الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن محمد بن خلف بن محمد بن سليمان بن سوار ابن أحمد بن حزب الله بن عامر بن سعد الخير بن عيّاش
«1»
المكنى بأبي عيشون بن حمّود، الداخل إلى الأندلس صحبة موسى بن نصير، ابن عنبسة بن حارثة بن العباس بن المرداس، يكنّى أبا البركات، بلفيقي «2» الأصل، مروي «3» النشأة والولادة والسلف، يعرف بابن الحاج، وشهر الآن في غير بلده بالبلفيقي، وفي بلده بالمعرفة القديمة.
أوّليّته: قد تقدم اتصال نسبه بحارثة بن العباس بن مرداس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد خطبائه وشعرائه، رئيس في الإسلام، ورئيس في الجاهلية. وكان لسلفه، وخصوصا لإبراهيم، من الشهرة بولاية الله، وإيجاب الحقّ من خلقه ما هو مشهور، حسبما تنطق به الفهارس، يعضّد هذا المجد من جهة الأمومة، كأبي بكر بن صهيب، وابن عمه أبي إسحاق، وغيرهم، الكثير ممن صنّف في رجال الأندلس، كأبي عبد المجيد المالقي، وابن الأبار، وابن طلحة، وابن فرتون، وابن صاحب الصلاة، وابن الزّبير، وابن عبد الملك، فلينظر هناك.
حاله: نشأ ببلده ألمرية عمود العفة، فضفاض جلباب الصّيانة، غضيض طرف الحياء، نائي جنب السّلام، حليف الانقباض والازورار، آويا إلى خالص النّشب وبحت الطّعمة، لا يرى إلّا في منزل من سأله، وفي حلق الأسانيد، أو في مسجد من المساجد خارج المدينة المعدّة للتّعبّد، لا يجيء سوقا، ولا مجمعا، ولا وليمة، ولا مجلس حاكم أو وال، ولا يلابس أمرا من الأمور التي جرت عادته أن يلابسها بوجه من الوجوه. ثم ترامى إلى رحلة، فجاس خلال القطر الغربي إلى بجاية، نافضا إياه من العلماء والصلحاء والأدباء والآثار بتقييده، وأخذه قيام ذكر، وإغفال شهرة. ثم صرف عنانه إلى الأندلس، فتصرف في الإقراء، والقضاء، والخطابة. وهو الآن نسيج
وحده في أصالة عريقة، وسجيّة على السلامة مفطورة، فما شئت من صدر سليم، وعقد وثيق، وغور قريب، ونصح مبذول، وتصنّع مرفوض، ونفس ساذجة، وباطن مساو للظاهر، ودمعة سريعة، وهزل يثمر تجلّة، وانبساط يفيد حسن نيّة، إلى حسن العهد، وفضل المشاركة، ورقّة الحاشية، وصلابة العود، وصدق العزيمة، وقوة الحامية، وبلاغة الموعظة، وجلّة الوقت، وفائدة العصر، تفننا وإمتاعا، فارس المنابر غير الهيّابة، ولا الجزوع، طيّب النّغمة بالقرآن، مجهشا في مجال الرّقة، كثير الشفقة لصالح العامة، متأسفا لضياع الأوقات، مدمعا على الفيئة، مجمّا، محوّلا في رئاسة الدين والدنيا. هذا ما يسامح فيه الإيجاز، ويتجافى عنه الاختصار، ويكفي فيه الإلماع والإشارة، أبقى الله شيخنا أبا البركات.
مشيخته وولايته: تقدم قاضيا بقنالش «1» ، في جمادى الثانية عام خمسة عشر وسبع مائة ثم ولّي مربلّة، وإستبونة «2» ثم كانت رحلته إلى بجاية. ثم عاد فقعد بمجلس الإقراء من مالقة للكلام على صحيح مسلم، متّفقا على اضطلاعه بذلك. ثم رحل إلى فاس. ثم آب إلى الأندلس، واستقرّ ببلده ألمرية، فقعد بمسجدها الجامع للإقراء، ثم قدّم قاضيا ببرجة ودلّاية، والبينول «3» وفنيانة «4» ، ثم نقل عنها إلى بيرة، ثم غربي ألمرية. ثم قدّم قاضيا بمالقة، ثم قدّم بغربها مضافا إلى الخطابة، ثم أعيد إلى قضاء ألمرية، بعد وفاة القاضي أبي محمد بن الصائغ. ومن كتاب «طرفة العصر» من تأليفنا في خبر ولايته ما نصه:
فتقلّد الحكم في الثالث والعشرين لشعبان من عام سبعة «5» وأربعين وسبعمائة، ثالث يوم وصوله مستدعى، وانتابه الطّلبة ووجوه الحضرة والدولة، مهنئين بمثواه من دار الصيانة، ومحل التّجلّة، إحدى دور الملوك بالحمراء، فطفقوا يغشونه بها زرافات ووحدانا، في إتاحة الخير، وإلهام السّداد، وتسويغ الموهبة. وكان وصوله، والأفق قد اغبرّ، والأرض قد اقشعرّت لانصرام حظّ من أيام الشتاء الموافق لشهر ولايته، لم
