الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاله: قال: طبيب ماهر، وأديب شاعر؛ كان في أيام بني حسّون، يخفّ عليهم، وله فيهم أمداح كثيرة. يذكر أنه دخل يوما على القاضي أبي مروان بن حسّون، بعد انقطاع عن زيارته، فعتبه القاضي، فاعتذر، ثم أنشد:[مخلع البسيط]
يا حاملا من علاه تاجا
…
ومن سنا وجهه سراجا
لو كان رودي عديل ودّي
…
لكنت من بابك الرّتاجا
إن لم يعرّج عليك شخصي
…
نفسي وروحي عليك عاجا
وذكره ابن عسكر في كتابه.
محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد بن فتوح بن محمد بن أيوب بن محمد بن الحكيم اللخمي ذو الوزارتين
«1»
يكنى «2» أبا عبد الله، رندي النشأة، إشبيلي الأصل، يرجع بيته، وبيت بني حجاج، وبيت بني عباد، إلى جرثومة واحدة. وانتقل سلفه إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جدّ والده هو المعروف بالحكيم لطبّه. وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر، إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق فيها العلّامة أبا عبد الله بن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتّابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء، إلى أن توفي هذا السلطان، وتقلّد الملك بعده وليّ عهده أبو عبد الله المخلوع، فقلّده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الدّاني، فلمّا توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة، ولقّبه ذا الوزارتين، وصار صاحب أمره، إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلا، نفعه الله تعالى، غدوة يوم الفطر، مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه، وخلافة أخيه أمير المسلمين، أبي الجيوش، مكانه.
حاله: كان «3» ، رحمه الله تعالى، علما في الفضيلة والسّراوة، ومكارم الأخلاق، كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالي الهمة، كاتبا بليغا، أديبا،
شاعرا، حسن الخطّ، يكتب خطوطا على أنواع كلّها جميلة الانطباع، خطيبا، فصيح القلم، زاكي الشّيم، مؤثرا لأهل العلم والأدب، برّا بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للفضائل آفاق «1» . ومن «عائد الصلة» :
كان «2» ، رحمه الله، فريد دهره سماحة، وبشاشة، ولوذعيّة، وانطباعا، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزّا للمديح، طلقا للأمل، كهفا للغريب، برمكي المائدة «3» ، مهلّبي الحلوى «4» ، ريّان من الأدب، مضطلعا بالرواية، مستكثرا من الفائدة. يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التّحسين والتّقبيح، ورفع راية الحديث والتّحديث، نفّق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله السياسة عن النظر، ولا عاقه تدبير الملك عن المطالعة والسماع والإفراط «5» في اقتناء الكتب، حتى ضاقت قصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها. قام له الدّهر على رجل «6» ، وأخدمه صدور البيوتات، وأعلام الرّياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمّل من «7» الآفاق النائية.
رحلته ونباهته: رحل «8» إلى الحجاز الشريف من بلده، على فتاء سنّه، أول عام ثلاثة «9» وثمانين وستمائة، فحجّ وزار، وتجوّل في بلاد المشرق، منتجعا عوالي الرواية في مظانّها، ومنقّرا عنها عند مسنّي شيوخها، وقيّد الأناشيد الغريبة، والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرّفها الله، من شهر رمضان إلى انقضاء الموسم، فأخذ بها عن جماعة يأتي ذكرهم في مشيخته. وانصرف إلى المدينة المشرّفة، ثم قفل مع الرّكب الشامي إلى دمشق، ثم كرّ إلى المغرب، لا يمرّ بمجلس علم أو تعلّم إلّا روى أو روّي. واحتلّ رندة، حرسها الله، أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، وأقام «10» بها عينا في قرابته، وعلما في أهله، معظّما عندهم «11» ، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب، الوقيعة البرمكيّة «12» . وورد رندة في أثر ذلك، في شهر جمادى الآخرة من عام ستة وثمانين وستمائة، فتعرّض إليه، ومدحه «13» ، وهنّأه بقصيدة طويلة
من أوليات شعره، أولها»
: [الرمل]
هل إلى ردّ عشيّات الوصال
…
سبب أم ذاك من ضرب المحال؟
فلمّا أنشدها إياه، أعجب به، وبحسن خطّه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوفادة على حضرته، فوفد «2» إليها في آخر العام المذكور، فأثبته في خواصّ دولته، وأحظاه لديه، إلى أن رقّاه إلى كتابة الإنشاء ببابه. واستمرّت حاله، معظّم القدر، مخصوصا بالمزية، إلى أن توفي السلطان، ثاني الملوك من بني نصر، وتقلّد الملك بعده، وليّ عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقّبه بذي الوزارتين؛ وأعطاه العلامة، وقلّده الأمر، فبعد الصّيت، وطاب الذّكر، إلى أن كان من الأمر «3» ما يأتي به الذكر قريبا إنشاء الله تعالى.
مشيخته: قرأ «4» برندة على الشيخ النحوي أبي الحسن علي بن يوسف العبدري السّفاح، القرآن العظيم بالروايات السّبع، والعربية وغير ذلك. وعلى الخطيب بها أبي القاسم بن الأيسر، وأخذ عن والده جميع مرويّاته. واستجاز له في صغره أعلام ذلك الزمان، وأخذ في رحلته عن الجلّة من الجملة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر.
