الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن مسعود بن خالصة بن فرج بن مجاهد ابن أبي الخصال الغافقي
«1»
الإمام البليغ، المحدّث الحجّة، يكنى أبا عبد الله. أصله من فرغليط من شقورة، من كورة جيّان، وسكن قرطبة وغرناطة.
حاله: قال ابن الزّبير عند ذكره: ذو الوزارتين، أبو عبد الله بن أبي الخصال.
كان من أهل المعارف الجمّة، والإتقان لصناعة الحديث، والمعرفة برجاله، والتقييد لغريبه، وإتقان ضبطه، والمعرفة بالعربية واللغة والأدب، والنّسب والتاريخ، متقدما في ذلك كله. وأما الكتابة والنظم، فهو إمامهما المتفق عليه، والمتحاكم فيهما إليه.
ولما ذكره أبو القاسم الملّاحي بنحو ذلك قال: لم يكن في عصره مثله، مع دين وفضل وورع.
قال أبو عمرو ابن الإمام الإستجّي في سمط الجمان، لما ذكره: البحر الذي لا يماتح ولا يشاطر، والغيث الذي لا يساجل ولا يقاطر، والروض الذي لا يفاوح ولا يعاطر، والطّود الذي لا يزاحم ولا يخاطر، الذي جمع أشتات المحاسن، على ماء غير ملح ولا آسن؛ وكثرت فواضله، فأمنت المماثل والمحاسن، الذي قصرت البلاغة على محتده، وألقيت أزمة الفصاحة في يده، وتشرّفت الخطابة والكتابة باعتزائهما إليه، فنثل كنانتها، وأرسل كمائنها، وأوضح أسرارها ودفائنها، فحسب الماهر النّحرير، والجهبذ العلّامة البصير إذا أبدع في كلامه، وأينع في روض الإجادة نثاره ونظامه، وطالت قنى الخطيّة الذبل أقلامه، أن يستنير بأنواره، ويقتضي بعض مناهجه وآثاره، وينثر على أثوابه مسك غباره، وليعلم كيف يتفاضل الخبر والإنشاء، ويتلو إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وعضّه العقور أبو نصر في قلائده، حيث قال «2» :«هو وإن كان خامل المنشأ نازله، لم ينزله المجد منازله، ولا فرّع للعلاء هضابا، ولا ارتشف للسّنا رضابا، فقد تميّز بنفسه، وتحيّز من أبناء «3» جنسه، وظهر بذاته، وفخر بأدواته» .
مشيخته: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في الصلة «1» : روى عن الغساني، والصّدفي، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي عمران بن تليد، وأبي بحر الأسدي، وأبي عبد الله النّفزي، وجماعة غيرهم.
تواليفه: قال الأستاذ: وأمّا كتبه وشعره وتواليفه الأدبية، فكل ذلك مشهور، متداول بأيدي الناس، وقلّ من يعلم بعده، أن يجتمع له مثله، رحمه الله.
من روى عنه: روى عنه ابن بشكوال، وابن حبيش، وابن مضاء وغيرهم، وكل ذلك ذكره في رحاله، وهو أعرف بتقدّمه في احتفاله.
شعره: وله شعر كثير، فمن إخوانياته ما خاطب به أبا إسحاق بن خفاجة:
[الكامل]
هبّ النسيم هبوب ذي إشفاق
…
يذهبن الهوى بجناحه الخفّاق
وكأنما صبح الغصون بنشوة
…
باحت لها سرائر العشاق
وإذا تلاعبت الرياح ببانه
…
لعب الغرام بمهجة المشتاق
مه يا نسيم فقد كبرت عن الصّبا
…
لم يبق من تلك الصّبابة باق
إن كنت ذاك فلست ذاك ولا
…
أنا قد أذنت «2» مفارقي بفراق
ولقد عهدت سراك من عدد الهوى
…
والموت في نظري وفي استنشاق
أيام لو عنّ السّلوّ لخاطري
…
قرّبته هديا «3» إلى أشواقي «4»
الهوى إلفي والبطالة مركبي
…
والأمن ظلّي والشباب رواقي «5»
في حيث قسّمت المدامة قسمة
…
ضيزى «6» لأن السكر من أخلاقي «7»
لا ذنب للصّهباء أني غاصب
…
ولذاك قام السكر باستحقاق
ولقد صددت الكأس فانقبضت بها
…
من بعدها انبسطت يمين السّاقي
وتركت في وسط النّدامى خلّة
…
هامت بها الوسطى من الأعلاق
فاستسرفوني مذكرين وعندهم
…
أنى أدين اللهو دين نفاق
وحبابها نفث الحباب وربما
…
سدكت يد الملسوع منه براق
وكأنه لما توقّر فوقها «1»
…
نور تجسّم من ندى الأحداق
لو بارح نفح النّوى في روضة
…
فأثارها وسرى عن الأحداق
ولقد جلوا والله يدرأ كيدهم
…
فتّانة الأوصاف والأعراق
أغوى بها إبليس قدما آدم «2»
…
والسّرّ يرمى في هواها الباقي «3»
تالله أصرف نحوها وجد الرضا
…
لو شعشعت برضا أبي إسحاق
ومن نسيبه «4» : [المنسرح]
وليلة عنبريّة الأفق
…
رويت فيها السرور من طرق
وكنت حرّان فاقتدحت بها
…
نارا من الرّاح برّدت حرقي «5»
وافت «6» بها «7» عاطلا وقد لبست
…
غلالة فصّلت من الحدق
فاجا «8» بها الدهر من بنيه دجى «9»
…
لقيته كالإصباح في نسق «10»
قامت لنا في المقام أوجههم
…
وراحهم بالنجوم والشّفق
وأطلع «11» البدر من ذرى غصن
…
تهفو عليه القلوب كالورق
من عبد شمس بدا سناه وهل
…
ذا «12» النور «13» إلّا لذلك «14» الأفق