يسح فيه الغمام بقطرة، ولا لمعت السماء بنزعة، حتى أضرّت الأنفس الشحّ، وحسر العسر عن ساقه، وتوقفت البذور، فساعده الجدّ بنزول الرّحمة عند نزوله من مرقاة المنبر، مجابة دعوة استسقائه، ظاهرة بركة خشوعه، ولذلك ما أنشدته في تلك الحال «1» :[الكامل]
ظمئت إلى السّقيا الأباطح والرّبا
…
حتى دعونا العام عاما مجدبا
والغيث مسدول الحجاب وإنما
…
علم الغمام قدومكم فتأدّبا
وتولى النظر في الأحكام فأجال قداحها، مضطلعا بأصالة النظر، وإرجاء المشبّهات، وسلك في الخطابة طريقة مثلى، يفرغ في قوالب البيان أغراضها، ويصرف على الأحكام الكوائن والبساطات أساليبها، من المحاكاة، باختلاف القبض والبسط، والوعد والوعيد، حظوظها على مقبض العدل، وسبب الصواب يقوم على كثير مما يصدع به، من ذلك شاهد البديهة، ودليل الاستيعاب. قال شيخنا أبو البركات: ثم صرفت عنها للسبب المتقدم، وبقيت مقيما بها، لما اشتهر من وقوع الوباء بألمريّة، ثم أعدت إلى القضاء والخطابة بألمرية، وكتب بذلك في أوايل رجب عام تسعة وأربعين. وبقيت على ذلك إلى أن صرفت بسبب ما ذكر. ثم أعدت إليها في أواخر رجب سنة ست وخمسين، عسى أن يكون الانقطاع لله سبحانه. فأنا الآن أتمثل بما قاله أبو مطرّف «2» بن عميرة رحمه الله:[الخفيف]
قد نسبنا إلى الكتابة يوما
…
وأتت «3» خطّة القضاء تليها
وبكلّ لم نطق للمجد إلّا
…
منزلا نابيا وعيشا كريها
نسبة بدّلت فلم تتغيّر
…
مثل ما يزعم المهندس فيها
بدّل من لفظ الكتابة إلى الخطابة. وأغرب ما رأيت ما أحكي لك، وأنت أعلم ببعض ذلك، أن أفضل ما صدر عني في ذلك، الخطة من العمل الذي أخلصت لله فيه، ورجوت منه المثوبة عليه، وفيه مع ذلك مفتخر لمن أراد أن يفتخر غير ملتفت للدنيا، فعليه عوّلت سبحانه. انتهى كلامه.
تصانيفه: كتب إليّ بخطّه ما نصه، وهو فصل من فصول: وأما تواليفي فأكثرها، أو كلها عير متمّمة، في مبيّضات. منها كتاب قد يكبو الجواد في أربعين
غلطة عن أربعين من النّقّاد، وهو نوع من تصحيف الحفّاظ للدّارقطني، منها «سلوة الخاطر فيما أشكل من نسبة النّسب الرّتب إلى الذّاكر» . ومنها كتاب «قدر جمّ في نظم الجمل» . ومنها كتاب «خطر فبطر، ونظر فحظر، على تنبيهات على وثائق ابن فتّوح» . ومنها كتاب «الإفصاح فيمن عرف بالأندلس بالصّلاح» . ومنها «حركة الدّخولية في المسألة المالقية» . ومنها «خطرة المجلس في كلمة وقعت في شعر استنصر به أهل الأندلس» جزء صغير. ومنها «تاريخ ألمريّة» غير تام. ومنها ديوان شعره المسمى ب «العذب والأجاج في شعر أبي البركات ابن الحاج» «1» . ومختصره سمّاه القاضي الشريف «اللؤلؤ والمرجان، اللذان من العذب والأجاج يستخرجان» «2» . ومنها «عرائس بنات الخواطر المجلوّة على منصّات المنابر» يحتوي على فصول الخطب التي أنشئت بطول بنى والخطابة. ومنها «المؤتمن على أنباء أبناء الزمن» . ومنها تأليف في أسماء الكتب، والتّعريف بمؤلفيها، على حروف المعجم.
ومنها «ما اتفق لأبي البركات فيما يشبه الكرامات» . ومنها كتاب «ما رأيت وما رئي لي من المقامات» . ومنها كتاب «المرجع بالدّرك على من أنكر وقوع المشترك» .
ومنها «مشبّهات اصطلاح العلوم» . ومنها «ما كثر وروده في مجلس القضاء» . ومنها «الغلسيّات» ، وهو ما صدر عني من الكلام على صحيح مسلم أيام التكلّم عليه في التّغليس. ومنها «الفصول والأبواب، في ذكر من أخذ عني من الشيوخ والأتباع والأصحاب» .
ثم قال: وقد ذهب شرخ الشّباب ونشاطه، وتقطّعت أوصاله، ورحل رباطه، وأصبحت النفس تنظر لهذا كله بعين الإمهال والإغفال، وقلّة المبالاة التي لا يصل أحد بها إلى منال. وهذه الأعمال لا ينشّط إليها إلّا المحرّكات التي هي مفقودة عندي، أحدها طلبة مجتمعون متعطّشون إلى ما عندي، متشوّفون غاية التّشوّف، وأين هذه بألمرية؟ الثاني، طلب رياسة على هذا، ومتى يرأس أحد بهذا اليوم، وعلى تقدير أن يرأس به وهو محال في عادة هذا الوقت، فالتشوّف لهذه الرياسة مفقود عندي.