فمنهم أبو اليمن جار الله ابن عساكر، لقيه بالحرم الشّريف، وانتفع به، واستكثر من الرواية عنه. ومنهم الشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرّاني، المعروف بابن هبة الله الحراني. ومنهم الشيخ الشريف «5» أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري- جزائر المغرب- نزيل بغداد. ومنهم الشيخ أبو الصفا خليل بن أبي بكر بن محمد المرادي الحنبلي، لقيه بالقاهرة. ومنهم الشيخ رضي الدين القسطميني أبو بكر. ومنهم الشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطي، إمام الديار المصرية، في الحديث ومؤرخها وحافظها. ومنهم عبد المنعم بن محمد بن يوسف بن أحمد الخيمي، شهاب الدين أبو عبد الله، نزيل مشهد الحسين بن علي، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها «6» :[البسيط]
يا مطلبا ليس لي في غيره أرب
…
إليك آل التّقصّي وانتهى الطلب
ومنها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه «1» :
يا بارقا بأعالي الرّقمتين بدا
…
لقد حكيت ولكن فاتك السّبب «2»
ومنهم عبد المولى يحيى بن حماد البعلبكي؛ مولده سنة إحدى عشرة وستمائة. ومنهم محمد بن بكر بن خلف بن أبي القاسم الصّفار. ومنهم الشيخ أبو الفضل الأديب جمال الدين بن أبي الخير بن علي بن عبد الله بن رواحة. ومنهم محمد بن يحيى بن عبد الله القرشي جمال الدين أبو صادق، ومن تخريجه «الأربعون المرويّة بالأسانيد المصرية» ، وسمع الحلبيّات من ابن عماد الحرّاني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة، ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. ومنهم الشيخ محمد بن عباس الأشعري تقي الدين الحافظ أبو القاسم. ومنهم الشيخ محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن عبد المجيد الأنماطي. ومنهم أبو البدر بن عبد الله بن أبي الزبير، الكاتب المصري. ومنهم الشيخ عبد الرحيم بن عبد المنعم بن خلف التّدميري. ومن رؤساء شيوخه؛ الشيخ محيي الدين أبو الفضل. ومنهم زينب بنت الإمام أبي محمد عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي، تكنّى أم الفضل، وسمعت من أبيها. ومنهم محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الخراساني، أبو عبد الله موقّر الدين، وألبسه خرقة التصوف.
ومنهم الشيخ محمد بن يحيى بن هبيرة الشّيباني شرف الدين. ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن عيسى بن عيسى بن يوسف بن إبراهيم بن إسماعيل السّلفي. ومنهم الشيخ علي بن عبد الكريم بن عبد الله الدّمشقي، أبو الحسن؛ ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ومنهم الشيخ غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الجلاوي.
ومنهم الشيخ نور الدين علي بن محمد أبي البركات الأنصاري المقرئ بحرم الخليل، سمع من أبي الحسن علي بن شجاع. ومنهم يوسف بن داود بن عيسى بن أيوب الحنفي.
ومنهم الملك الأوحد يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين «3» داود بن الملك المعظّم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ومنهم عبد المنعم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر القرشي الزّهري خطيب القدس. ومنهم الشيخ عبد الحفيظ بن بدران، ويدعى عليّ الدين من أهل بانياس، سمع من ابن صيصرى.
ومنهم الشيخ علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم المقدّسي. ومنهم الشيخ محمد بن
محمد بن سالم بن يوسف بن أسلم القرشي، جمال الدين. ومنهم عبد الواسع بن عبد الكافي شمس الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن أحمد الزّجاجي البغدادي الإمام تقي الدين. ومنهم عبد الجميل بن أحمد بن الزّجاج. ومنهم فاطمة بنت إبراهيم بن محمد بن محمود بن جوهر البعلبكي، الشيخة الكاتبة الخيّرة أم الخير. ومنهم الشيخ يوسف ابن أبي ناصر السفاوي. ومنهم الشيخ عبد السلام بن محمد بن مزروع، أبو محمد عفيف الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان بن محمد الشافعي البخاري شمس الدين. ومنهم الشيخ عبد الله بن خير بن أبي محمد بن خلف القرشي. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الباقي بن علي الصّواف شرف الدين. ومنهم الشيخ علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن زريق الكاتب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ سليمان بن علي بن عبد الله الكاتب التّلمساني عفيف الدين الصّوفي الأديب نزيل دمشق، ومولده بتلمسان. ومنهم الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الميموني البستي القسطلاني قطب الدين، الإمام المفتي شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة المعزّية. ومنهم الشيخ عبد الكريم بن علي بن جعفر القرشي جمال الدين.
ومنهم الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الظاهر جمال الدين. ومنهم محمد بن محمد بن إبراهيم النجاشي. ومنهم الشيخ عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر الطبري، إمام الروضة النبوية ثم الصخرة القدسية. ومنهم الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي محمد بن إسماعيل بن جندرة. ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن أنسكرت فخر الدين. ومنهم الشيخ ثابت بن علي بن عبد العزيز بن قاسم بن عبد الرازق، سمع على ابن المغير البغدادي. ومنهم الشيخ أمين الدين أبو الهامات جبريل بن إسماعيل بن سيد الأهل الغساني. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله الأندلسي الأصل شرف الدين، سمع من علم الدين الشيخوني وغيره. ومنهم الشيخ محمد بن محمد الشامي الشافعي الدمشقي، إمام مسجد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يدعى شمس الدين، سمع من الزبيدي. ومنهم الشيخ يحيى بن الخضر بن حاتم الأنصاري، يعرف بابن عزّ الدولة.