مدّ بحمراء من مدامته
…
بيضاء كفّ «15» مسكيّة العبق
فخلتها وردة منعّمة
…
تحمل من سوسن على طبق
يشرب في الراح حين يشربها «1»
…
ما غادرت مقلتاه من رمق «2»
وقال «3» : [المنسرح]
يا حبذا ليلة لنا سلفت
…
أغرت بنفسي الهوى وما «4» عرفت
دارت بظلمائها المدام فكم
…
نرجسة من بنفسج قطفت
وقال في مغنّ زار، بعده أغبّ وشطّ المزار «5» :[الكامل]
وافى وقد عظمت عليّ ذنوبه
…
في غيبة قبحت بها آثاره
فمحا إساءته لنا «6» إحسانه
…
واستغفرت لذنوبه أوتاره
وقال يعتذر عن استبطاء مكاتبة «7» : [الطويل]
ألم تعلموا «8» والقلب رهن لديكم
…
يخبّركم «9» عني بمضجره «10» بعدي؟
فلو «11» قلّبتني «12» الحادثات مكانكم
…
لأنهبتها وفري وأوطأتها «13» خدّي
ألم تعلموا أني وأهلي وواحد «14»
…
فداء «15» ولا أرضى بتفدية «16» وحدي؟
ومن قوله في غرض المدح يخاطب تاشفين بن علي، ويذكر الوقعة بكركى، يقول فيها:[البسيط]
الله أعطاك فتحا غير مشترك
…
وردّ عزمك عن فوت إلى درك
أرسل عنان جواد أنت راكبه
…
واضمم يديك ودعه في يد الملك
حتى يصير إلى الحسنى على ثقة
…
يهدي سبيلك هاد غير مؤتعك
قد كان بعدك للأعداء مملكة
…
حتى استدرّت عليهم كورة الفلك
سارت بك الجرد «1» أو طار الفضاء «2» بها
…
والحين قد قيّد الأعداء في شرك
فما تركت كميّا غير منعفر
…
ولا تركت نجيعا غير منسفك
ناموا وما نام موتور على حنق
…
أسدى إذا فرصة ليست «3» من السلك
فصبّحتهم جنود الله باطشة
…
والصبح من عبرات الفجر في مسك
من كل مبتدر كالنّجم منكدر
…
تفيض أنفسهم غيظا من المسك
فطاعنوكم بأرماح وما طعنت
…
وضاربوكم بأسياف ولم تحك
تعجّل النّحر فيهم قبل موسمه
…
وقدّم الهدي منهم كلّ ذي نسك
فالطير عاكفة والوحش واقفة
…
قد أثقلتها لحوم القوم عن حرك
عدت على كل عاد منهم أسر
…
بعثن «4» في حنجر «5» رحب وفي حنك
كلي هنيئا مريئا واشكري ملكا
…
قرتك أسيافه في كل معترك
فلو تنضّدت الهامات إذ نشرت
…
بالقاع للغيظان بالنّبك
أبرح وطالب بباقي الدهر ماضيه
…
فيوم بدر أقامه الفيء في فدك
وكم مضى لك من يوم بنت له
…
في ماقط برماح الحظّ مشتبك
بالنّقع مرتكم بالموت ملتئم
…
بالبيض مشتمل بالشمر محتبك
فحص القباب إلى فحص الصعاب
…
إلى أريولة مداسات إلى السّكك
وكم على حبر محمود وجارته
…
للرّوم من مرتكل غير متّرك
وفّيت للصّفر حتى قيل قد غدروا
…
سموت تطلب نصر الله بالدّرك
فأسلمتهم إلى الإسلام غدوتهم
…
وأذهب السيف ما بالدّن من حنك
يا أيها الملك السامي بهمّته
…
إلى رضى الله لا تعدم رضى الملك
ما زلت تسمعه بشرى وتطلعه
…
أخرى كدرّ على الأجياد منسلك
بيّضت وجه أمير المؤمنين بها
…
والأرض من ظلمة الإلحاد في حلك
فاستشعر النّصر واهتزّت منابره
…
بذكر أروع للكفار محتنك
فأخلدك ولمن والاك طاعته
…
خلود برّ بتقوى الله ممتسك
وافيت والغيث زاخر قد بكى طربا
…
لمّا ظفرت وكم بلّله من الضّحك
وتمّم الله ما أنشأت من حسن
…
بكل منسبك منه ومنتمك
وعن قريب تباهي الأرض من زهير
…
سماها بها غضّة الحبك
فعد وقد واعتمد واحمد وسد وأبد
…
وقل وصل واستطل واستول وانتهك
وحسبك الله فردا لا نظير له
…
تغنيك نصرته عن كل مشترك
ومن قوله في غرض الرثاء، يرثي الفقيد أبا الحسن بن مغيث «1» :[البسيط]
الدهر ليس على حرّ بمؤتمن
…
وأيّ علق تخطّته يد الزمن
يأتي العفاء «2» على الدنيا وساكنها
…
كأنه «3» أدبر لم يسكن إلى سكن
يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط «4»
…
هلّا بكيت فراق الرّوح للبدن؟
نور «5» تقيّد «6» في طين «7» إلى أجل
…
وانحاز «8» علوا «9» وخلّى الطين في الكفن «10»
كالطير في شرك يسمو إلى درك
…
حتى تخلّص من سقم ومن درن
إن لم يكن في رضى الله اجتماعهما
…
فيا لها صفقة تمّت على غبن «11»
يا شدّ ما افترقا من بعد ما اعتنقا «1»
…
أظنّها محرقة «2» كانت على دخن «3»
وربّ سار إلى وجه يسرّ به
…
وافى وقد نبت المرعى على الدّمن
أتى إلى الله لا سمع ولا بصر
…
يدعو إلى الرّشد أو يهدي إلى السّنن
في كل يوم فراق لا بقاء له
…
من صاحب كرم أو سيّد قمن
أعيا أبا حسن فقد الذين مضوا
…
فمن لنا بالذي أعيا أبا حسن
كأنّ البقية في قوم قد انقرضوا
…
فهاج ما شاء ذاك القرن من شجن
يعدّ فدا وفي أثوابه رمز من
…
كل ذي خلق عمرو وذي فطن
وإنّ من أوجدتنا كلّ مفتقد
…
حياته لعزيز الفقد والظّعن
من للملوك إذا خفّت حلومهم
…