الثالث، سلطان يملأ يد من يظهر مثل هذا، على يده غبطة، وما تم هذا. الرابع، نيّة خالصة لوجه الله تعالى في الإفادة، وهذا أيضا مفقود عندي، ولا بدّ من الإنصاف.
الخامس، قصد بقاء الذّكر، وهذا خيال ضعيف بعيد عني. السادس، الشفقة على شيء ابتدى، وسعي في تحصيل مباديه، أن يضيع على قطع ما سوى هذا الإشفاق،
وهذا السادس، هو الذي في نفسي منه شيء، وبه أنا أقيد أسماء من لقيت، وما أخذت، ويكون إن شاء الله إبراز إذا الصّحف نشرت. وأكثر زماني يذهب في كيفية الخروج عما أنا فيه، فإذا ينظر إليّ العاقل في هذا الوقت بعين البصيرة، لا يسعه إلّا الشّفقة عليّ، والرّحمة لي، فإنه يرى رجلا مطرقا أكثر نهاره، ينظر إلى مآله، فلا ينشط إلى إصلاحه، وهو سابع ولا يلبس بالعبادة، وهو في زمانها المقارب للفوت، ولا ينهض إلى إقامة حقّ كما ينبغي لعدم المعين، ولا يجنح إلى شيء من راحات الدنيا، ويشاهد من علوم الباطل الذي لا طاقة له على رفعه ما يضيّق صدر الحرّ يقضي نصف النهار، محتلّا في مكان غير حسن، تارة يفكر، وتارة يكتب ما هو على يقين منه أنه كذا لا ينتفع به، ونصف النهار يقعد للناس، تارة يرى ما يكره، وتارة يسمع ما يكره، لا صديق يذكّره بأمر الآخرة، ولا صديق يسليه بأمر الدنيا، يكفيني من هذه الغزارة، اللهمّ إليك المشتكى يا من بيده الخلق، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
شعره: من مطوّلاته في النزعة الغربية التي انفرد بها، منقولا من ديوانه، قال:
ومما نظمته بسبتة في ذي الحجة من عام خمسة وعشرين وسبعمائة، في وصف حالي، وأخذها عني الأستاذ بسبتة، أبو عبد الله بن هاني، والأديب البارع أبو القاسم الحسيني، وأبو القاسم بن حزب الله، وسواهم. ولما انفصلت من سبتة إلى بلاد الريف «1» زدت عليها أبياتا في أولها، وكثر ذلك بوادي لو من بلاد الريف وهي:
[الطويل]
تأسفت لكن حين عزّ التأسّف
…
وكفكفت دمعا حين لا عين تذرف
ورام سكونا هو في رجل طائر
…
ونادى بأنس والمنازل تعنف
أراقب قلبي مرّة بعد مرة
…
فألفيه ذيّاك الذي أنا أعرف
سقيم ولكن لا يحسّ بدائه
…
سوى من له في مأزق الموت موقف
وجاذب قلبا ليس يأوي لمألف
…
وعالج نفسا داؤها يتضاعف
وأعجب ما فيه استواء صفاته
…
إذ الهمّ يشقيه أو السرّ ينزف
إذا حلّت الضّرّاء لم ينفعل لها
…
وإن حلّت السّراء لا يتكيّف
مذاهبه لم تبد غاية أمره
…
فؤاد، لعمري، لا يرى منه أطرف
فما أنا من قوم قصارى همومهم
…
بنوهم وأهلهم وثوب وأرغف
ولا لي بالإسراف فكر محدث
…
سيغدو حبيبي أو سيشعر مطرف
ولا أنا ممّن لهوه جلّ شأنه
…
بروض أنيق أو غزال مهفهف
ولا أنا ممّن أنسه غاية المنى
…
بصوت رخيم أو نديم وقرقف
ولا أنا ممّن تزدهيه مصانع
…
ويسبيه بستان ويلهيه مخرّف
ولا أنا ممن همّه جمعها فإن
…
تراءت يثب بسعي لها وهو مرجف
على أنّ دهري لم تدع لي صروفه
…
من المال إلّا مسحة أو مجلف
ولا أنا ممن هذه الدار همّه
…
وقد غرّه منها جمال وزخرف
ولا أنا ممن للسّؤال قد انبرى
…
ولا أنا ممن صان عنه التّعطف
ولا أنا ممن نجّح الله سعيهم
…
فهمّتهم فيها مصلّى ومصحف
فلا في هوى أضحى إلى اللهو قائدا
…
ولا في تقى أمسى إلى الله يزلف
أحارب دهري في نقيض طباعه
…
وحربك من يقضي عليك تعجرف
وأنظره شزرا بأصلف ناظر
…
فيعرض عنّي وهو أزهى وأصلف
وأضبطه ضبط المحدّث صحفه
…
فيخرج في التّوقيع أنت المصحف
ويأخذ مني كلّ ما عزّ نيله
…
ويبدو بجهلي منه في الأخذ محتف
أدور له في كل وجه لعلّني
…
سأثبته وهو الذي ظلّ يحذف
ولما يئسنا منه تهنّا ضرورة
…
فلم تبق لي فيها عليه تشوّف
تكلّفت قطع الأرض أطلب سلوة
…
لنفسي فما أجدى بتلك التكلّف