وأجاز له جماعة، منهم ابن عماد الحرّاني، ومنهم ابن يحيى بن محمد بن محمد الهمداني كمال الدين، وسمع من ابن الزّجّاج وابن رواح الحميري. ومنهم الشيخ عبد الملك أبو المعالي بن مفضل الواسطي، عرف بابن الجوزي، سمع على جماعة، منهم شعيب الزعفراني. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن ياسر بن شاكر الحاكمي. ومنهم الإمام مفتي المسلمين، رضي الله عنه. ومنهم أبو عبد الله محمد بن
أبي بكر بن خليل العسقلاني المكّي. ومنهم الخطيب أبو عبد الله محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن رحيمة الكناني، خطيب بجايه. ومنهم قاضي القضاة ببلاد إفريقية أبو العباس ابن الغمّاز البلنسي، لقيه بتونس. ومنهم الفقيه العلّامة الوزير أبو القاسم محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن يوسف الخلابي. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد الحجاج بن يوسف بن إبراهيم بن عتّاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ الفقيه أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن يربوع السّبتي. ومنهم الإمام قدوة النحاة أبو الحسين عبيد «1» الله بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن أبي الربيع القرشي. ومنهم الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد بن عبد الحق الزّواوي المشدالي، من أهل بجاية. ومنهم الخطيب القاضي أبو عمرو إسحاق بن أبي إسحاق بن عبد الوهاب الرّندي، إلى طائفة كبيرة من أهل المشرق والمغرب.
محنته: أغرى به الأمير ولي العهد، بسبب أمور اختلف فيها، منها أبيات في هجو الدولة النصرية، الله أعلم بصحة نسبتها إليه، فأوقع به، وناله بين يديه نكال كبير أفلت منه برفق، واختفى مدة في المآذن المقفلة والأماكن الخفية، حتى أصحى له جوّ سخطه، وقضى الله بردّ أمره إليه، واستيلائه على ما وراء بابه.
من روى عنه: أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق بن أبي العاصي، وتدبّج معه رفيقه عبد الله بن رشيد وغير واحد. وكان ممدوحا، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، والرئيس أبو الحسن بن الجيّاب، وناهيك بهما. ومن بديع مدح ابن الجياب له، قصيدة رائية رائقة، يهنّئه فيها بعيد الفطر، منها في أولها «2» :[البسيط]
يا قادما عمّت الدنيا بشائره
…
أهلا بمقدمك الميمون طائره
ومرحبا بك من عيد تحفّ به
…
من السعادة أجناد تظاهره «3»
قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل
…
أبدى بك البشر باديه وحاضره «4»
والأرض قد لبست أثواب سندسها
…
والرّوض قد بسمت منه أزاهره
حاكت يد الغيث في ساحاته حللا
…
لمّا ساقها دراكا منك باكره
فلاح فيها من الأنوار باهرها
…
وفاح فيها من النّوّار عاطره
وقام فيها خطيب الطّير مرتجلا
…
والزّهر قد رصّعت منه منابره
موشيّ ثوب طواه الدّهر آونة
…
فها هو اليوم للأبصار ناشره
فالغصن من نشوة يثني معاطفه
…
والطّير من طرب تشدو مزاهره
وللكمام انشقاق عن أزاهرها
…
كما بدت لك من خلّ ضمائره
لله يومك ما أذكى فضائله
…
قامت لدين الهوى «1» فيه شعائره
فكم سريرة فضل فيك قد خبئت
…
وكم جمال بدا للناس ظاهره
فافخر بحقّ على الأيام قاطبة
…
فما لفضلك من ندّ يظاهره «2»
فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا
…
قيست بفخر أولي العليا مفاخره
يلتاح منه بأفق الملك نور هدى
…
تضاءل الشمس مهما لاح زاهره
مجد صميم على عرش السّماك سما
…
طالت مبانيه واستعلت مظاهره
وزارة الدّين والعلم الذي رفعت
…
أعلامه والنّدى الفيّاض زاخره
وليس هذا ببدع من مكارمه
…
ساوت أوائله فيه أواخره
يلقى الأمور بصدر منه منشرح
…
بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعى أمور الرّعايا معملا نظرا
…
كمثل علياه معدوما نظائره
والملك سيّر في تدبيره حكما
…
تنال ما عجزت عنه عساكره
سياسة الحكم «3» لا بطش يكدّرها
…
فهو المهيب وما تخشى بوادره
لا يصدر الملك إلّا عن إشارته
…
فالرّشد لا تتعدّاه مصائره
تجري الأمور على أقصى إرادته
…
كأنما دهره فيه يشاوره
وكم مقام له في كل مكرمة
…
أنست موارده فيها مصادره
ففضلها طبّق الآفاق أجمعها
…
كأنه مثل قد سار سائره
فليس يجحده إلّا أخو حسد
…
يرى الصباح فيعشى منه ناظره
لا ملك أكبر من ملك يدبّره
…
لا ملك أسعد من ملك يؤازره
يا عزّ أمر به اشتدّت مضاربه
…
يا حسن ملك به ازدانت محاضره
تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا
…
ويشهد الدهر آتيه وعابره «4»
بشرى لآمله الموصول مأمله
…
تعسا لحاسده المقطوع دابره
فالعلم قد أشرقت نورا مطالعه
…
والجود قد أسبلت سحّا مواطره
والناس في بشر «1» والملك في ظفر
…
عال على كلّ عالي القدر قاهره
والأرض قد ملئت أمنا جوانبها
…
بيمن من خلصت فيها سرائره
والى «2» أياديه من مثنى وواحدة «3»
…
تساجل البحر إن فاضت زواخره
فكلّ يوم تلقّانا عوارفه
…
كساه أمواله الطّولى دفاتره
فمن يؤدّي لما أولاه من نعم
…
شكرا ولو أنّ سحبانا يظاهره
يا أيها العبد «4» بادر لثم راحته
…
فلثمها خير مأمول تبادره
وافخر بأن قد «5» لقيت ابن الحكيم على
…
عصر يباريك أو دهر تفاخره
ولّى الصيام وقد عظّمت حرمته
…
فأجره لك وافيه ووافره
وأقبل العيد فاستقبل به جذلا
…
واهنأ به قادما عمّت بشائره
ومن مدح الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي له قوله: [الطويل]
تراءى سحيرا والنسيم عليل
…
وللنّجم طرف بالصباح كليل
وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت
…
شوى أدهم الظّلماء منه خجول
بريق بأعلى الرّقمتين كأنه
…
طلائع شهب والسماء تجول
فمزّق ساجي الليل منه شرارة
…
وخرّق ستر الغيم منه نصول
تبسّم ثغر الروض عند ابتسامه
…
وفاضت عيون للغمام همول
ومالت غصون البان نشوى كأنها
…
يدار عليها من صباه شمول
وغنّت على تلك الغصون حمائم
…
لهنّ حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت
…
يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعا لا يزال يشوقني
…
إليه رسوم دونها وطلول
وجاد رباه «6» كلّما ذرّ شارق
…
من الودق «7» هتّان أجشّ هطول
وما لي أستسقي الغمام ومدمعي
…
سفوح على تلك العراص همول؟
وعاذلة باتت تلوم على السّرى
…
وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة
…
ونأي على ما خيّلت ورحيل
ذريني أسعى للّتي تكسب العلا
…
سناء وتبقي الذّكر وهو جميل
فأمّا تريني من ممارسة الهوى
…
نحيلا فحدّ المشرفيّ نحيل
وفوق أنابيب اليراعة صفوة
…
تزين وفي قدّ القناة ذبول
ولولا السّرى لم يحتل البدر كاملا
…
ولا بات منه للسّعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا
…
لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد
…
لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السّماك جلالة
…
وليس له إلّا نجوم قبيل
من القوم أمّا في النّديّ «1» فإنهم
…
هضاب وأمّا في النّدى فسيول
حووا شرف العلياء إرثا ومكسبا
…
وطابت فروع منهم وأصول
وما جونة هطّالة ذات هيدب
…
مرتها شمول مرجف وقبول
لها زجل من رعدها ولوامع
…
من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت
…
شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كفّ الوزير محمد
…
إذا ما توالت للسّنين محول
ولا روضة بالحسن طيّبة الشّذا
…
ينمّ عليها أذخر وجليل
وقد أذكيت للزّهر فيها مجامر
…
تعطّر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النّوّار للطّلّ عبرة
…
تردّدها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغرّ كلّما
…
تفاقم خطب للزمان يهول
حويت، أبا عبد الإله، مناقبا
…
تفوت يدي من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها
…
ونائل يمناك الكريمة نيل
فداك رجال حاولوا درك العلا
…
ببخل وهل نال العلاء بخيل؟
تخيّرك المولى وزيرا وناصحا
…
فكان له مما أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوّضا
…
إليك فلم يعدل يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيّد
…
نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أشوس باسل
…
مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقّاد الجبين كأنما
…
على وجنتيه للنّضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها
…
بثينة في الحبّ وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاؤها
…
حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت
…
إليه قلوب العالمين تميل
وأغدى قريضي جوده وثناؤه
…
فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت
…
برحلي هوجاء الثّجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا
…
بأيدي ركاب سيرهنّ ذميل
تسدّدني سهما لكل ثنيّة
…
ضوامر أشباه القسيّ نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى
…
ذراك برحلي هوجل وهجول
فقيّدت أفراسي به وركائبي
…
ولذّ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمّة
…
عليها لأحداث الزمان دحول
وتهوى العلا حظي وتغري بضدّه
…
لذاك اعترته رقّة ونحول
وتأبى لي الأيام إلّا إدالة
…
فصونك لي أنّ الزمان مديل
فكل خضوع في جنابك عزّة
…
وكل اعتزاز قد عداك خمول
شعره: وبضاعته في الشعر مزجاة، وإن كان أعلم الناس بنقده، وأشدّهم تيقّظا لمواقعه الحسنة وأضدادها. فمن ذلك قوله، ورفعه إلى السلطان ببلده رندة، وهو إذا ذاك فتى يملأ العين أبّهة، ويستميل القلوب لباقة، وهي، ومن خطه نقلت «1» :
[الرمل]
هل إلى ردّ عشيّات الوصال
…
سبب أم ذاك من ضرب المحال؟
حالة يسري بها الوهم إلى
…
أنها تثبت برءا باعتلال
وليال «2» ما تبقّى بعدها
…
غير أشواقي إلى تلك اللّيالي
إذ مجال الوصل فيها مسرحي
…
ونعيمي آمر فيها ووال
ولحالات التّراضي جولة
…
مزجت «3» بين قبول واقتبال
فبوادي الخيف خوفي مسعد
…
وبأكناف منى أسنى نوال «4»
لست أنسى الأنس فيها أبدا
…
لا ولا بالعذل في ذاك أبالي
وغزال قد بدا لي وجهه
…
فرأيت البدر في حال الكمال
ما أمال التّيه من أعطافه
…
لم يكن إلّا على فضل «5» اعتدال
خصّ بالحسن فما أنت ترى
…
بعده للناس حظّا في الجمال
من تسلّى عن هواه فأنا
…
بسواه عن هواه غير سال
فلئن أتعبني حبّي له
…
فكم نلت به أنعم حال
إذ لآلي «1» جيده من قبلي
…
ووشاحاه يميني وشمالي
خلّف النوم لي السّهد به
…
وترامى الشّخص لا طيف الخيال
فيداوى «2» بلماه ظمئي
…
مزجك الصّهباء بالماء الزّلال
أو إشادات» بناء الملك ال
…
أوحد الأسمى الهمام المتعالي
ملك إن قلت فيه ملكا
…
لم تكن إلّا محقا في المقال
أيّد الإسلام بالعدل فما
…
أن ترى رسما لأصحاب الضّلال
ذو أياد شملت كلّ الورى
…
ومعال يا لها خير معال
همّة هامت بأحوال التقى
…
وصفات بالجلالات حوال
وقف النّفس على إجهادها
…
بين صوم وصلاة ونوال
ومنها في ذكر القوم الموقع بهم «4» :
وفريق من عتاة عاندوا
…
أمره فاستوجبوا سوء نكال
غرّهم طول التّجافي عنهم
…
مع شيطان لهم كان موال
فلقد كانت بهم رندة أو
…
أهلها في سوء تدبير وحال
ولقد كان النّفاق مذهبا