بما يقاوم ذاك الطيش من سكن
ومنها:
يا يونس لا تسر أصبحنا لوحشتنا
…
نشكو اغترابا وما بنّا عن الوطن
ويا مطاعا مطيعا لا عناد له
…
في كل أمر على الإسلام مؤتمن
كم خطت كارتجاج البحر مبهمة
…
فرّجتها بحسام سلّ من لسن
طود المهابة في الجلا وإن جذبت
…
عنانه خلوة هزّت ذرى وتر
أكرم به سببا تلقى الرسول به
…
لخمس واردة في الفرض والسّنن
ناهيك من منهج سمّ القصور به
…
هوى فمن قدر عال إلى فدن
من كل وادي التّقى يسقى الغمام به
…
فيستهل شروق الضّرع باللبن
تجمّلت بك في أحسابها مضر
…
وأصل مجدك في جرثومة اليمن
من دولة حولها الأنصار حاشدة
…
في طامح شامخ الأركان والقنن
من الذين هم رووا وهم نصروا
…
من عيسة الدّين لا من جذوة الفتن
إن يبد مطّلع منهم ومستمع
…
فارغب بنفسك عن لحظ وعن أذن
ما بعد منطقه وشي ولا زهر
…
ولا لأعلاق ذاك الدّرّ من ثمن
أقول وفينا فضل سؤدده
…
أستغفر الله ملء السّر والعلن
محمد ومغيث نعم ذا عوضا
…
هما سلالة ذاك العارض الهتن
تقيّلا هديه في كل صالحة
…
نصر السّوابق عن طبع وعن مرن
ما حلّ حبوته إلّا وقد عقدا
…
حبا بما اختار من أيد ومن منن
غرّ الأحبّة عند حسن عهدهما
…
وإن يؤنس في الأثواب والجنن
علما وحلما وترحيبا وتكرمة
…
للزائرين وإغضاء على زكن
يا وافد الغيث أوسع قبره نزلا
…
وروما حول ذاك الدّيم من ثكن
وطبق الأرض وبلا في شفاعته
…
فنعم رائد ذاك الرّيف واليمن
وأنت يا أرض كوني مرّة بأبي
…
مثوى كريم ليوم البعث مرتهن
وإن تردّت بترب فيك أعظمه
…
فكم لها في جنان الخلد من ردن
ومن شعره قوله مخمّسا، كتب بها، وقد أقام بمراكش يتشوق إلى قرطبة:
[الطويل]
بدت لهم بالغور والشّمل جامع
…
بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع
…
وربّ غرام لم تنله المسامع
أذاع بها من فيضها لا يصوّب «1»
ألا في سبيل الشّوق قلب مؤثّل
…
بركب إذا شاء والبروق تحمل
هو الموت إلّا أنني أتحمّل
…
إذا قلت هذا منهل عزّ منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب
أبى الله إمّا كلّ بعد فثابت
…
وإما دنوّ الدار منهم ففائت
ولا يلفت البين المصمّم لافت
…
ويا ربّ حيّ البارق المتهافت
غراب بتفريق الأحبّة ينعب
خذوا بدمي ذاك الوسيق المضرّجا
…
وروضا بغيض العاشقين تأرّجا
عفى الله عنه قاتلا ما تحرّجا
…
تمشّى الرّدى في نشره وتدرّجا
وفي كل شيء للمنيّة مذهب
سقى الله عهدا قد تقلّص ظلّه
…
حيا قطره يحيى الربا مستهلّه
وعى به شخصا كريما أجلّه
…
يصحّ فؤادي تارة ويعلّه
ويلمّه بالذكر طورا ويشعب
رماني على قرب بشرخ ذكائه
…
فأعشت جفوني نظرة من ذكائه
وغصّت بأدنى شعبة من سمائه
…
شعابي وجاء «1» البحر في غلوائه
فكلّ بقرب «2» ردع خدّيه يركب
ألم يأته أنّى ركنت قعودا
…
وأجمعت عن وفز الكلام قعودا
ولم أعتصر للذّكر بعدك عودا
…
وأزهقني هذا الزمان صعودا
فربع الذي بين الجوانح سبسب
على تلك من حال دعوت سميعا
…
وذكّرت روضا بالعقاب مريعا
وتملأ الشعب المذحجي جميعا
…
وسربا بأكناف الرّصافة ريعا
وأحداق عين بالحمام تقلّب
ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النّخل
…
بحيث تجافى الطود عن دمث سهل
وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل
…
ولكنه للملك قام على رجل
يقيه تباريح الشمال ويحجب
فكم وجع «3» ينتابه برسيسه
…
ويرتحل الفتى بأرجل عيسه
أبق أمّ عمرو في بقايا دريسه
…
كسحق اليماني معتليه نفيسه
فرقعته تسبي القلوب وتعجب
وبيضاء للبيض البهاليل تعتزي «4»
…
وتعتزّ بالبان جلالا وتنتزي
سوى أنها بعد الصّنيع المطرّز
…
كساها البلى والثّكل أثواب معوز
يبكي وتبكي للزائرين وتندب
وكم لك بالزّهراء من متردّد
…
ووقفة متّسق المجامع مقصد
يسكن من خفق الجوانح باليد
…
ويهتك حجب النّاصر بن محمد
ولا هيبة تخشى هنالك وترهب
لنعم مقام الخاشع المتنسّك
…
وكانت في محلّ العبشمين المملّك
متى يورد النّفس العزيزة يسفك
…
وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك
وأي مرام رامه يتصعّب
قصور كان الماء يعشق مبناها
…
فطورا يرى تاجا بمفرق أعلاها
وطورا يرى خلخال أسوق سفلاها
…
إذا زلّ وهنا عن ذوائب يهواها
يقول هوى بدرا أو انقضّ كوكب
أتاها على رغم الجبال الشّواهق
…
وكلّ منيف للنجوم مراهق
وكم دفعت في الصّدر منه بعانق
…
فأودع في أحشائها والمفارق
حسابا بأنفاس الرياح يذرب
هي الخود من قرن إلى قدم حسنا
…
تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى
ودرج كأفلاك «1» مبنى على مبنى
…
توافقن في الإتقان واختلف المعنى
وأسباب هذا الحسن قد تتشعّب
فأين الشّموس الكالفات بها ليلا
…
وأين الغصون المائسات بها ميلا
وأين الظّباء «2» السابحات بها ذيلا
…
وأين الثّرى رجلا وأين الحصا خيلا
فوا عجبا لو أن من يتعجّب
كم احتضنت فيها القيان المزاهرا
…
وكم فاوحت فيها الرّياض المجامرا
وكم ساهرت فيها الكواكب سامرا
…
وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا
عظيم من الدنيا شعاع مطنّب
كأن لم يكن يقضى بها النّهي والأمر
…
ويجبي إلى خزائنها البرّ والبحر
ويسفر مخفورا بذمّتها الفخر
…
ويصبح مختوما بطينتها الدهر
وأيامه تعزى إليها وتنسب
ومالك عن ذات القسيّ النّواضح
…
وناصحة تعزى قديما لناصح
وذي أثر على الدهر واضح
…
يخبر عن عهد هنالك صالح
ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب
تلاقى عليه فيض نهر وجدول
…
تصعّد من سفل وأقبل من عل
فهذا جنوبيّ وذلك شمألي «1»
…
وما اتفقا إلّا على خير منزل
وإلّا فإن الفضل منه مجرّب
كأنهما في الطّيب كانا تنافرا
…
فسارا إلى وصل القضاء وسافرا
ولمّا تلاقى السابقان تناظرا
…
فقال وليّ الحق مهلا تظافرا
فكلّكما عذب المجاجة طيّب
ألم يعلما أن اللّجاج هو المقت
…
وأن الذي لا يقبل النّصف منبتّ
وما منكما إلّا له عندنا وقت
…
فلما استبان الحقّ واتجه السّمت
تقشّع من نور المودة غيهب
وإن لها بالعامريّة لمظهرا
…
ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا
وروضنا على شطّي خضارة أخضرا
…
وجوسق ملك قد علا وتجبّرا
له ترّة عند الكواكب تطلب
أغيّره «2» في عنفوان الموارد
…
وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحيّ المجاهد
…
وكلّ فتى عن حرمة الدين زايد
حفيظته في صدره تتلهّب
تقدّم عن قصر الخلافة فرسخا
…
وأصحر بالأرض الفضاء ليصرخا
فحالته أرض الشّرك فيها منوّخا
…
كذلك من جاس الدّيار ودوّخا
فردعته في القلب تسري وترهب
أولئك قوم قد مضوا وتصدّعوا
…
قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا
فهل لهم ركز يحسّ ويسمع؟
…
تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع
إلّا أنهم في بطنها حيث غيّبوا «3»
ألست ترى أن المقام على شفا
…
وأن بياض الصّبح ليس بذي خفا
وكم رسم دار للأجنّة قد عفا
…
وكأنّ حديثا للوفود معرّفا
فأصبح وحش المنتدى يتجنّب
ولله في الدّارات ذات المصانع
…
أخلّاء صدق كالنجوم الطّوالع
أشيع بينهم كلّ أبيض ناصع
…
وأرجع حتى لست يوما براجع
فياليتني في قسمتي أتهيّب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان
…
ولا بمثل إخواني بمغناك إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ظمآن
…
ولكن عداني عنك أمر له شان
وموطني آثار تعدّ وتكتب
لك الحقّ والفضل الذي ليس يدفع
…
وأنت لشمس الدّين والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع
…
وكل التّقى والهدى والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذّب
ألم تك خصّت باختيار الخلائف
…
ودانت لهم فيها ملوك الطّوائف
وعضّ ثقاف الملك كلّ مخالف
…
بكل حسام مرهف الحدّ راعف
به تحقن الآجال طورا وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا
…
وكعبتها ندا الوفود ويمّموا
وفيها استفادوا شرحهم وتعلّموا
…
وعاذوا بها من دهرهم وتحرّموا
فنكّب عنهم صرفه المتسحّب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقى
…
هواؤك مختار وتربك منتقى
وجسرك للدنيا وللدّين ملتقى
…
وبيتك مربوع القواعد بالتّقى
إلى فضله لأكباب تنضى وتضرب
تولّى خيار التابعين بقاءه
…
وخطّوا بأطراف العوالي فناءه
ومدّوا طويلا صيته وثناءه «1»
…
فلا زال مخلوع عليه سناءه «2»
ولا زال سعي الكائدين يخيّب
وبالغ فيه كلّ أروع أصيد
…
طويل المعالي والمكارم واليد
وشادوا وجادوا سيّدا بعد سيّد
…
فبادوا جميعا عن صنيع مخلّد
يقوم عليه الثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشّوابك
…
تمزّق أثواب النجوم الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك
…
أجادل تنقضّ انقضاض النّيازك
فإبشارهم بالطبطبية تنهب
أجدك لم تشهد بها ليلة القدر
…
وقد جاش برّ الناس منه إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزّهر
…
فلو أن ذلك النّور يقبس من فجر