وخاطرت بالنفس العزيزة مقدما
…
إذا ما تخطّى النّصل قصد مرهف
وصرّفت نفسي في شؤون كثيرة
…
لحظّي فلم يظفر بذاك التّصرّف
وخضت لأنواع المعارف أبحرا
…
ففي الحين ما استجرتها وهي تترف
ولم أحل من تلك المعاني بطائل
…
وإن كان أهلوها أطالوا وأسرفوا
وقد مرّ من عمري الألذّ وها أنا
…
على ما مضى من عهده أتلهّف
وإني على ما قد بقي منه إن بقي
…
لحرمة ما قد ضاع لي أتخوّف
أعدّ ليالي العمر والفرض صومها
…
وحسبك من فرض المحال تعسّف
على أنها إن سلّمت جدليّة
…
تعارض آمالا عليها ينيّف
تحدّثني الآمال وهي كدينها
…
تبدّل في تحديثها وتحرّف
بأنّي في الدّنيا سأقضي مآربي
…
وبعد يحقّ الزهد لي والتقشّف
وتلك أمان لا حقيقة عندها
…
أفي قرني الضّدّين يبقى التكلّف؟
وربّ أخلّاء شكوت إليهم
…
ولكن لفهم الحال إذ ذاك لم يفوا «1»
فبعضهم يزري عليّ وبعضهم
…
يغضّ وبعض يرثي ثم يصدف
وبعضهم يومي إليّ تعجّبا
…
وبعض بما قد رأيته يتوقف
وبعضهم يلقي جوابه على
…
مقتضى العقل الذي عنه يتوقّف
يسيء استماعا ثم يعدّ إجابة
…
على غير ما تحذوه يحذو ويخصف
ولا هو يبدي لي عليّ تعقّلا
…
ولا هو يرثي لي ولا هو يعنف
وما أمرنا إلّا سواء إنما
…
عرفنا وكلّ منهم ليس يعرف
فلو قد فرغنا من علاج نفوسنا
…
وحطّوا الدنيّة من عليل وأنصفوا «2»
أما لهم من علّة أرمت بهم
…
ولم يعرفوا أغوارها وهي تتلف؟
وحضنا لهم في الكتب عن كنه أمرهم
…
ومثلي عن تلك الحقائق يكشف
وصنّفت في الآفات كلّ غريبة
…
فجاء كما يهوى الغريب المصنّف
وليس عجيبا من تركّب جهلهم
…
فإن يحجبوا عن مثل ذاك وصرّفوا «3»
إذا جاءنا بالسّخف من نزو عقله
…
إذا ما مثلناه أزهى وأسخف
فما جاءنا إلّا بأمر مناسب
…
أينهض عن كفّ الجبان المثقّف؟
ولكن عجيب الأمر علمي وغفلتي
…
فديتكم أيّ المحاسن أكشف
إلّا أنها الأقدار يظهر سرّها
…
إذا ما وفى المقدور فالرأي يخلف
أيا ربّ إن اللّب طاش بما جرى
…
به قلم الأقدار والقلب يرجف
وإنّا لندعوهم ونخشى وإنما
…
على رسمك الشّرعي من لك يعكف
أقول وفي أثناء ما أنا قائل
…
رأيت المنايا وهي لي تتخطّف
وإني مع السّاعات كيف تقلّبت
…
لأسهمها إن فوّقت متهدّف
وما جرّ ذا التّسويف إلّا شيبتي
…
تخيّل لي طول المدى فأسوّف
إذا جاء يوم قلت هو الذي يلي
…
ووقتك في الدنيا جليس مخفّف
أقدّم رجلا عند تأخير أختها
…
إذا لاح شمس فالنّفس تكسف
كأنّي لداني المراقد منهم
…
ولم أودعهم والخضّ ريّان ينسف
وهبني أعيش هل إذا شاب مفرقي
…
وولّى شبابي هل يباح التّشوّف؟
وكيف ويستدعي الطريق رياضة
…
وتلك على عصر الشّباب توظّف
متى يقبل التّقويم غير عطوفة
…
وبي بعده حسّان «1» فالنّار تنسف؟
ولو لم يكن إلّا ظهورة سرّه
…
إذا ما دنا التّدليس هان التنطّف
أمولى الأسارى أنت أولى بعذرهم
…
وأنت على المملوك أحقّ وأعطف
قذفنا بلجّ البحر والقيد آخذ
…
بأرجلنا والرّيح بالموج تعصف
وفي الكون من سرّ الوجود عجائب
…
أطلّ عليها العارفون وأشرفوا «2»
وكعت عليهم نكثة فتأخّروا
…
وددت بأن القوم بالكل أسعف
فليس لنا إلّا أن نحطّ رقابنا
…
بأبواب الاستسلام والله يلطف
فهذا سبيل ليس للعبد غيرها
…
وإلّا فماذا يستطيع المكلّف
وقال: وضمنها محاورة بينه وبين نفسه، وقيّدتها عنه زوال يوم الثلاثاء التاسع والعشرين لمحرم خمس وخمسين وسبعمائة، برابطة العقاب «3» ، متعبد الشيخ ولي الله أبي إسحاق الإلبيري، رحمه الله، فمنها «4» :[الكامل]
يأبى شجون حديثي الإفصاح
…
إذ لا تقوم بشرحه الألواح
قالت صفية إذ مررت «5» بها
…
أفلا تنزّل ساعة ترتاح؟
فأجبتها لولا الرقيب لكان لي «6»
…
ما تبتغي بعد الغدوّ رواح
قالت: وهل في الحيّ حيّ غيرنا؟
…