…
فاشيا بين هاتيك التلال
ما يعود اليوم إلّا بادروا
…
برواة ونكيرات ثقال
طوّقوا النّعمى فلمّا أنكروا
…
طوّقوا العدل بذي البيض العوال
ماطل الدهر بهم غريمه
…
فهو الآن وفي بعد المطال
ولقد كنت غريم الدهر إذ
…
شدّني جورهم شدّ عقال
ولكم نافرته مجتهدا
…
عندما ضاق بهم صدر احتمالي
أعقبوا جزاء ما قد أسلفوا
…
في الدّنا ويعقبوه في المآل
وهي طويلة ومنها:
أيها المولى الذي نعماؤه
…
أعجزت عن شكرها كنه المقال
ها أنا أنشدكم مهنّئا
…
من بديع النّظم بالسّحر الحلال
فأنا العبد الذي حبّكم
…
لم يزل والله في قلبي وبالي
أورقت روضة آمالي لكم
…
وتولّاها الكبير المتعالي «1»
واقتنيت الجاه من خدمتكم
…
فهو «2» ما أذخره من كنز مال
ومنها:
يا أمير المسلمين هذه
…
خدمة تنبىء عن أصدق حال
هي بنت ساعة أو ليلة
…
سهلت بالحبّ في ذاك الجلال
ما عليها إذ أجادت مدحها
…
من بعيد الفهم يلغيها وقال
فهي في تأدية الشكر لكم
…
أبدا بين احتفاء واحتفال
وكتب، رحمه الله، يخاطب أهله من مدينة تونس «3» :
حيّ حيّ بالله يا ريح نجد
…
وتحمّل عظيم شوقي ووجدي
وإذا ما بثثت حالي فبلّغ
…
من سلامي لهم على قدر ودّي
ما تناسيتهم وهل في مغيبي
…
هم «4» نسوني على تطاول بعدي
بي شوق إليهم ليس يعزى
…
لجميل «5» ولا لسكّان نجد
يا نسيم الصّبا إذا جئت قوما
…
ملئت أرضهم بشيح ورند
فتلطّف عند المرور عليهم
…
وحقوقا لهم عليّ فأدّ
قل لهم قد غدوت من وجدهم في
…
حال شوق لكلّ رند وزند
وإن استفسروا حديثي فإني
…
باعتناء الإله بلّغت قصدي
فله الحمد إذ حباني بلطف
…
عنده قلّ كلّ شكر وحمد
قال شيخنا أبو بكر ولده: وجدت بخطّه، رحمة الله عليه، رسالة خاطب بها أخاه أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها «1» :[الكامل]
ذكر اللّوى شوقا إلى أقماره
…
فقضى أسى أو كاد من تذكاره
وعلا زفير حريق نار ضلوعه
…
فرمى على وجناته بشراره
لو كنت تبصر خطّه في خدّه
…
لقرأت سرّ الوجد من أسطاره
يا عاذليه أقصروا فلربما «2»
…
أفضى عتابكم إلى إضراره
إن لم تعينوه على برحائه «3»
…
لا تنكروا بالله خلع عذاره
ما كان أكتمه لأسرار الهوى
…
لو أنّ جند الصّبر من أنصاره
ما ذنبه والبين قطّع قلبه
…
أسفا وأذكى النار في أعشاره
بخلّ اللّوى بالساكنيه وطيفهم
…
وحديثه ونسيمه ومزاره
يا برق خذ دمعي وعرّج باللّوى
…
فاسفحه في باناته وعراره
وإذا لقيت بها الذي بإخائه
…
ألقى خطوب الدّهر أو بجواره
فاقر السلام عليه قدر محبتي
…
فيه وترفيعي إلى مقداره
والمم «4» بسائر إخوتي وقرابتي
…
من لم أكن لجوارهم بالكاره
ما منهم إلّا أخ أو سيّد
…
أبدا أرى دأبي على إكباره
فاثبت «5» لذاك الحيّ أنّ أخاهم
…
في حفظ عهدهم على استبصاره
ما منزل اللذات في أوطانه
…
كلّا ولا السّلوان من أوطاره «6»
وقال، رحمه الله، في غرض كلّفه سلطانه القول فيه «7» :[الوافر]
ألا وأصل مواصلة العقار
…
ودع عنك التخلّق بالوقار
وقم واخلع عذارك في غزال
…
يحقّ لمثله خلع العذار
قضيب مائس من فوق دعص
…
تعمّم بالدّجى فوق النهار
ولاح بخدّه ألف ولام
…
فصار معرّفا بين الدراري
رماني قاسم والسين صاد
…
بأشفار تنوب عن الشّفار
وقد قسمت محاسن وجنتيه
…
على ضدّين من ماء ونار
فذاك الماء من دمعي عليه
…
وتلك النار من فرط استعاري «1»
عجبت له أقام بربع قلبي
…
على ما شبّ فيه من الأوار
ألفت الحبّ حتى صار طبعا
…
فما أحتاج فيه إلى ادّكار
فما لي عن مذاهبه ذهاب
…
وهذا فيه أشعاري شعاري «2»
وقال العلّامة ابن رشيد في «ملء العيبة» «3» : لما قدمنا المدينة سنة 684 هـ، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم الحكيم، وكان أرمد «4» ، فلمّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حلّ في «5» تلك الديار، فأحسّ بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله:[الطويل]
ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا
…
بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبّا
وبالتّرب منها إذ كحلنا جفوننا
…
شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا
وحين تبدّى للعيون جمالها
…
ومن بعدها عنّا أديلت لنا قربا
نزلنا من «6» الأكوار نمشي كرامة
…
لمن حلّ فيها أن نلمّ به ركبا
نسحّ سجال الدّمع في عرصاتها
…
ونلثم من حبّ لواطئه التّربا
وإن بقائي دونه لخسارة
…
ولو أنّ كفّي تملأ الشرق والغربا
فيا عجبا ممن يحبّ بزعمه
…
يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا
وزلّات مثلي لا تعدّ كثيرة «7»
…
وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
ومن شعره قوله «8» : [السريع]
ما أحسن العقل وآثاره
…
لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه
…
كما يصون الحرّ أسراره
لا سيما إن كان في غربة
…
يحتاج أن يعرف مقداره
وقوله رحمه الله «1» : [البسيط]
إني لأعسر أحيانا فيلحقني
…
يسر من الله إنّ العسر قد زالا
يقول خير الورى في سنّة ثبتت
…
(أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا)
وهو من أحسن ما قاله رحمه الله.
ومن شعره قوله «2» : [الطويل]
فقدت حياتي بالفراق «3» ومن غدا
…
بحال نوى عمّن يحبّ فقد فقد
ومن أجل بعدي من «4» ديار ألفتها
…
جحيم فؤادي قد تلظّى وقد وقد
وحكي أن ذا الوزارتين المترجم، لما اجتمع مع الفقيه الكاتب ابن أبي مدين، أنشده ابن أبي مدين «5» :[الطويل]
عشقتكم بالسّمع قبل لقاكم
…
وسمع الفتى يهوى لعمري «6» كطرفه
وحبّبني ذكر الجليس إليكم
…
فلمّا التقينا كنتم فوق وصفه