لأوشك نور الفجر يفنى وينضب
كأن للثّريّات «1» أطواد نرجس «2»
…
ذوائبه تهفو بأدنى تنفّس
وطيب دخان النّدّ من كل معطّس
…
وأنفاسه في كل جسم وملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدّت راية الفجر تزحف
…
وقد قضّى منهما «3» الذي لا يسوّف
تولّوا وأزهار المصابيح تقطف
…
وأبصارها صونا تغضّ وتطرف
كما تنصل الأرماح ثم تركّب
سلام على غيابها وحضورها
…
سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صخرائها وقبورها
…
ولا زال سور الله من دون سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهرها المعشوق كل مرفّع
…
وفي بطنها الممشوق كل مشفع
متى تأته شكوى الظّلامة ترفع
…
وكل بعيد المستغاث مدفّع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملء الجوانح والقلب
…
طرقت وقد نام المواسون من صحب
بروعتها قبر الوالي لي وهبّ
…
وناديت في التّرب المقدّس يا ربّ
فأبت بما يهوى الفؤاد ويرغب
فيا صحبي حان قبلك مصرعي
…
وكنت على عهد الوفا والرّضا معي
فحطّ بضاحي ذلك السّرى مضجعي
…
وذرني فجار القوم غير مروّع
فعندهم للجار أهل ومرحب
رعى الله من يرعى العهود على النّوى
…
ويظهر بالقول المحبّر ما نوى
ولبيته من مستحكم الودّ والهوى
…
يرى كلّ واد غير واديه مجتوى
وأهدى سبيله الذي يتجنّب
كتابته: وكتابة ذي الوزارتين، رحمه الله، كالشمس شهرة، والبحر والقطر كثرة؛ ونحن نثبت له شيئا من ذلك لئلّا يخلو هذا الكتاب من شيء من بيانه. كتب يراجع الوزير أبا بكر بن عبد العزيز، من رسالة كتب بها إليه مع حاج يضرب القرعة:
أطال الله بقاء وليّي وإمامي الذي له إكباري وإعظامي، وفي سلكه اتّسامي وانتظامي، وإلى ملكه انتسابي واعتزائي، وبودّه افتخاري وانتزائي، للفضائل مجيبا ومبديا، وللمحامد مشتملا ومرتديا، وبالغرائب متحفا ومهديا، ولا زال الرّخاء وأزل، وجدّ من المصافاة وهزل، وسحت من المراعاة وجزل. وصل كتابه صحبة عرّاف اليمامة، وفخر نجد وتهامة، يقرّظه ويزكّيه، ويصفه بالخبّ يفسّره ويجليه، والخفيّ يظهره ويبديه. ولعله رائد، لابن أبي صائد، أو هاد للمسيح الدّجال قائد. أشهد شهادة إنصاف، أن عنده لعضبا صاف، ولو كان هناك ناظر صادق طاف، ولله خفايا الألطاف، لقلت هو باد غير خاف، من بين كل ناعل وحاف. وسأخبرك، أيّدك الله، بما اتّفق، وكيف طار ونعق، وتوسّد الكرامة وارتفق، طرق له وصفك ونعتك، وثقّفه بريك ونحتك، ورفعه للعيون جدّك وبختك، وامتدت نحوه النواظر، واستشرفه الغائب والحاضر، وتسابق إليه النّابه والخامل، وازدحم عليه العاطل والعامل. هذا يلتمس مزيدا، وذاك يبتغي حظا جديدا، وهذا يطلب تقليدا، وذلك يسلّ إلى مغاليقه إقليدا.
فكلما حزب، وغلّ وجلب، حلب واستدرّ، وتلقاه وإن ساءه الغيب بما سرّ. وكنت واتغت جملة من الأعيان، ووافقت ثلّة من جلّة الإخوان، على تمشية أمره، وتوشية ذكره؛ فلمّا صدقت تلك الفرقة، واستوت بهم تلك الفرقة، أحضرناه للسّبار، وأقعدناه للنّقد والاختيار، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار، فأحضرنا طحنا ونطعا، وسرينا عنه من الوحشة قطعا، وقلنا له خذ عفوك، ولا توردنا إلّا صفوك، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها، والحادثة تستفظع ذكراها؛ فما عندنا جهل، وما منّا إلّا محتنك كهل، لا يتكاده حزن ولا يستخفّه سهل، فسكن جائش فوره، وضرب بلحيته على زوره، ثم صعّد فينا النظر وصوّب، واستهلّ صارخا وثوّب، وتحرّج من الكذب
وتحوّب، وقال: لست للعشرة خابطا، ولا للطّرف غامضا، ولا عن الصدق إذا صدع حائدا، ولا للغدر ممّن وقع منه ذائدا، ولا بمعجزات النبوّة لاعبا، ولا لصريح الجدّ مداعبا، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان، ولا تستفزّني نضائد كثيرة ولا ألوان. إنما هو رسم وخطّ، ورفع وحطّ، ونحس وسعد، ونقد ووعد، ويوم وغد. فقلنا له الآن صحّت الوفادة، وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقلّ، واجتذب النّطع اجتذاب المدلّ، ونثل الطّحن وهاله، وأداره حتى استدار هاله، ثم قال: يا أيها الملأ هذا المبتدأ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم وفغروا وكبّروا، وليتهم عند ذلك صفّروا، فقلت: يا قوم قد عضضت على ناجذي حلما، وقتلت شأني كلّه علما، وعقدت بيني وبين غد سلما، فكيف أستكشف عما أعرف، وأسبقهم عمّا لا يستبهم.