فاسمح فديتك فالسماح رياح
فأجبتها: إنّ الرقيب هو الذي «7»
…
بيديه منّا هذه الأرواح
وهو الشهيد على موارد عبده
…
سيّان ما الإخفاء والإفصاح «8»
قالت وأين يكون جود «9» الله إذ
…
يخشى «10» ومنه هذه الأفراح
فافرح بإذن «11» الله جل جلاله
…
واشطح فنشوان الهوى شطّاح
وانهج «1» على ذمم الرجال ولا تخف
…
فالحكم «2» رحب والنّوال مباح
وانزل على حكم السّرور ولا تبل
…
فالوقت صاف ما عليك جناح
واخلع عذارك في الخلاعة يا أخي
…
باسم الذي دارت به الأقداح
وانظر إلى هذا النهار فسنّه
…
ضحكت ونور جبينه وضّاح
أنواره ضحكت «3» وأترع كأسه
…
فقد استوى ريحانه والرّاح
وانظر إلى الدنيا بنظرة رحمة
…
فجفاؤها بوفائها ينزاح
فأجبتها لو كنت تعلم «4» ما الذي
…
يبدو لتاركها وما يلتاح
من كلّ معنى غامض من أجله
…
قد ساح قوم في الجبال وناحوا «5»
حتى لقد سكروا من الأمر الذي
…
هاموا به عند العيان فباحوا «6»
لعذرتني وعلمت أني طالب
…
ما الزهد في الدنيا له مفتاح
فاترك صفيّك قارعا باب الرضى
…
والله جل جلاله الفتّاح
يا حيّ «7» ، حيّ على الفلاح وخلّني
…
فجماعتي حثّوا المطيّ وراحوا «8»
وقيدت من خطه في جملة ما كتب إليّ ما نصه:
ومما نظمته بغرناطة، وبعضه ببرجة، وهو مما يعجبني، وأظنه كتبه لك، وهو غريب المنزع، وإنه لكما، قال «9» :[الكامل]
خذها على رغم الفقيه سلافة
…
تجلى بها الأقمار في شمس الضّحى
أبدى أطباء القلوب لأهلها
…
منها شرابا للنفس مبرّحا «10»
وإذا المرائي «11» قال في نشوانها
…
قل أنت بالإخلاص فيمن قد صحا
ياقوتة «12» دارت على أربابها
…
فاهتزّت الأقدام منها واللّحا
مزجت فغار الشيخ من تركيبها
…
فلذاك جرّدها وصاح وسرّحا «13»
فبدت «14» فغار الشيخ من إظهارها
…
فاشتدّ يبتدر الحجاب ملوّحا
لا تعترض أبدا على مسترفد «1»
…
قد غار من أسرارها أن يفضحا «2»
وكذاك لا تعتب على مستهتر
…
لم يدر ما الإيضاح لمّا أوضحا
سكران يعثر في ذيول لسانه
…
كفرا ويحسب أنه قد سبّحا
كتم الهوى حريّة «3» بعض وبع
…
ض ضاق ذرعا بالغرام فبرّحا
لا تخشينّ «4» على العدالة هاتفا
…
ثغر «5» ارتياح العاشقين فجرّحا «6»
الحبّ خمر العارفين قد ضفت «7»
…
حتما على من ذاقها أن يشطحا
فاشطح على هذا الوجود وأهله
…
عجبا فليس براجح من رجّحا
كبّر عليهم إنهم موتى على
…
غير الشّهادة ما أغرّ وأقبحا
واهزأ بهم فمتى يقل نصحاؤهم
…
أهج «8» فقل حتى ألاقي مفلحا
وإذا أريبهم «9» استخفّ فقل له
…
بالله يا يحيى بن يحيى دع جحا
أبني سليم قد نجا مجنونكم
…
مجنون ليلى العارفين «10» به قد محا
هل يستوي من لم يبح بحبيبه
…
مع من بذكر حبيبه قد أفصحا «11»
فافرح وطب وابهج «12» وقل ما شئته «13»
…
ما أملح الفقراء يا ما أملحا
ومن مقطوعاته التي هي آيات العجائب، وطرر حلل البدائع في شتى الأغراض والمقاصد، قوله يعتذر لبعض الطلبة، وقد استدبره ببعض حلق العلم بسبتة «14» :[السريع]
إن كنت أبصرتك لا أبصرت
…
بصيرتي في الحقّ برهانها
لا غرو أني لم أشاهدكم
…
فالعين لا تبصر إنسانها «15»
ومنها قوله في غرض التورية، وهو بديع في معناه «1» :[الطويل]
يلومونني بعد العذار على الهوى
…
ومثلي في وجدي «2» له لا يفنّد «3»
يقولون «4» أمسك عنه قد ذهب الصّبا
…
وكيف يرى «5» الإمساك والخيط أسود؟ «6»
ومنها قوله في المجبّنات، وهو من الغريب البديع «7» :[الطويل]
ومصفرّة الخدّين مطويّة الحشا
…
على «8» الجبن والمصفرّ يؤذن بالخوف
لها هيئة «9» كالشمس عند طلوعها
…
ولكنها في الحين تغرب في الجوف
ومنها قوله في النّصح، ولها حكاية تقتضي ذلك:[الكامل]
لا تبذلنّ نصيحة إلّا لمن
…
تلقى لبذل النّصح منه قبولا