فأنشده ذو الوزارتين ابن الحكيم قوله «7» : [البسيط]
ما زلت أسمع عن علياك كلّ سنا
…
أبهى من الشمس أو أجلى من القمر
حتى رأى بصري فوق الذي سمعت
…
أذني فوفّق بين السّمع والبصر
ومن نظمه مما يكتب على قوس «8» : [الكامل]
أنا عدّة للدين في يد من غدا
…
لله منتصرا على أعدائه
أحكي الهلال وأسهمي في رجمها
…
لمن اعتدى تحكي رجوم «9» سمائه
قد جاء في القرآن أني عدّة
…
إذ نصّ خير الخلق محكم آيه
وإذا العدوّ أصابه سهمي فقد
…
سبق القضاء بهلكه وفنائه
ومن «1» توقيعه ما نقلته من خط ولده أبي بكر في كتابه المسمى ب «الموارد المستعذبة» ، وكان»
بمدينة وادي آش الفقيه الكذا أبو عبد الله محمد بن غالب الطريفي، فكتب «3» يوما إلى الشيخ خاصة والدي «4» أبي جعفر بن داود، قصيدة طويلة على روي السّين، يشتكي «5» فيها من جور «6» مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم بن حسّان، منها:[البسيط]
فيا صفيّ أبي العباس، كيف ترى
…
وأنت كيّس «7» من فيها من اكياس
ولّوه إن كان ممّن ترتضون به
…
فقد دنا الفتح للأشراف في فاس
ومنها يستطر ذكر ذي الوزارتين، رحمه الله:
للشرق فضل منه أشرقت شهب
…
من نورهم أقبسونا كل مقباس
فوقع عليها رحمة الله تعالى عليه ورضوانه «8» : [البسيط]
إن أفرطت بابن حسّان غوائله
…
فالأمر يكسوه ثوب الذّل والياس «9»
وإن تزلّ به في جوره قدم
…
كان الجزاء له ضربا على الرّاس
فقد أقامني المولى بنعمته
…
لبثّ أحكامه بالعدل في الناس
كتابته: وهي مرتفعة عن نمط شعره، فمن ذلك رسالة كتبها عن سلطانه في فتح مدينة قيجاطة «10» :
من الأمير فلان، أيده الله ونصره، ووفّقه لما يحب حتى يكون ممن قام بفرض الجهاد ونشره. إلى ابننا الذي نمنحه الحبّ والرضى، ونسأل الله أن يهبه الخلال التي تستحسن والشّيم التي ترتضى، الولد الأنجب، الأرضى، الأنجد، الأرشد، الأسعد، محمد، وإلى الله تعالى إسعاده، وتولى بالتوفيق والإرشاد سداده،
وأطلع عليه من أنباء الفتوح المبشّرة بالنصر الممنوح ما يكمل من بغيته في نصر دين الإسلام ويسني مراده.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الجهاد في سبيله أفضل الأعمال، الذي يقربه إلى رضاه، وندب إليه بما وعد من الثواب عليه، فقال: يا أيها النبي، حرّض المؤمنين على القتال، تنبيها على محل الثقة، بأن الفئة القليلة من أوليائه، تغلب الفئة الكثيرة من أعدائه، وتدارك دين الإسلام بإنجاز وعده في قوله، ولينصرنّ الله من ينصره، على رغم أنف من ظن أنه خاذله، تعالى الله عن خذلان جنده. والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله ومجتباه، لهداية الخلق لسلوك سبيل الحق، والعمل بمقتضاه. قال تعالى فيما أنزل: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
«1» تحريضا على أن يمحو ظلام ضلالهم بنور هداه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأشداء على الكفار، الذين جرّدوا في نصرة دينه صوارم العزم وأمضوا ظباه، وفتحوا ما زوّى له من مشارق الأرض ومغاربها حتى عمّ الإسلام حدّ المعمور ومنتهاه. فإنّا كتبنا لكم، كتب الله لكم من سماع البشائر ما يعود بتحويل الأحوال، وأطلع عليكم من أنباء الفتوح ما يلوح بآفاق الآمال، مبشرا باليمن والإقبال. من قيجاطة، وبركات ثقتنا بالله وحده، تظهر لنا عجائب مكنونات ألطافه، وتجنينا ثمار النصر في إبّان قطافه، وتسخّر لنا ورد مشرع الفتح فترد عذب نطافه، والحمد لله الذي هدانا لأن نتقلّد نجادها، ونمتطي جوادها، ونستوري زنادها، ونستفتح بها مغالق المآرب، ولطائف المطالب، حتى دخلت الملّة الحنيفية في هذه الجزيرة الأندلسية أغوارها وأنجادها. وقد «2» تقرّر عند الخاص والعام، من أهل الإسلام، واشتهر في جميع «3» الأقطار اشتهار الصبح في سواد الظلام، أنّا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لغرض «4» دنيا. وأنّا ما قصّرنا في الاستنصار والاستنفار «5» ، ولا قصرنا «6» عن الاعتضاد لكلّ من أمّلنا معونته «7» والاستظهار، ولا اكتفينا بمطوّلات الرسائل وبنات الأفكار، حتى اقتحمنا بنفوسنا لجج البحار، وسمحنا بالطّارف من أموالنا والتّلاد، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد، واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد، فلم
يكن بين تلبية المدعوّ وزهده، وبين قبوله وردّه، إلّا كما يحسو الطائر ماء الثّماد ويأبى الله أن يكل نصر «1» هذه الجزيرة إلى سواه، وأن يجعل فيها سببا إلّا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه. ولمّا أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مثاويه «2» ، وبقي المسلمون يتوقّعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه، ألقينا إلى الثقة بالله تعالى وحده يد الاستسلام، وشمّرنا عن ساعد الجدّ والاجتهاد «3» في جهاد عبدة الأصنام، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
«4» أخذ الاعتزام، فأمدّنا الله تعالى بتوالي البشائر، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قوّاد «5» العساكر، ونفلنا «6» على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما عدّ «7» ذكره في الآفاق كالمثل السائر وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