على الرحمن توكلت، وعلى الشيطان تركّلت، ومن كسبي أكلت، وفي مبرك السّلامة بركت، وجسيمات الأمور تركتني وتركت، والنفس المطمئنة رجوت، ولعلني قد نجوت، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه، وطواني صدقه ومينه.
ثم صار القوم دوني أنجية، وأعدّ له كل تورية وتعمية. فقال قائل منهم: تعالوا نشترك في ضمير، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير، ففي كل قلب منه ندب كبير، والسؤال عنه دين وأدب، فإن أصابه استرحنا من النّصب والشّخوص، وحرنا من العموم إلى الخصوص، وإن أخطأه فهو لما سواه أخطأ، ولما يدّعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا: نعم ما عرضت، وأحسن بما رويت وفرضت. فلمّا رأيناه يثقل التّعريض، ويحكم التقرير والتعويض، قلنا له: حقّق ضميرك كل التحقيق، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر، وحسر عن ذراعه وشمّر، ومرت أصبعه في خطّه مرّ الذّر المتهالك، ووقعت وقع القطر المتدارك، لا تمس الطّحن إلّا تحليلا، وغمزا كالوهم قليلا، فطورا يستقيم سبيلا، وتارة يستدير إكليلا، وآونة يأتي بالسماء ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات، وللثّريا من أخوات، وطير قابضات، وصافّات وأسراب ناشرات خافقات.
فلمّا استوفى عدده، وبلغ أمده، وختم طرائقه وقدده، وأعطى الأصول وفروعها، وتدبّر تفاريقها وجموعها، فجمع وتقبّض، وفتر ثم انتفض، وصعّد ذهنه وتسافه، وأخذ الطّحن فسافه؛ وزفر وشهق، وعشّر ونهق، وألصق بظهره حشاه، وكتم الرّبو ثم أفشاه، وقال: هذا الذي كنت أخشاه، عميتم الأثر، وكتمتم حقيقة الخبر، وعثرتم خاطي فما عثر، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر. سألتم عن روح شارد، وشيطان مارد، وصادر مع اللّحظات وارد، لا يوطن دارا، ولا يأوي قرارا، ولا يطعم النّوم إلّا غرارا «1» . نعم أمره عندي مستقر، هو زنديق مستتر؛ وشهاب من شهب الكفر مستمر.
ثم رجّع البصر واختصر، وعاد إلى الحساب يتقرّاه، والصواب يتحرّاه، وتتبّع أديم الطّحن ففراه، وقال: أعوذ بالله من شرّ ما أراه. إلى كم أرى في غلاء وبلاء؟ كأني لست ذا أمرار وأحلاء، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلاء؛ ما غاب عني اللّحياني ذو السّبلة، ولواجهنا البياض ذو الغرّة المستقلّة مواجهة حسان لجبلة. النّحس على هذه الروح قد رتّب؛ وكتب عليه من الشقاء ما كتب، وأخرج النّصرة الداخلة من العتب.
