الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتودّد إليّ المرّة بعد المرّة، واختصصت بفوت المدّة بالسلطان، فكنت المنفرد بسرّه دونه، ومفضي همّه، وشفاء نفسه، فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته، أو تصيّر توجيه السّذاجة في معاملاته، وصلاح ما يتغيّر عليه من قلبه، إلى أن لحق بربّه.
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره:
أقر على الغزاة شيخهم على عهد أبيه، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، مطمح الطّواف «1» ، وموفى الاختيار، ولباب القوم، وبقيّة السلف، جزما ودهاء، وتجربة وحنكة وجدّا وإدراكا، ناهيك من رجل فذّ المنازع، غريبها، مستحقّ التقديم، شجاعة وأصالة، ورأيا ومباحثة، نسّابة قبيله، وأضحى قسّهم، وكسرى ساستهم، إلى لطف السّجية، وحسن التأنّي، لغرض السلطان، وطرق التّنزل للحاجات، ورقّة غزل الشّفاعات، وإمتاع المجلس، وثقوب الذّهن والفهم، وحسن الهيئة. وزاده خصوصيّة ملازمته «2» مجلس الرّقاع «3» المعروضة، والرسّل الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.
كاتب سرّه: قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها إليّ أبوه المولى المقدّس، رحمه الله، من الوقوف على رأسه، والإمساك في التهاني والمبايعة بيده، والكتابة والإنشاء والعرض والجواب، والخلعة والمجالسة، جامعا بين خدمة القلم، ولقب الوزارة، معزّز الخطط برسم القيادة، مخصوصا بالنيابة عنه في الغيبة، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة، مطلق أمور الإيالة، محكما في أشتاته تحكيم الأمانة، مطلق الراية، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العزّ، وتأكد الرّعي، وتمحّض القرب، فنقلني من جلسة المواجهة، إلى صفّ الوزارة؛ وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية، وأحلّني المحل الذي لا فوقه في الخصوصيّة، كافأ الله فضله، وشكر رعيه، وأعلى محلّه عنده.
وأصدر لي هذا الظّهير لثاني يوم ولايته: هذا ظهير كريم، صفي شربه. وسفّرني في الرسالة عنه، إلى السلطان، الخليفة الإمام، ملك المغرب، وما إليه من البلاد الإفريقية، أبي عنان، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة الأولى، عن كثير من الخدمة، ونوّه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة، فاخترت للكلّ والبدلة، وما صان عنه في سبيل التجلّة، وإن كان منتهى أطوار الرّفعة، الفقيه أبا محمد بن
عطية «1» ، مستنزلا عن قضاه وادي آش وخطابتها، فكان يتولّى ما يكتب بنظري، وراجعا لحكمي، ومتردّدا لبالي، مكفى المؤنة في سبيل الحمل الكلي، إلى وقوع الحادثة، ونفوذ المشيئة بتحويل الدولة.
قضاته: جدّد أحكام القضاء والخطابة لقاضي أبيه الشيخ الأستاذ الشريف «2» ، نسيج وحده، وفريد دهره، إغرابا في الوقار، وحسن السّمت، وأصالة البيت «3» ، وتبحّرا في علوم اللّسان، وإجهازا في فصل القضايا، وانفرادا ببلاغة الخطبة، وسبقا في ميدان الدهاء والرّجاحة، أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني، الجانح إلى الإيالة النّصرية من مدينة سبتة «4» . وسيأتي التعريف به في مكانه، إن شاء الله.
وتوفي، رحمه الله، بين يدي حدوث الحادثة، فأرجىء الأمر بمكانه، إلى قدوم متلقّف الكرة، ومتعاور تلك الخطّة، الشيخ الفقيه القاضي، أبي البركات قاضي أبيه، ووليها الأحقّ بها بعده، إذ كان غايبا في السّفارة عنه، فوقع التّمحيص قبل إبرام الأمر على حال الاستنابة.
الملوك على عهده: وأوّلهم بالمغرب، السلطان، الإمام «5» ، أمير المسلمين، أبو عنان «6» ابن أمير المسلمين أبي الحسن «7» ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ، البعيد الشأو «8» في ميدان السّعادة، والمصمي أغراض السّداد، ومعظّم «9» الظّفر، ومخوّل الموهبة، المستولي على آماد الكمال «10» ، عقلا وفضلا وأبّهة ورواءا، وخطّا وبلاغة، وحفظا وذكاء «11» وفهما وإقداما «12» ، تغمّده الله برحمته، بعثني إلى بابه رسولا على إثر بيعته، وتمام أمره،
وخاطبا إثره وودّه، مسترفدا من منحة قبوله، فألفيت بشرا مبذولا، ورفدا ممنوحا، وعزّا باذخا، يضيق الزمان عن جلالته، وتقصر الألسنة عن كنه وصفه، فكان دخولي عليه في الثامن والعشرين من شهر ذي قعدة عام خمسة وخمسين المذكور، وأنشدته بين يدي المخاطبة، ومضمن الرسالة:[المنسرح]
خليفة الله ساعد القدر
…
علاك ما لاح في الدّجى قمر
فأحسب وكفى، واحتفل واحتفى، وأفضت بين يديه كرمته، إلى الحضور معه في بعض المواضع المطلة على مورد رحب. هاج به الخدّام أسدا، أرود، شثن الكفّين، مشعر اللّبدة، حتى مرق عن تابوت خشبي كان مسجونا به، من بعد إقلاعه، من بعض كواه، وأثارته من خلفه، واستشاط وتوقّد بأسا. وجلب ثور عبل الشّوى، منتصب المروى، يقدمه صوار من الجواميس، فقربت الخطى، وحميت الوغى، وبلغ الزئير والجوار ما شاء، في موقف من ميلاد الشيم العلى يخشى الجبان مقارعة العدا، ويوطن نفسه الشجاع على ملاقاة الرّدى، وخار الأسد عن المبارزة، لما بلغ منه ثقافا عن رد المناوشة، ومضطلعا بأعباء المحاملة، فتخطاه إلى طائفة من الرّجالة، أولي عدّة، وذوي دربة، حمل نفسه متطارحا كشهاب الرّجم، وسرك الدّجى، وأخذته رماحهم بإبادته، بعد أن أردى بعضهم، وجدّل بين يدي السلطان، متخبطا في دمه.