فالنصح إن وجد القبول فضيلة
…
ويكون إن عدم القبول فضولا
ومنها في الحكم «10» : [الخفيف]
ما رأيت الهموم تدخل إلّا
…
من دروب العيون والآذان
غضّ طرفا وسدّ سمعا ومهما «11»
…
تلق همّا فلا تثق بضمان
ومنها قوله، وهو من المعاني المبتكرات «12» :[الكامل]
حزنت عليك العين يا مغنى الهوى
…
فالدمع منها بعد بعدك ما رقا «13»
ولذاك قد «1» صبغت «2» بلون أزرق
…
أو ما ترى ثوب المآتم أزرقا؟
ومنها قوله في المعاني الغربية. قال: ومما نظمته في عام أربعة وأربعين في التفكر في المعاني، مغلق العينين:[السريع]
أبحث فيما أنا حصّلته
…
عند انغماض العين في جفنها
أحسبني كالشاة مجترّة
…
تمضغ ما يخرج من بطنها
وقال: ومما نظمته بين أندرش وبرجة «3» عام أربعة وأربعين، وأنا راكب مسافر، وهو مما يعجبني، إذ ليس كل ما يصدر عني يعجبني. قلت ويحقّ أن يعجبه «4» :
[الطويل]
تطالبني نفسي بما ليس لي به
…
يدان «5» فأعطيها الأمان «6» فتقبل
عجبت لخصم لجّ في طلباته
…
يصالح عنها «7» بالمحال فيفصل
[قال: ومما نظمته في السنّة المذكورة من ذمّ النساء]«8» : [الخفيف]
ما رأيت النّساء يصلحن إلّا
…
للذي يصلح الكنيف لأجله «9»
فعلى هذه الشريطة صالح «10»
…
هنّ لا تعد بامرئ عن محلّه
قال: ومما نظمته في السنّة المذكورة «11» : [الخفيف]
قد هجرت «12» النساء دهرا فلم أب
…
لغ أذاني «13» صفاتهنّ الذميمه
ما عسى أن يقال في هجو من قد
…
خصّه المصطفى بأقبح شيمه
أو يبقى لناقص «14» العقل والدّي
…
ن إذا عدّت المثالب قيمه؟
وقال: وما نظمته في تاريخ لا أذكره الآن، هذان البيتان، ولم أر معناهما لمن مضى. ولو رحل رجل إلى خراسان، ولم يأت إلّا بهما، كان ممن لم يخفق
مسعاه، ولا أجدب مرعاه، ينفتح بهما للقلب باب من الراحة فسيح، إذا أجهده ما يكابد من المضاضة، ونقض العهود، واختلاف الوعود. وهذه المحنة من شرّ ما ابتلي به بنو آدم، شنشنة نعرفها من أمرهم. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي «1» :
[الطويل]
رعى الله إخوان الخيانة إنهم
…
كفونا مؤونات البقاء «2» على العهد
فلو «3» قد وفوا كنّا «4» أسارى حقوقهم
…
نراوح ما «5» بين النّسيئة والنقد
وقال يداعبني، وعلى سبيل الكناية يخاطبني: ولقد لقيت رجلا ببلاد الهند يعرف بأبي البركات ابن الحاج، وكان برد في بستان كان له، فقلت أهجوه عام أربعة وأربعين وسبعمائة:[الكامل]
قالوا أبو البركات جمّ «6» ماؤه
…
فغدا أبو البركات لا البركات «7»
قلنا لأن يكنى بموجوداته
…
أولى من أن يكنى بمعدومات
ومما نظمته عام خمسة وأربعين وسبعمائة «8» : [السريع]
قد كنت معذورا بعلمي وما
…
أبثّ من وعظي بين البشر «9»
من حيث قد أمّلت إصلاحهم
…
بالوعظ والعلم فخان النّطر
فلم أجد أوعظ للناس من
…
أصوات وعّاظ جلود البقر
ومما نظمته بمرسى تلهى، من بلد هنين «10» ، عام ثلاثة وخمسين، وقد أصابني هوس في البحر وخاطبت به بعض الأصحاب:[الكامل]
رأسي به هوس جديد لا الذي
…
تدريه من هوس قديم فيه
قد حلّ ما أبديه من هذا كما
…
قد حلّ من ذاك الذي أخفيه
ومن الملح قوله: قال: وبتّ بحمام الخندق من داخل ألمرية ليلة الجمعة الثامن من شهر محرم عام اثنين وثلاثين منفردا، فطفىء المصباح، وبقيت مفكرا، فخطر ببالي ما يقول الناس من تخيّل الجنّ في الأرحاء والحمامات، وعدم إقدام كافة الناس إلّا ما شذّ عند دخولها منفردين بالليل، لا سيما في الظلام، واستشعرت قوة في نفسي عند ذلك، أعراض وأوهام، فقلت مرتجلا، رافعا بذلك صوتي:[الكامل]
زعم الذين عقولهم قدرها
…
إن عرّضت للبيع غير ثمين
أن الرّحا معمورة بالجن وال
…
حمّام عندهم كذا بيقين
إن كان ما قالوه حقا فاحضروا