ثم أشار إلى الحمرة، وكأنما وضع يده على جمرة، وقال: كوسج نعيّ، وسناط الوجه شقيّ، وثقاف وطريق، وجماعة وتفريق، وقبض خارج، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته، ولولب هامته، وأمال وجهه فجرا طلقا، ثم عرضه مجنا مطرقا، وعقد أنامله عضّا، وأدمى صدره دعّا ورضّا، وقطع بصره لمحا وغضّا، وتكفّأ وتقلّع، وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا: شرّ تأبّطه، أو شيطان يتخبّطه، أو قرين يستنزله ويختله، أو رؤى في الذرة والغاب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر، وتضاءل وتنازر، وقال: والذي أحيا عازر، وأخرج إبراهيم من آزر، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتّسبيح، إنه لمن عبّاد المسيح، هيهات هيهات، لا أضعضع بظنّ، ولا يقعقع لي بشنّ، ولا أنازع من هذه الفنون في فنّ. قد ركبت أثباج البحار، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت، وصافحني الحجر الكميت، وأحرمت ولبّيت، وطفت ووفيت، وزرت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحفّيت. ثم ملت على عدن، وانحدرت عن اليمن، واستسقيت كل راعدة، وأتيت كل قاعدة؛ ورأيت صاحب الجمل قسّ بن ساعدة، ووردت عكاظ، وصدّقت الحفّاظ، وقدت العصية بنسع، ومسحت الشامات بأخمس وتسع، ووقفت حيث وقف الحكمان، وشهدت زحف التّركمان، وكيف تصاولت القروم، وغلبت الرّوم، وهزم المدبر المقبل، واكتسحت الجحاش الإبل. فقلنا: لله أنت، لقد جليت عن نفسك، وأربى يومك على أمسك، ولقد صدق مطريك، ووفت صحيفة تزكّيك، وما كانت فراستنا لتخيب فيك. فماذا تستقري من اللوح، وترى في ذلك الروح؟ بعيشك ألا ما أمتعتنا بالإفشاء والبوح! فرجع في البحث أدراجه، وطالع كواكبه وأبراجه، وظلّ على مادة الطّحن يرقم ويرمق، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم، وقال: أحلف بالله وأقسم، لقد استقام النّسم، وإنه لكما أرسم وأسم، وإني لا أجده إلّا لاغبا مبهورا، ومنكودا مقهورا، ولن يلبث إلّا شهورا. قد أفل طالع جدّه، وفلّ حدّه، وأتي عليه نقي خدّه، وصيّ لم يملك أبوه وملك جدّه، فقلنا: صرّحت وأوضحت، وشهرت هذا المستور وفضحت، وإن ساعدك قدر، وكان لك عن هذا الورود صدر، فحظك مبتدر، وخطّك صاف لا يشوبه كدر. فقال: هذا أمر قد آن أو كان، وسيأتيكم الخبر الآن، فانفصلنا وأصغينا الآذان، وجعلنا نتلقى الرّكبان، فلم يرعنا إلّا النّعمى الناجمة، والبشرى الهاجمة، بما
بان، فأدهنا في شانه، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه، فإذا الخبر لم يخط صماخه، وكأنما كان عودا وافى مناخه، أو طائرا أمّ أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد، ويتعرضنا على عمد، تعرّض الجوزاء للنجوم؛ وينقضّ انقضاض نيازك النجوم، وقال: ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار؟
فقلنا: منك الإسجاح، فقد ملكت ومنك ولك النجاح، أيّة سلكت. فأطرق زهوا، وأعرض عنا لهوا، وقال: اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها، ومنعتني أخبارها، لمزّقت صدارها، وذروت غبارها، ولكان لي عنها أوسع منتدح، وأنجد زناد يقدح، أين أنتم عن رصدي الأحلاك، وعلمي بالأفلاك؟ أنا في مرج الموج، وأوج الأوج، والمتفرد بعلم الفرد والزّوج، ومسترط السّرطان، ومستدير الدّبران، وبائع المشتري بالميزان، والقابض بيوم الحساب والعمل، على روق الثّور وذنب الحمل، أعقد نصل العقرب، وأقيّد الأبعد والأقرب، لصيد أوابدها بالدقائق والدّرج، حتى اضطرّ سارحها إلى الحرج، وأصبحها في أضيق منعرج، أنا استذكرت بالأنبار، فرحة الإقبال وترحة الإدبار، وطالعت أقليدس فاستنبطته، وصارعت المجسطي فجسطنته، وارتمطت إلى الأرتماطيقا، وأطقت الألوطيقا، ولحظت التحليل بحلّ ما عقده، وانتضيته ما مطل به الجهابذة فنفّذه. وعاينت زحل، حين استقلّ على بعيره ورحل، وضايقته في ساحته، وحصرته في مساحته، وحضرت قرانه، وشهدت تقدّمه ومرانه، وشاهدته شفرا بشفر، وناجاني برقا يعدّ في الكفر، وتخريبه لملك الصّفر، وتفريقه لبلاد اللّطينة، وإنجاز الوعد في فتح قسنطينة. أنا عقدت رشا الدّلو، وذروت غبار الحوت للفلو. أنا اقتدحت سقط الجوزهر، فلاح بعد خفائه وظهر. أنا استثرت الهلال من مكامن سرره، وأخذت عليه ثنايا سفره، وقددت قلامته من ظفره، ودللت طير الصّاير على شجره، فجنيت المرّ من ثمره، أنا طرقت الزّهرة في خدرها، وصافحتها من الفكرة بيد لم تدرها. أنا أذكيت على ذكاء فظلّت تلتهب، وأحرزتها من الوهم شطنا أجذبها به فتنجذب. أنا أنعى للمعتبرين حياتها، فيشبهون الحسنة ويتحرّون أوقاتها، حتى تنتشر بعد الطيّ حياتها، وتستقيل من العثار آياتها.
أنا انتضيت للشباب شرخا، وأضرمت للمرّيخ عقارا ومرخا، حتى أتغانى بملاحم حروبه، وحوادث طلوعه وغروبه، وتلمّظه إلى النّجيع، وولوغه في مهجة البطل السّجيع. أنا أبرى من اللّمم، وأشفى من الصّمم، وأنقل العطس إلى الشّمم. فقلنا:
أمّا الأولى، فقد سلّمنا لك جميعها، وأمّا هذه الثلاثة فلن تستطيعها. قال: فلم تعجزون ولا تستخزون؟ فقلنا: من كان له علاج فبنفسه يبدأ، ونغب بغيره. ولسنا نريدك، ولكن تهتزّ يدك. قال: أما من بينهم روي، وألقى في روعه ما ألقى في روعي، فمثله كالصّارم، حسنه في فرنده، لا غمده، وجماله في حدّه لا في خدّه،
والمرء كما قيل بأصغريه، لا بمنخريه، والشأن في الحيزوم، لا في الخيشوم، وفي الذّكرين، لا في الأنثيين، وبعد، فهو كلام ظاهره إجمال، وباطنه احتمال، وسأنبّئكم بغزارة سيله، وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضّغنة، ويتزوج في آل جفنة. فإن الله أتمّ، جاء الولد أتمّ، وإن نام عرق خاله، بقي الولد بحاله. وأما الأصمّ، فيخرج عن الغلام، وبلا فال، ويطلب في بني السّميعة بركة الاسميّة والفال، فإن الله أراد، ظفر بالمراد، وجاء ابنه أسمع من قراد «1» . فأحسّ من بعض الحاضرين تمريضا، وعاين طرفا غضيضا، فتعكّر وتشذّر، وطوّف وحذّر، وقال صاحب الشريعة، سمّاهم بني السّميعة، قوموا يا بني اللّكيعة، فقد قطعتم رزقي، وآذيتم طرقي، وأذللتم ضربي وطرقي، وسددتم طوقي، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي. ذروني للتي هي للبليّة تجني، ثم الوجد يعني، لو شرب نواديه إثر تجنّي.
