا أن تهارشوا، فعضّ بعضهم، واستأصلهم البغي، وألحم للسيف، وتفنن القتل، فمن بين مجدّل يوارى بأحلاس الدّواب الوبرة، وغريق يزفّ به إلى سوء الميتة، واستبينت حرمة الله، واستضيم الدّين، واستبيحت المحرّمات، واستبضعت الفروج في غير الرّشدة، وساءت في عدوّ الدّين الحيلة، فتحرّكنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولي الحريّة، وتحريض من أولي الحفيظة والهمّة، وتداحر من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثّائرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثّأي «1» ، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضرّ والبأساء، أما الحبوة فالتمسها، وجلّ الرّبّ، واستشاط عليها جوّ السماء. وأمّا مرافق البحر ومرافده، فسدّت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحميّة، فبدّدها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأمّا المال، فاصطلم السّفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزائنه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وافتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها، وجردتموا الآلة إلى أعلاها، والدّغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخرّبت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحقّ البهت، وخذل الناصر، وتبرّأت الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النّصفة، ولم نقرّه على الدّنيّة، وباينّاه أحوج ما كنّا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفّار مثله، اعتزازا بالله، وثقة به، ولجأ إليه، وتوكلا عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأوجى أمره، وأشدّ قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة، ونهدنا قدما، لا نهاب الهول ولا نراقبه، وأطللنا على أحواز ريّه «2» في الجمع القليل، إلّا من مدد الصّبر المفرد، إلّا من مظاهرة الله الغفل، إلّا من زينة الحق المظلّل جناح عقابه يجتاح الروح، تسدّ جياده بصهيل العزّ، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلمّا أحسّ بنا المؤمنون المطهّرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدّعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشّرذمة الغاوية، والطّائفة المناصبة لله المحاربة، وأقبلوا ثنيّات وأفرادا، وزرافات ووحدانا، ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيّا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلّقون بأذيالنا تعلّق الغريق، يئنّون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرّفناهم الأمان من الأعداء، وأول عارفة جعلونا
عليهم، وصرفنا وجه التّأمين والتّأنيس، وجميل الودّ إليهم، وخارطناهم «1» الإجهاش والرّقعة، ووثّبنا «2» لهم من الذّلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلّفوهم بها، من أخلاف لا يزال تطأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفائهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشمّر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرّ عنها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدّته في الغيّ، وأجرته على حرمة الله. وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة، يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقتياد جيوش الصّلبان، وشدّ الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدّين، وطمس معالم الحق، كيادا لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيّته، وتبديلا لنعمة الله كفرا، ولمعروف الحقّ نكرا، أصبح له الناس على مثل الرّضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظّلّة، وعودة الكرّة، وعقبى المعرّة، والله من ورائهم محيط، وبما يعملون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نقدم مذ حللنا بدار الملك شيئا على مراسلة صاحب قشتالة في أمره، نناشده العهد، ونطري له الوفاء، ونناجزه إلى الحقّ، ونقوده إلى حسن التلطّف، إلى الذي نشاء من الأمن، فحسم الداء، واجتثّ الأعداء، وناصح الإسلام وهو أعدا عدوه، وحزم الدين، وهو المعطل من أدوائه، وصارت صغرى عناية الله بنا، التي كانت العظمى، واندرجت أولاها في الأخرى، وأتت ركائب اليمن واليمين تترى، ورأى المؤمنون أن الله لم يخلق هذا الصّقع سدى ولا هباء عبثا، وأن له فينا خبيئة غيب، وسرّ عناية، يبلّغنا إيّاها، ويطوّقنا طوقها، لا مانع لعطائه، ولا معدّد لآلائه، له الحمد ملء أرضه وسمائه.