وعرّض بعض الحاضرين، وأغرى بالنظم في ذلك، فأنشدته:[الكامل]
أنعام أرضك تقهر الآسادا
…
طبعا كسا الأرواح والأجسادا
وخصائص لله بثّ ضروبها
…
في الخلق ساد لأجلها من سادا
إن الفضائل في حماك بضائع
…
لم تخش من بعد النّفاق كسادا
كان الهزبر محاربا فجزيته
…
بجزاء من في الأرض رام فسادا
فابغ المزيد من آلائه بشكره
…
وارغم بما خوّلته الحسّادا
فاستحسن تأتّي القريحة، وإمكان البديهة، مع قيد الصّفة، وهيبة المجلس.
وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير، من واد أصيل، وإمداد موهوب، ومهاداة أثيرة، وقطار مجنوب، وصامت محمول، وطعمة مسوعة. وكان الوصول في وسط محرم من عام ستة وخمسين وسبع مائة، وقد نجح السّعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيلة، وقد تضمّن رحلي الوجهة، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفي، زعموا، بحيلة، وقيل: حتف أنفه، لمّا نهكه المرض، وشاع عنه الإرجاف، وتنازع ببابه الوزراء، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبّر أمره، عايدة ملامته، على توقع برئه، وكان سيفه يسبق على سوطه، والقبر أقرب إلى من
تعرض لعتبه من سجنه، فقضى موضع هذا السبيل خاتمة الملوك الجلّة، من أهل بيته. جدّد الملك، وحفظ الرسوم، وأجرى الألقاب، وأغلظ العقاب، وصيّر إيالته أضيق من الخدّ. وأمدّ الأندلس، وهزم الأضداد، وخلّد الآثار، وبنى المدارس والزوايا، واستجلب الأعلام. وتحرّك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته، ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية، وجهز أسطوله إلى تونس، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، واستمرّت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام، رحمة الله عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر «1» لذي حجة من عام تسعة «2» وخمسين وسبعمائة.
وصار الأمر إلى ولده المسمى بالسّعيد، المكنى بأبي بكر، مختار وزيره ابن عمر الفدودي. ورام ضبط الإيالة المشرقية فأعياه ذلك، وبايع الجيش الموجّه إليها منصور بن سليمان «3» ، ولجأ الوزير وسلطانه إلى البلد الجديد، مثوى الخلافة المرينيّة، فكان أملك بها. ونازله منصور بن سليمان، ثم استفضى إليه أمر البلد لحزم الوزير وقوّة شكيمته. وغادر السلطان أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن «4» ، أخو الهالك السلطان أبي عنان، الأندلس، وقد كان استقرّ بها بإزعاج أخيه إيّاه عن المغرب، كما تقدم في اسمه، فطلع على الوطن الغربيّ بإعانة من ملك النصارى، عانى فيها هولا كثيرا، واستقرّ بآخرة بعد إخفاق شيعته المرّاكشية، بساحل طنجة، مستدعى ممن بجبال غمارة، ودخلت سبتة وطنجة في طاعته. وفرّ الناس عن منصور بن سليمان، ضربة لازب، وتقبّض عليه وعلى ابنه، فقتلا صبرا، نفعهما الله.
وتملك السلطان أبو سالم المدينة البيضاء يوم الخميس عشر لشعبان عام ستين وسبعمائة، بنزول الوزير وسلطانه عنها إليه. ثم دالت الدولة. وكان من لحاق السلطان برندة، واستعانته على ردّ ملكه ما يأتي في محلّه، والبقاء لله سبحانه.
وبتلمسان السلطان أبو حمّو موسى بن يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمرس «5» بن زيان، قريب العهد باسترجاعها، لأول أيام السعيد.
وبتونس «6» الأمير إبراهيم ابن الأمير أبي بكر ابن الأمير أبي حفص ابن الأمير أبي بكر بن أبي حفص بن إبراهيم بن أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد، لنظر الشيخ