الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجسمي أجلّ الجسوم التهابا
…
وقلبي أشدّ القلوب انكسارا
إلى أن تجرّعت كأس النّوى
…
وقلت زماني على الشّمل جارا
وصبّرت نفسي لفقدانها
…
هنالك بالرّغم ليس اختيارا
وقال من قصيدة «1» : [الطويل]
حننت «2» لبرق لاح من سرحتي نجد
…
حنين تهاميّ «3» يحنّ «4» إلى نجد
وقلت لعلّ القلب تبرا كلومه
…
ومن ذا يصدّ النار عن شيمة الوقد؟
لكن «5» شاركتني في المحبّة فرقة
…
فها أنا في وجدي وفي كلفي وحدي «6»
وهو إلى هذا العهد بالحال الموصوفة.
محمد بن إبراهيم بن عيسى بن داود الحميري
«7»
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عيسى.
حاله: كان أديبا، حسن الخطّ، جيّد النظم، متظرّفا، لوذعيّا، مطبوعا، منحطّا في هواه، جامحا في ميدان بطالته، معاقرا للنّبيذ، على حفظ للرسم، واضطلاع بالخدمة، وإيثار للمروءة، ومعرفة بمقادير الأمور، وتشبّث بأذيال الحظوة. كتب للرئاسة السّعيدية بمالقة، ونظر على ألقاب جبايتها، وانتفع الناس بجاهه وماله، ووقع الثناء على حسن وساطته. ثم سافر عنها، وقد سمت مجادة السلطان في غرض انتقالها إلى العدوة، معوّضة بمدينة سلا من مالقة. وكان ما كان من معاجلة الأمر، والقبض على الريّس، وقيام ولده بالأمر، فانبتّ المذكور بالعدوة، وكانت بها وفاته.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه «8» : علم من أعلام هذا الفن،
ومشعشعي «1» راح هذا الدّن، بمجموع «2» أدوات، وفارس يراعة ودواة «3» ، ظريف المنزع، أنيق المرأى والمسمع، اختصّ بالرئاسة وأدار «4» فلك إمارتها، واتّسم باسم كتابتها ووزارتها، ناهضا بالأعباء، راقيا «5» في درج «6» التقريب والاجتباء، مصانعا دهره في راح وراحة، آويا إلى فضل وسماحة، وخصب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن ربّ نعمته، عقد شربا، وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حربا، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده. فلما تقلّبت «7» بالرئاسة الحال، وقوّضت منها الرحال، استقرّ بالمغرب غريبا، يقلّب طرفا مستريبا، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريبا «8» ، وإن كان لم يعدم من أمرائها «9» حظوة وتقريبا، وما برح يبوح بشجنه، ويرتاح إلى عهود وطنه.
شعره وكتابته: ممّا كتبه، وبيّن فيه أدبه قوله «10» :[الكامل]
يا نازحين ولم أفارق منهم
…
شوقا تأجّج في الضّلوع «11» ضرامه
غيّبتم عن ناظري وشخصكم
…
حيث استقرّ من الضلوع مقامه
رمت النّوى شملي فشتّت نظمه
…
والبين رام لا تطيش سهامه
وقد اعتدى فينا وجدّ مبالغا
…
وجرت بمحكم جوره أحكامه
أترى الزمان مؤخّرا في مدّتي
…
حتى أراه قد انقضت أيّامه
تحملها «12» يا نسيم نجديّة النّفحات، وجديّة اللّفحات، يؤدي «13» عني نغمها إلى الأحبّة سلاما، ويورد «14» عليهم لفحها بردا وسلاما، ولا تقل كيف تحمّلني نارا، وترسل على الأحبّة مني إعصارا، كلّا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وآنسوا من جانب هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزّوا في كفّ مسرى جنوبك،
وتعللّوا بها تعليلا، وأوسعوا آثار مهبّك تقبيلا، أرسلها عليهم بليلا، وخاطبهم بلطافة تلطفّك تعليلا. ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلا «1» :[الوافر]
كذاك «2» تركته ملقى بأرض
…
له فيها التعلّل بالرّياح
إذا هبّت إليه صبا إليها
…
وإن جاءته من كلّ النواحي
تساعده الحمائم حين يبكي
…
فما ينفكّ موصول النّياح «3»