فمن اضطردت له هذه العجائب، فحملته عوائق الاستقامة مزية جيوب التقوى، كيف لا يتمنّى، ويدين لله بمناصحته، ويحذر عناد الله بمخالفته، ويخشى عاقبة أمره، إنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. فقلّمنا أظفار المطالبة وأغضينا عن البقيّة وسوّغنا من كشف وجهه في حربنا نعمة الإبقاء، وأقطعنا رحم من قطع طاعتنا جانب الصّفح، وأدررنا لكثير ممن شحّ عنّا ولو بالكلمة الطيّبة جورية الرزق، ووهنا ما وجب لنا من الحق، ودنّا له بكظم الغيظ؛ وعمرنا الرّتب بأربابها،
وجردنا الألقاب بعد خرابها، وقبضنا الجباية محمّلة كتد العادة، مقودة بزمام الرّفق، ممسوحا عطفها بكفّ الطواعية، فبلّلنا صدأ الجيش الممطول بالأماني، المعلّل بالكذب، المستخدم في الذبّ عن مجاثم الفحشاء، ومراقد العهر، ودارينا الأعداء، وحسمنا الداء، وظهر أمر الله وهم كارهون، إلّا أن تلك الشّر ذمة الخبيثة أبقت جراثيم نفاق، ركبها انحجار الغدر، وبذر بها حصيد الشّرّ، وأخلطوا الحقائب اللّعنة ممن ساء ظنّه، وخبث فكره، وظنّ أن العقاب لا يفلته، والحقّ لا يذره، والسياسة لا تحفزه، فدبّت عقاربهم، وتدارت طوافاتهم، وتأبّت فسادهم، فدبّروا أمرا تبره الله تتبيرا، وأوسعه خزيا وبيلا، وجفلوا يرتادون من أذيال القرابة، من استخلصه الشيطان وأصحبه الخذلان، من لا يصلح لشيء من الوظائف، ولا يستقلّ ببعض الكلف، فحركوا منهم زاهق زمانه، من شرّ الدّواب الذين لا يسمعون، فأجّرهم رسنه، وتوقف وقفة العين بين الورد والصّدر، بخلال ما أطلعنا الله طلع نيّته، فعاجلناه بالقبض، واستودعناه مصفدا ببعض الأطباق البعيدة، والأجباب العميقة، فخرج أمرهم، وخافوا أن نحترش السعايات، صباب مكرهم، وتتبع نفاقهم، فأقدموا إقدام العير على الأسد، استعجالا للحين، ورجعا لحكم الخيار، وإقداما على التي هي أشدّ، تولّى كبرها، وكشف وجهه في معصيتها الخبيث البركي «1» حلف التهور والخرق، المموّه بالبسالة وهو الكذوب النّكوث الفلول، تحملنا هفوته، وتغمّدنا بالعفو قديما وحديثا زلّته، وأعرضنا فيه عن النّصيحة، وأبقينا له حكم الولاية، وأنسنا من نفرته، وتعاففنا عن غرّته، وسوّغنا الجرائم التي سبقت، والجرائر التي سلفت، من إفساد العهد وأسر المسلمين، والافتيات على الشرع، والصّدوع بدعوى الجاهلية، فلم يفده إلّا بطرا، ولم يزده إلّا مكرا، والخير في غير أهله يستحيل شرّا، والنفع ينقلب ضرّا. والتفّت عليه طائفة من الخلائق، بنو غرّون قرعاء الجبل والمشأمة، وأذناب بيت الإدبار، ونفاية الشرّار، عرك جرأتهم مكان صهرهم البائس، ابن بطرون، الضعيف المنّة السقيط الهمّة، الخامل التفصيل والجملة، وغيرهم ممن يأذن الله بضلال كيدهم وتخييب سعيهم، فاقتحموا البلد صبيحة يهتفون بالناس أن قد طرق حمامهم، وأن العدو قد دهمهم، ملتفتين يرون أنهم في أذيالهم، وأنّ رماحهم تنهشهم وتنوشهم، وسرعانهم ترهقهم، كأنهم سقطوا من السماء، أو ثاروا من بين الحصباء، ثم جالوا في أزقّة البلد يقذفون في الصّفاح نار الحباحب «2» ركضا فوق الصّخر المرصوف،
وخوضا في الماء غير المرهوف. ثم قصدوا دار الشيخ البائس علي بن أحمد بن نصر، نفاية البيت، ودردى القوم، ممسوخ الشكل، قبيح اللّتغ، ظاهر الكدر، لإدمان المعاقرة، مزنون بالمعاقرة والرّبت على الكبرة، ساقط الهمّة، عديم الدّين والحشمة، منتمت في البخل والهلع، إلى أقصى درجات الخسّة، مثل في الكذب والنميمة، معيّب المثانة، لا يرق بوله، ولا يجفّ سلسه، فاستخرجوه مبايعا في الخلافة، منصوبا بأعلى كرسي الإمامة، مدعوما بالأيدي لكونه قلقا لا يثبت على الصّهوة، مختارا لحماية البيضة، والعدل في الأمة، مغتما للذبّ عن الحنيفية السّمحة، وصعدوا به إلى ربوة بإزاء قلعتنا، منتترا باب البنود «1» ، مستندا إلى الربض، مطلا على دار الملك، قد أقام له رسم الوزارة ابن مطرون الكاري، الكسح الدروب برسم المسومة، الحرد، المهين