…
للحرب هذا اليوم من صفّين
فلئن حضرتم فاعلموا بحقيقة
…
بأني مصارع قيس المجنون
قال: ودخلت رياضا يوما، فوجدت كساء منشورا للشمس لم أعرفه من حوائجي، ولا من حوائج حارسة البستان، فسألتها فقالت: هو لجارتي، فقلت:
[الكامل]
من منصفي من جارتي جارت على
…
مالي كأني كنت من أعدائها
عمدت إلى الشمس التي انتشرت على
…
أرضي وأمّت فيه بئس كسائها
لولا غيوم يوم تيبس الكسا
…
سرّت لحجب السّحب جلّ ضيائها
لقضيت منهم الخسار لأنني
…
أصبحت مزورا على بخلائها
قلت: وصرت إلى مغنى بحمّة بجّانة «1» ، وسار معي كلب كان يحرس رياضي اسمه قطمير، وهو، فيما يذكر، كلب أهل الكهف، في بعض الأقوال، فتبعني من ألمريّة إلى الحمّة، ثم من الحمّة إلى ألمرية، فقلت:[المتقارب]
رحلت وقطمير كلبي رفيقي
…
يونس قلبي بطول الطريق
فلمّا أنخت أناخ حذائي
…
يلاحظني لحظ خلّ شفيق
ويرعى أذمّة رفقي كما
…
يتغنّى الصديق الصدوق
على حين قومي بني آدم
…
بلؤمهم لم يوفوا حقوقي
ولا فرق بين الأباعد منهم
…
وبين أخ مستحب شفيق
أو ابن متى تلقاه تلقه
…
هويّ اشتياق بقلب خفوق
فما منهم من وليّ حميم
…
ولا ذي إخاء صحيح حقيق
وناهيك ممن يفضّل كلبا
…
عليهم فيا ويلهم من رفيق
ألا من يرقّ لشيخ غريب
…
أبي البركات الفتى البلفيق
وقال: وممّا نظمته بتاريخ لا أذكره هذين البيتين «1» : [الطويل]
وإنّي لخير «2» من زماني وأهله
…
على أنني للشّرّ أوّل سائق «3»
لحى الله دهرا قد تقدّمت أهله
…
فتلك لعمر الله إحدى البوائق
ومن النزعات الشاذة الأغراض: [البسيط]
لا بارك الله في الزّهاد إنهم
…
لم يتركوا عرض الدنيا لفضلهم
بل أثقلتهم تكاليف الحياة فلم
…
يصايروها فملّوا ثقل حملهم
وعظّم الناس منهم تركها فغدوا
…
من غبطة التّرك في حرص لأجلهم
نعم أسلّم أن القوم إذ زهدوا
…
زادا وأعلى الناس طرّا فضل تركهم
من حيث قد أحرزوا التّرجيح دونهم
…
لا شيء أبين من ترجيح فضلهم
فالمال والجود والراحات غاية ما
…
يحكي لنا الزهد في ذاعن أجلّهم
والزاهدون براحات القلوب مع ال
…
أبدان سرّوا وعزّوا بعد ذلّهم
فكل ما فرّقوا قد حصّلوا غرضا
…
منه وزادوا ثناء الناس كلّهم
قال: ومما نظمته عام أربعين في ذم الخمر من جهة الدنيا، لا من جهة الدين، إذ ليس بغريب:[الطويل]
لقد ذمّ بعض الخمر قوم لأنها
…
تكرّ على دين الفتى بفساد
وقد سلّموا قول الذي قال إنها
…
تحلّ من الدنيا بأعظم ناد
وتذهب بالمال العظيم فلن ترى
…
لمدمنها من طارف وتلاد
فيمسي كريما سيّدا ثم يغتدي
…
سفيها حليف الغيّ بعد رشاد
وقالوا: تسلّى وهو عارية لها
…
وإلّا فلم يأتوا لذاك بشاد
وصلّ «4» ونور وحسناء طفلة
…
ومرأى به للطّريف سير جواد
وهلّا «1» يداوى من مرارتها التي
…
أواخرها مقرونة بمهاد؟
ولو أشرب الإنسان مهلا بهذه
…
لأصبح مسرورا بأطيب زاد
ومن حسن حال الشّاربين يقيّؤ
…
نها بالرغم من برق وساد «2»
ومن حسن ذا المحروم أنّ مدامه
…
إذا غلبت تكسوه ثوب رقاد
فيختلف النّدمان طرّا لروحه
…
ويحدوهم نحو المروءة حادي
ومن حسنه بين الورى ضرب ظهره
…
فيمسي بلا حرب رهين جلاد
مجانين في الأوهام قد ضلّ سعيهم
…
يخففون بيعا بحسن غواد
ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجوه المطالب في جنسه، ممّا نظمته يوم عرفة عام خمسين «3» وأنا منزو في غار ببعض جبال ألمرية «4» :
[الخفيف]
زعموا أنّ في الجبال رجالا «5»
…
صالحينا «6» قالوا من الأبدال
وادّعوا أنّ كلّ من ساح فيها
…
فسيلقاهم على كلّ حال
فاخترقنا تلك الجبال مرارا
…
بنعال طورا ودون نعال
ما رأينا فيها سويّ «7» الأفاعي
…
وشبا «8» عقرب كمثل النبال
وسباعا يجرون «9» بالليل عدوا
…