يخاطبهنّ مهما طرن شوقا
…
أما فيكنّ واهبة «4» الجناح؟
ولولا «5» تعلّله بالأماني، وتحدّث نفسه بزمان التّداني، لكان قد قضى نحبه، ولم أبلّغكم إلّا نعيه أو ندبه، لكنه يتعلّل من الآمال بالوعد الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدّث نفسه وقد قنعت من بروق الآمال بالخلّب «6» ، ووثقت بمواعيد الدهر القلّب «7» ، فيناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره: كيف أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلّص من ربقة الاغتراب؟ أبائنة الحضور أم بادية الاضطراب؟ كأنّي بك وقد استفزّك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاقتك غشاوة الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيّا ذلك النهار «8» :[البسيط]
يوم يداوي زماناتي من ازماني
…
أزال «9» تنغيص أحياني فأحياني
جعلت لله نذرا صومه أبدا
…
أفي به وأوفّي شرط إيماني
إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت
…
أشطان دهر قد التفّت بأشطاني «10»
أعدّه «11» خير أعياد الزمان إذا
…
أوطاني السّعد فيه ترب أوطاني
أرأيت «12» كيف ارتياحي إلى التّذكار، وانقيادي إلى معلّلات توهّمات الأفكار؟
كأنّ البعد باستغراقها قد طويت شقّته، وذهبت عني مشقّته، وكأنّي بالتّخيّل بين تلك
الخمائل أتنسّم صباها، وأتسنّم رباها «1» ، وأجتني أزهارها، وأجتلي أنوارها، وأجول في خمائلها، وأتنعّم ببكرها وأصائلها، وأطوف بمعالمها، وأتنشّق أزهار كمائمها، وأصيخ بأذن الشّوق «2» إلى سجع حمائمها، وقد داخلتني الأفراح، ونالت منّي نشوة الارتياح، ودنا السّرور لتوسّم «3» ذهاب الأتراح. فلمّا أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجدت «4» مرارة ما شابه لبّي «5» في استغراق دهري، وكأنّي من حينئذ عالجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة الأشواق، وكأنما أغمضتني «6» للنّوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم «7» :[الكامل]
ذكر الدّيار فهاجه تذكاره
…
وسرت به من حينه أفكاره
فاحتلّ منها حيث كان حلوله
…
بالوهم فيها واستقرّ قراره
ما أقرب الآمال من غفواته
…
لو أنها قضيت بها أوطاره «8»
فإذا جئتها أيها القادم، والأصيل قد خلع عليها بردا مورّسا، والربيع قد مدّ على القيعان منها سندسا، اتّخذها «9» فديتك معرّسا «10» ، واجرر ذيولك فيها متبخترا «11» ، وبثّ فيها من طيب نفحاتك عنبرا، وافتق عليها من نوافج «12» أنفاسك مسكا أذفرا، واعطف معاطف «13» بانها، وأرقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح «14» نفحات زهرها. هذه كلّها أمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صبابات، تتعلّل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك، وتبدو لك في صفة الفاني المتهالك، لاطفها بلطافة
اعتلالك، وترفّق بها ترفّق أمثالك، فإذا مالت «1» بهم إلى هواك الأشواق، ولووا إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلّبي بين الإشآم والإعراق، فقل لهم: عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سرّ «2» السّرار، وطاق «3» المحاق، وقد تركته وهو يسامر الفرقدين، ويساير النّيّرين، وينشد إذا راعه البين «4» :[البسيط]
وقد نكون وما يخشى تفرّقنا
…
واليوم «5» نحن وما يرجى تلاقينا
لم يفارق وعثاء «6» الأسفار، ولا ألقى من يده عصا التّسيار، يتهاداه الغور «7» والنّجد، ويتداوله الإرقال «8» والوخد، وقد لفحته الرّمضاء، وسئمه «9» الإنضاء.
فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، تحمل «10» همومه الرّواسم، وتحفى «11» به النّواسم:
[البسيط]
لا يستقرّ بأرض حين يبلغها
…
ولا له غير حدو العيس إيناس
ثم إذا استوفوا سؤالك عن حالي، وتقلّبي بين «12» حلّي وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلّت ذيولك بمائها، لا بل تضرّجت بدمائها، فحيّهم عنّي تحيّة منفصل، وودّعهم «13» وداع مرتحل. ثم اعطف عليهم ركابك، ومهّد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والرّبوع بعد ظعن أظعانها، بماذا أجيبه، وبماذا يسكن وجيبه «14» . فسيقولون لك هي البلاقع «15» المقفرات، والمعارف «16» التي أصبحت نكرات:[السريع]
صمّ صداها وعفا «17» رسمها
…
واستعجمت عن منطق السائل
قل لهم: كيف الرّوض وآسه؟ وعمّاذا «1» تتأرّج أنفاسه؟ عهدي به والحمام يردّد أسجاعه، والذّباب يغني به هزجا فيحكّ بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تتنسّم وآصاله تغتبق «2» ، كما كانت بقية نضرته، وكما عهدتها أنيقة خضرته، وكيف التفاته «3» عن أزرق نهره، وتأنّقه في تكليل إكليله بيانع زهره. وهل رقّ نسيم أصائله «4» ، وصفت موارد جداوله؟ وكيف انفساح ساحاته، والتفاف دوحاته؟ وهل تمتدّ كما كانت مع العشيّ فينانة سرحاته؟
عهدي بها، المديدة الظّلال، المزعفرة السّربال، لم تحدّق الآن به عيون نرجسه، ولا صدّ «5» بساط سندسه. وأين منه مجالس لذّاتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي؟ إذ أباري في المجون لمن أباري، وأسابق إلى اللّذات كلّ من يجاري «6» . فسيقولون لك: ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدّرت غدرانه، وتغيّر ريحه «7» وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمائمه، واستحالت به «8» حلل خمائله، وتغيّرت وجوه بكره وأصائله، فإن صلصل حنين رعد فعن قلبي لفراقه خفق، وإن تلألأ برق فعن حرّ حشاي ائتلق، وإن سحّت السّحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فعنّي، حيّاها الله تعالى «9» منازل، لم تزل بمنظوم الشّمل أواهل. وحين انتثرت «10» نثرت أزهارها أسفا، ولم تثن الريح من أغصانها معطفا، أعاد الله تعالى «11» الشّمل فيها إلى محكم نظامه، وجعل الدهر الذي فرّقه يتأنّق في أحكامه. وهو سبحانه يجبر الصّدع، ويعجّل الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. إيه بنيّ، كيف حال من استودعتهم أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهّدت لهم حسبك؟ الله في حفظهم فهو اللّائق بفعالك، والمناسب لشرف خلالك، ارع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك، فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهو سبحانه يحفظك بحفظهم، ويوالي بلحظك أسباب لحظهم، وإن ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله ممتدّة الظّلال، وخيراته ضافية «12» السّربال؛ لولا الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم.
ووقفت من شعره على قصيدة من جملة رسالة، أثبتها وهي «1» :[الطويل]
أللبرق يبدو تستطير «2» الجوانح
…
وللورق تشدو تستهلّ «3» السّوافح «4»
وقلبي «5» للبرق الخفوق مساعد
…
ووجدي «6» للورق الثكالى مطارح
إذا البرق أورى في الظلام زنادي «7»
…
فللوجد في زند الصّبابة قادح
وكم وقفة لي حيث مال بي الهوى
…
أغادي «8» بها شكوى الجوى وأراوح