ثم نجا بعزمته سميلا، وأرسل بنات نعش ذيلا، وقد أفاد بما استصحب من ميامنك ليلا، كذّبني أيّدك الله عند نواه، ولم يطلعني طلع ما نواه؛ وما ذاك إلّا لمطمع لواه، ومغنم هواه. فرفعت لي بعد وداعه نجوة، ورمتني بشخصه فجوة، فقلت: ما أراك إلّا غائل، أورثت عنك الحبائل. فسراك سرى قين، وحديثك مين، ألم تعبر دجيلا، ويمّمت سهيلا؟ فقال: طربت إلى الأصفية الصّغار، وشاقني الشوق بين الطّواغيت والأصفار. فقلت له: هلمّ إلى خطّ نعيده، وحظّ نستفيده. فقال: لولا أن تقولوا الساعة متى، وتطالبوني بإحياء الموتى، لما أجمعت إلى الغرب غروبا، ولأريتكم من الحذق ضروبا. ثم قال: إن لي بالحضرة أفراخا، وأمّا استصرخت عليها استصراخا، وانسلخت منها انسلاخا، وأعيا عليّ أمره فلم أعلم له ظعنا ولا مناخا. فلبثت كذلك أياما، ثم اعتمّ عليّ أمره اعتياما، ولم أعرف له إنجادا ولا اهتماما، فإذا به وقد أضمرت عنه بأسا، ولم أطمع فيه رأسا، قد أشبّ لي شبابا، ولمعت صلعته شهابا، تكتنفه صرّة، وبيمناه قوصرة «2» ، وتؤود يسراه جرّة. فقلت له: قاتلك الله، ما أشدّ فقداتك إلّا فقدتك، وما أذكر وجداتك إلّا وجدتك، أين أفراخك، والأمّ التي جذبها استصراخك؟ فقال: الصعلوك، لو أعلم مذاهبه، تحرّم مناهبه، وتحدم مراهبه. ذرني وعلاجي، أحاجي وأداجي، وأعاين وأناجي، وأتقلب في بركة دعاء الباجي. فقلت له: مالك وللميت، ورحم الله من سمّيت. قال: لمّا أذن الله فالتأمت الشّيمة، وتمزّقت عني المشيمة، هممت بالسّرق، ولففت في
الخرق، وفارقت من الضيق منتداه، وأفلتتني يداه؛ فحنّكني السعد بتمر المدينة، وسقاني من ماء البلدة الأمينة، وعوّذني بدعوات متينة. فها أنا كما ترى أتهادى وأجتذب، وأستحلي وأستعذب. فقلنا: لعمرك إنه لفضل عميم، لولا الصّميم، وإنها لمنقبة، لولا العقبة، وأثرة ملتمسة، لولا العطسة، فقال: دعنا من زخاريفك، وأغضض من عنان تصاريفك. البازل «1» لا يكون إلّا ذميما، والليث لا يوجد إلّا شميما. ثم قام وحمل، وابتدر وارتجل:[مجزوء الخفيف]
عيشنا كلّه خدع
…
فاترك اللوم عنك ودع
أنا كالليث والليو
…
ث بأرسائها ترع
ولها الأوجه السّي
…
مه من يلقها يرع
أيّ حسن لمازن
…
بيد الدّلّ يخترع؟
أنا كالسّيف حدّه
…
لا يبالي بما وقع
إنما الحسن للمها
…
ة وللظّبي يا لكع
فقلت: تبّا لك سائر اليوم، إنك لتريش وتبري، وتقدّ وتفري، وتحاسن وتقابح، وتهارش وتنابح، وتحبّ وتتأمل، وتحسن وتغلغل، وتشاعر وتراجز، وتناطح وتناجز. وأنت على هذا كله مصرّ، ما جزاؤك إلّا ريح فيها صرّ، فما هو إلّا أن غفلت عنه لمحة طرف، أو نفحة عرف، ثم التفتّ وإذا به قد أفلس، وكأنما كان برقا خلّس، ولم أدر أقام أو جلس.
ومحاسنه القطر الذي لا يعدّ، والأمر الذي يأخذه الحدّ. وكفى بهذه الرسالة دليلا على جلالة مقداره، وتدفّق بحاره وفخاره؛ لما اشتملت عليه من بلاغة وبيان، وبساط حال أنت على خبره بعيان، وعلوم ذات افتنان، خلّد الله عليه الرحمة، وضاعف له المنّة والنعمة.
مولده: بأوائل ربيع الثاني عام خمسة وستين وأربعمائة «2» .
وفاته: من خطّ الحافظ المحدّث أبي القاسم بن بشكوال، رحمه الله: كان «3» ممن أصيب أيام الهرج بقرطبة، فعظم المصاب به، الشيخ الأجلّ، ذو الوزارتين، السيد الكامل، الشهير الأثير، الأديب، اللغوي، السّري، الكاتب البليغ، معجزة زمانه