لا تسلني عنهم بتلك الليالي «10»
ولو أنّا «11» لدى العدوة الأخ
…
رى رأينا نواجذ الرّئبال «12»
وإذا أظلم الدّجى جاء إبلي
…
س إلينا يزور طيف الخيال «13»
هو كان الأنيس فيها ولولا
…
هـ أصيبت عقولنا بالخبال «1»
خلّ عنك المحال يا من تعنّى
…
ليس يلقى «2» الرّجال غير الرجال
قال: ومن المنازع الغريبة ذمّ الأصحاب ومدح الأعداء، فمن ذلك قولي:
[المتقارب]
جزى الله بالخير أعداءنا
…
فموردهم أنسى المصدر
هم حملونا على العرف كرها
…
وهم صرفونا عن المنكر
وهم أقعدونا بمجلس حكم
…
وهم بوّؤونا ذرى المنبر
وهم صيّرونا أئمة علم
…
ودين وحسبك من مفخر
عدوّي بأول فدي مأثم
…
وإن جئت بالإثم لم يعذر
وأنت ترى تمحيص من يعد
…
ل بين المسيء وبين البري «3»
ولا زوّد الله أصحابنا
…
بزاد تقيّ ولا خيّر
هم جرّؤونا على كل إثم
…
وما كنت لولاهم بالمخبر
وعدّوا من اكبار آثامنا
…
فكانوا أضرّ من الفاتر
أعارني القوم ثوب التّقى
…
وإني مما أعاروني بري
إذا خدعوني ولم ينصحوا
…
وإني بالنّصح منهم حري
فمن كان يكذب حال الرّضى
…
يصدق في غضب يفتري
بلى سوف تلقى لدى الحالتين
…
يحكم النّفس هوى الفري
فياربّ أبق علينا عقولنا
…
نبيع بها وبها نشتري
قال: وما رأيت هذا المعنى قط لأحد، ثم رأيت بعد ذلك لبعضهم ما معناه:
[الطويل]
عداتي لهم فضل عليّ ومنّة
…
فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها
…
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
فوقع حافري على ساق هذا. قال: ومما نظمته، متخيّلا أني سابق معناه:
[الوافر]
خلسنا ليلة من كفّ دهر
…
ضنين بالليالي الطيّبات
سلكنا للهوى والعقل فيها
…
مسالك قد جلين على الشّتات
قضينا بعض حقّ النفس فيها
…
وحقّ الله مرعيّ الثّبات
فلم نر قبله في الدهر وقتا
…
بدت حسناته في السيّئات
ثم رأيت بعد ذلك على هذا: [مخلع البسيط]
لا وليال على المصلّى
…
تسرق في نسكها الذنوب
فوقعت ساقي على حافر هذا المحروم، إلا أني جرّدت ذلك في المعنى، وأوضحته، وجلوته على كرسي التّقعيد والتّنجيد، فلولا التاريخ لعاد سارق البرق.
نثره: وأمّا نثره، فنمط مرتفع عن معتاد عصره، استنفارا وبلاغة، واسترسالا وحلاوة، قلّما يعرّج على السّجع، أو يأمر على التّكليف، وهو كثير بحيث لا يتعيّن عيونه، ولكن نلمع منه نبذة، ونجلب منه يسيرا. كتب إليّ عند إيابي من الرّسالة إلى ملك المغرب، متمثّلا ببيتين لمن قبله، صدّر بهما «1» :[السريع]
أيتها «2» النفس إليه اذهبي
…
فحبّه المشهور من مذهبي
أيأسني «3» التّوبة من حبّه
…
طلوعه شمسا من المغرب
بل محلّك أمثل من التمثيل بالشمس، فلو كان طلوعك على هذه الأقطار شمسا، لأصبح جلّها لك عبّاد. ولو كان نزولك مطرا لتكيّفت الصّخور ترابا دمثا.
ولولا معرفتنا معشر إخوان الصّفا، بإقرار أنفسنا، لحكمنا بأن قلوبنا تمائم لأصدقائنا، ولكن سبقت عيون السعادة بالكلّات، فلو تصادف بالرضى محلّا؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال، لا زلت محروسا، بعين الذي لا تأخذه سنة ولا نوم مكنوفة ببركة الذي يرومه رائم، والسلام.
وكتب إليّ عند ما تقلّدت من رئاسة الإنشاء ما تقلدت: تخصكم يا محلّ الابن الأرضى ولادة، والأخ الصادق إخلاصا وودّا، خصّكم الله من السعادة بأعلاها مرقى، وأفضلها عقبى، وأحمدها غنى، وأكرمها مسعى، تحيّة اللهفان إلى أيام لقائك، المسلى عنها بتأميل العود إليها، المزجى أوقاته بترداد الفكر فيها، محمد بن الحاج، أبقاه الله، عن شوق، والذي لا إله إلّا هو، لم أجد قط مثله إلى وليّ حميم. والله على ما نقول وكيل، معرّفا أنني بعلاقمه، وتصليني عن كسره مجامعه، لما اعتنى به