تنازعني منها الشّجون «9» فأشتكي
…
ويكثر بثّي عندها فأسامح
أبثّ شجوني والحمام يصيخ لي
…
ويسعدني فيما تبيح «10» التّبارح
وتطرب أغصان الأراك فتنثني
…
إلى صفحة النهر الصّقيل «11» تصافح
فتبتسم الأزهار منها تعجّبا
…
فتهدي إليها عرفها وتنافح
كذلك حتى ماد عطف مثقّفي «12»
…
وطرفي أبدى هزّة وهو مارح
فلمّا التظى وجدي ترنّم صاهلا
…
فقلت: أمثلي يشتكي الوجد نابح «13» ؟
صرفت عدوّ البيد أرخو عنانه «14»
…
وقلت له: شمّر فإنّي «15» سابح «16»
تهيّأ لقطع البيد واعتسف السّرى
…
سيلقاك غيظان بها وممايح «17»
فحمحم لو يسطيع «18» نطقا لقال له «19»
…
بمثلي تلقى هذه وتكافح
وحمّلته عزما تعوّد مثله
…
فقام به مستقبلا من يناطح
ويمّمت بيدا لم أصاحب لجوّها «1»
…
سوى جلد لا يتّقى منه فاضح «2»
وماضي الغرارين «3» استجدت مضاءه «4»
…
إذا جرّدت يوم الجلاد الصّفائح
ومندمج صدق الأنابيب نافذ به
…
عند كرّي في الحروب أفاتح
وسرت فلا ألقى سوى الوحش نافرا
…
وقد شردت عنّي الظّباء «5» السوانح
تحدّق نحوي «6» أعينا لم يلح لها
…
هنالك إنسيّ «7» ولا هو لائح
وقد زأرت أسد تقحّمت غيلها
…
فقلت: تعاوت إنها لنوابح
وكم طاف بي للخبر «8» من طائف بها «9»
…
فلم أصغ سمعا نحوها وهو صائح
ويعرض لي وجها دميما ومنظرا
…
شنيعا له تبدو عليه القبائح
فما راعني منه تلوّن حاله
…
بل ايقظ عزمي فانثنى وهو كالح
فلمّا اكتست شمس العشيّ شحوبها
…
ومالت إلى أفق الغروب تنازح «10»
تسربلت للإدلاج جنح دجنّة
…
فها «11» أنذا غرسي إلى القصد جانح
فخضت «12» ظلام الليل والنّجم شاخص
…
إليّ بلحظ «13» طرفه لي لامح
يردّده «14» شزرا إليّ كأنما
…
عليّ له حقد به لا يسامح
وراقب من شكل «15» السّماك نظيره
…
خلا أنّ شكلي «16» أعزل وهو رامح
يخطّ وميض البرق لي منه أسطرا
…
على صفحة الظّلماء فهي لوائح
إذا خطّها ما بين عينيّ لم أزل «17»
…
أكلّف دمعي نحوها فهو طامح
وما زلت سرّا في حشا النبل «18» كامنا
…
إلى أن بدا من ناسم الصّبح فاتح «19»
وهبّ نسيم الصبح فانعطفت «1» له
…
قدود غصون قد رقتها صوادح «2»
تجاذبن «3» من ذكري أحاديث لم تزل
…
يردّدها منها «4» مجدّ ومازح
وملت إلى التّعريس لما انقضى السّرى
…
أروض له نفسي وعزمي جامح
ومال الكرى بي ميلة سكنت لها
…
على نصب الوعثاء منّي الجوارح «5»
كم «6» أخذت منه الشّمول بثارها
…
فبات يسقّى «7» وهو ريّان طافح
وقرّبت الأحلام لي كلّ مأمل «8»
…
فأدنته منيّ وهو في الحقّ نازح
أرتني وجوها لو بذلت لقربها
…
حياتي لمن بالقرب منه يسامح
لقلّ لها عمري وما ملكت يدي
…
وحدّثت «9» نفسي أنّ تجري «10» رابح
وما زلت أشكو بيننا غصص «11» النّوى
…
وما طوّحت بي في الزمان الطوائح
فمنها ثغور للسّرور بواسم
…
لقربه «12» ومنها للفراق نوائح
تقرّبها الأحلام منّي ودونها
…
مهامه فيها للهجير لوافح
وبحر طمت أمواجه وشآبيب «13»
…
وقفر به للسّالكين جوامح «14»
قضيت حقوق الشوق في زورة الكرى «15»
…
فإنّ زيارات الكرى لموانح
يقرّبن «16» آمالا تباعد بينها
…
وتعبث فيها بالنفوس الطّوامح «17»
فلمّا تولّى عنّي النوم أعقبت «18»
…
هموم أثارتها الشّجون فوادح
وعدت إلى شكوى البلاء «19» ولم أزل
…
أردّدها والعذر منّي واضح
وما بلّغت عني مشافهة الكرى
…
تبلّغها عنّي الرياح اللّواقح «20»
وحسبك قلب في إسار اشتياقه
…
وقد أسلمته في يديه الجوانح