«8» ، وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر. وحين أبدت لنا العناية الربّانيّة وجوه الفتوح «9» سافرة المحيّا، وانتشقنا نسيم «10» النّصر الممنوح عبق الرّيّا، استخرنا الله تعالى في الغزو بأنفسنا «11» ونعم المستخار، وكتبنا إلى من قرب من عمّالنا «12» بالحضّ على الجهاد والاستنفار. وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطوّعين، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين، خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل، وعناية الله بهذه الفئة المفردة من المسلمين، تقضي بتقريب البعيد من آمالنا، وتكثير القليل. ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرّضا والقبول، وأن يرشدنا إلى طريق يفضي «13» إلى بلوغ الأمنية والمأمول «14» ، إلى أن حللنا عشيّة يوم الأحد ثاني يوم خروجنا بمقربة حصن اللّقوة فأدرنا به التّدبير، واستشرنا من أوليائنا من تحققنا نصحه فيما يشير، فاقتضى الرأي المقترن بالرّشاد، المؤذن بالإسعاد، قصد قيجاطة لما رجى من تيسير فتحها، وأملا في إضاءة فجر الأماني لديها، وبيان صبحها، فسرنا نحوها في جيش يجرّ على المجرّة ذيل النقع المثار، ويضيق عن كثرته واسع الأقطار، ويقرّ عين الإسلام بما اشتمل عليه من الحماة والأنصار، تطير بهم نيّاتهم بأجنحة العزم إلى
قبض أرواح الكفار. فلمّا وصلنا إلى وادي على مقربة منها نزلنا به نريح الجياد، ونكمل التأهّب للقتال والاستعداد، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار، وقدحت به الأصباح زند الأنوار، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها، والسيوف قد كادت تلفظها غمودها، وبصائر الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلمّا وصلناها وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس، وهتكوا ستر عصمتها المحروس، وأذن لها بزوال النعم وذهاب النفوس، فعاجلها الأولياء بالقتال، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النّصال، ورشقوا جنودها بالنّبال، وجدّوا بنات الآجال، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به لاذوا بالفرار من الأسوار، وولّوا الأدبار، وودّعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنّم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه، وخرقوا حجاب السّتر المسدول عليه وهتكوه، وتسرعوا إلى البلد الثاني وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم، وانتقوهم من متخيّري أبطالهم، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم، فحمل عليهم المسلمون حملة عرّفوهم بها كيف يكون اللّقاء، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشّقاء، وأظهروا لهم من صدق العزائم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصارا لا يرغبون بأنفسهم عن الذّبّ عنه وحماية راياته، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدّخان، ورموا النصارى من النّبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى، وولوا أدبارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأخلوا بروجهم وأسوارهم، وتسنّمها المسلمون معلنين شعار الإسلام، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السّعادة تبشّر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة فألفوا بها من القوت والعتاد، والمتاع الفاخر الذي يربو على التّعداد، ما ملأ كلّ يمين وشمال، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال، وقتلوا بها من الحماة أعداء أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الفنا والاعتزام، وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع النصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها، معتصمين بعلوّها وارتفاعها، متخيّلين لضلالهم، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحلّ بديارهم. فرأينا أن نرقي الرجال إلى أبراج البلد وأسواره، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيّقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلمّا بدا ضوء الصباح بنور الإشراق، ولاح وجه الغزالة طارحا شعاعه على الآفاق، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار، وعيّنّا لكل جماعة منهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشدّ البدار، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر
للكافرين ببال، وجرّعوهم كؤوس المنايا، وأداروا بها بنات الحنايا، فأفضت السّجال وأظهر الكفار، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا أن يقيموا بذلك لصلبانهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم، ألقوا بأيديهم إلى التّهلكة إلقاء من هاله لمعان الأسنّة واهتزاز ردينيات القنا، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل بعد ما أشرف على الفنا، وهبط زعيمهم مقتحما خطر تلك المسالك، متضرّعا تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك، وشرط أن يملّكنا القصبة، ويبقى خديما لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المنتخبة، فلم نظهر له عند ذلك قبولا، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبيلا، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط، بعد عهد المسلمين بمثلها، وهيّئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حقّ التكميل، وظهرت لنا منه أمارات الوفاء الجميل، دخلنا القصبة حماها الله، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام، ناطقة عن الإسلام، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون، أمناء رجالنا.
فالحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشارا، وخفضت علم التثليث ورفعت للتوحيد منارا، وأظهرت للملّة الحنيفية على أعدائها اعتلاء واستكبارا. وهذا القدر من الفتح وإن كان سامي الفخر، باقي الذكر بقاء الدهر، فإننا لنرجو من فضل الله أن يتبعه بما هو أعلى منه متانة، وأعظم في قلوب أهل الإيمان موقعا وأعز مكانة، وأن يرغم بما يظهر على أيدينا من عز الإسلام، أنف من أظهر له عنادا وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشّروا، واشكروا الله عليه، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار، ويكثرون القتل والأسار، ويحكّمون أينما نزلوا السّيف والنار، والسلام.
ومن نثر آخر إجازة ما صورته «1» :
وها أنا أجري منه «1» على حسن معتقده، وأكله في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودّده، وأجيز له ولولديه، أقرّ الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته «2» ، وحسن اطلاعه يفصّل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه. والله سبحانه وتعالى «3» يخلّص أعمالنا لذاته، ويجعلها في ابتغاء مرضاته. قال هذا «4» محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامدا لله عز وجل، ومصلّيا ومسلما.
وفاته: قتل، رحمه الله، صبيحة عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة «5» ، وذلك لتاريخ خلع سلطانه. واستولت «6» يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبّر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره، فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب، والذّخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثيّ، وأخفرت ذمّته «7» ، وتعدّي به عدوة القتل إلى المثلة «8» ، وقانا الله مصارع السوء، فطيف بشلوه، وانتهب فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى.
مولده: برندة ظهر يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول المبارك، من عام ستين وستمائة. وممّن رثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين رحمه الله تعالى بقوله «9» :
[الطويل]
سقى الله أشلاء كرمن على البلى
…
وما غضّ من مقدارها حادث البلا
وممّا شجاني أن أهين مكانها
…
وأهمل قدر ما عهدناه مهملا
ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع
…
فما كنت إلّا عبدها المتذلّلا
سفكت وما كان الرّقوء نواله
…
لقد جئتها «10» شنعاء فاضحة الملا
بكفّي سبنتى أزرق العين مطرق «1»
…
عدا فغدا في غيّه متوغّلا
لنعم قتيل القوم في يوم عيده
…
قتيل تبكّيه المكارم والعلا
ألا إنّ يوم ابن الحكيم لمثكل
…
فؤادي، فما ينفكّ ما عشت مثكلا
فقدناه في يوم أغرّ محجّل
…
ففي الحشر نلقاه أغرّ محجّلا
سمت نحوه الأيام وهو عميدها
…
فلم تشكر النّعمى ولم تحفظ الولا
تعاورت الأسياف منه ممدّحا
…
كريما سما فوق السّماكين منزلا «2»
وخانته رجل في الطّواف به سعت
…
فناء بصدر للعلوم تحمّلا
وجدّل لم يحضره في الحيّ ناصر
…
فمن مبلغ الأحياء أنّ مهلهلا «3»
يد الله في ذاك الأديم ممزّقا «4»
…
تبارك ما هبّت جنوبا وشمألا
ومن حزني أن لست أعرف ملحدا
…
له فأرى للتّرب منه مقبلا
رويدك يا من قد غدا شامتا به
…
فبالأمس ما كان العماد المؤمّلا
وكنّا نغادي أو نراوح بابه
…
وقد ظلّ في أوج العلا متوقّلا «5»
ذكرناه يوما فاستهلّت جفوننا
…
بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا
ومازج منه الحزن طول اعتبارنا
…
ولم ندر ماذا منهما كان أطولا
وهاج لنا شجوا تذكّر مجلس
…
له كان يهدي الحيّ والملأ الألى
به كانت الدنيا تؤخّر مدبرا
…
من الناس حتما أو تقدّم مقبلا
لتبك عيون الباكيات على فتى
…
كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا
على خادم الآثار تتلى صحائحا
…
على حامل القرآن يتلى مفصّلا
على عضد الملك الذي قد تضوّعت
…
مكارمه في الأرض مسكا ومندلا