الحجة، فحل طاحونة الغدر، وقدر السّوق والخيانة، واليهودي الشكل والنّحل، وقرعت حوله طبول الأعراس، إشادة بخمول أمره، واستهجان آلته، ونشرت عليه راية فال رأيها، وخاب سعيها، ودارت به زعنفة من طغام من لا يملي ولا يزيد المكا والصّغير من حيله، وانبثّت في سكك البلد مناديه، وهتف أولياء باطله باسمه وكنيته، وانتجزوا مواعيد الشيطان فأخلفت، ودعوا سماسير الغرور فصمّت، وقدحوا زناد الفتنة فصلدت وما أوارت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنّا بالله وتوكلنا عليه، وفوّضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند، وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد. وملأنا الأكفّ بالسلاح، وعمرنا الأبراج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الرّبض، نخبر مخبره؛ ونسبر غوره، فألفيناه متواريا في وكره، مرعيا على دينه، مشفقا من الإخطار برمّه، مشيرا بكمّه. وتفقّدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، وليّ أمرنا، الذي اتخذناه ظهيرا؛ واستنبطناه مشيرا، والتزمناه جليسا وصهيرا، ولم ندخر عنه محلّا أثيرا، الشيخ الأجلّ، أبا سعيد عثمان ابن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحّو، ممهّد الرعب بقدومه، والسّعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الجملة، سابغ العدّة، مزاح العلة، وافر النّاشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولفّ عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى داسه
بالسّنابك، وتخلّفه مجرّ العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السّلم؛ واستظلاله بظلال العافية، لحثّ الفاقرة، ووقعت به الرّزيّة. وفرّ الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيّهم أذلّ من وتد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبّض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعلبان مكيدة، وشكيّة ضلال ومظنّة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرّع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثلّ إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثائرة، والحمد لله من يومها، واجتثّت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتمّ نوره ولو كره الكافرون إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
(139)
«1» .وماذا رابهم منّا، أصغر الله منقلبهم، وأخزى مردّهم، واستأصل فلكهم؟ أولا يتبنى أمر وارثه، ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمق الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلّا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوّغا من هدنة، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفّة، وأظهر الله علينا من نعمة. ربّنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهمّ ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنّا أردنا لجماعتهم شرّا، وفي دينهم إغماضا، وعن العدل فيهم عدولا، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعي صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسّلنا طاعتهم، واهد بنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.
ولما أسفر صبح هذا الصّنع عن حسن العفو، واستقرّ على التي هي أزكى، وظهر لنا، لا تخاف بالله دركا ولا تخشى، وأن سبيل الحق أنجى ومحجّته أحجى، خاطبنا كم نجلو نعم الله قبلنا عليكم، ونشيد بتقوى الله بناديكم، وعنايته لدينا ولديكم، ونهدي طرف صنعه الجميل قبلنا إليكم ليكسبكم اعتبارا، فزجّوا الله وقارا، وتزيّدوا يقينا واستبصارا، وتصفّوا العين من اختار لكم اختيارا. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم. كتب في كذا. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.