الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن يوسف بن خلصون
يكنى أبا القاسم، روطيّ «1» الأصل، لوشيّه «2» ، سكن لوشة وغرناطة ومالقة.
حاله: كان من جلّة المشيخة وأعلام الحكمة، فاضلا، منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية، متبحرا في الإلهيات، إماما في طريقة الصّوفية، من أهل المقامات والأحوال، كاتبا بليغا، شاعرا مجيدا، كثير الحلاوة والطّلاوة، قائما على القرآن، فقيها أصوليا، عظيم التخلّق، جميل العشرة. انتقل من حصن روطة إلى الخطابة والإمامة بلوشة، كثير الدؤوب على النّظر والخلوة، مقصودا من منتحلي ما لديه ضرورة. لم يتزوج، وتمالأت عليه طائفة ممن شانها الغضّ من مثله، فانزعج من لوشة إلى مالقة، فتحرّف بها بصناعة الطّب، إلى حين وفاته.
حدّثني والدي، وكان خبيرا بأحواله، وهو من أصحاب أبيه، قال: أصابت الناس شدّة قحط، وكانت طائفة من أضداده تقول كلاما مسجّعا، معناه: إنكم إن أخرجتم ابن خلصون من بينكم، مطرتم. قال: فانزعج عنها، ولما كان على أميال نزل الغيث الرغد، قال: فسجد بموضعه ذلك، وهو معروف، وقال: سيدي، وأساوي عندك هذا المقدار، وأوجب شكرانا. وقدم غرناطة، وبها الأستاذ أبو عبد الله الرّقوطي، وله استيلاء على الحظوة السلطانية، وشأنه اختبار من يرد على الحضرة ممن يحمل فنّا، وللسلطان على ابن خلصون موجدة، لمدحه في حداثته أحد الثوار عليه بقمارش «3» ، بقصيدة شهيرة. فلمّا حضر، سأله الأستاذ: ما صناعتك، فقال:
التصوّف، فالتفت إلى السلطان وقال: هذا رجل ضعيف لا شيء لديه، بحيث لا يفرّق بين الصّناعة وغيرها، فصرفه رحمه الله.
تواليفه: وتواليفه كثيرة، تدل على جلالته وأصالة معرفته، تنطق علما وحكمة، وتروق أدبا وظرفا. فمن ذلك كتابه في «المحبة» ، وقفت عليه بخط جدّي الأقرب سعيد، وهو نهاية. وكتاب «وصف السلوك، إلى ملك الملوك» ، عارض به معراج
الحاتمي، فبان له الفضل، ووجبت المزيّة، ورسالة «الفتق والرّتق، في أسرار حكمة الشرق» .
شعره: من ذلك قوله: [الكامل]
هل تعلمون مصارع العشّاق
…
عند الوداع بلوعة الأشواق؟
والبين يكتب من نجيع دمائهم
…
إن الشّهيد لمن يمت بفراق
لو كنت شاهد حالهم يوم النّوى
…
لرأيت ما يلقون غير مطاق
منهم كئيب لا يملّ بكاؤه
…
قد أغرقته مدامع الآماق
ومحرّق الأحشاء أشعل ناره
…
طول الوجيب بقلبه الخفّاق
ومولّة لا يستطيع كلامه
…
مما يقاسي في الهوى ويلاقي «1»
خرس اللسان فما يطيق عبارة
…
ألم المرور وما له من راق؟
ما للمحبّ من المنون وقاية
…
إن لم يغثه حبيبه بتلاق
مولاي، عبدك ذاهب بغرامه
…
فادرك «2» بوصلك من دماه الباقي «3»
إني إليك بذلّتي متوسّل
…
فاعطف بلطف منك أو إشفاق
ومن شعره أيضا: [الكامل]
أعد الحديث إذا وصفت جماله
…
فبه تهيّج للمحبّ خياله
يا واصف المحبوب كرّر ذكره
…
وأدر على عشّاقه جرياله
فبذكر من أهوى وشرح صفاته
…
لذّ الحديث لمسمعي وخلاله
طاب السّماع بوصفه لمسامعي
…
وقررت عينا مذ لمحت هلاله
قلبي يلذّ ملامة في حبّه
…
ويرى رشادا في هواه ضلاله
يا عاذلي أو ما ترقّ لسامر
…
سمع الظّلام أنينه فرثا له؟
ومن شعره أيضا: [الكامل]
إن كنت تزعم حبّنا وهوانا
…
فلتحملنّ مذلّة وهوانا
فاسجر لنفسك إن أردت وصالنا
…
واغضب عليها إن طلبت رضانا
واخلع فؤادك في طلاب ودادنا
…
واسمح بموتك إن هويت لقانا
فإذا فنيت عن الوجود حقيقة
…
وعن الفناء فعند ذاك ترانا
أو ما علمت الحبّ فيه عبرة
…
فاخلص لنا عن غيرنا وسوانا
وابذل لبابك إن وقفت ببابنا
…
واترك حماك إذا فقدت حمانا
ما لعلع ما حاجر ما رامة
…
ما ريم أنس يسحر الأذهانا
إنّ الجمال مخيّم بقبابنا
…
وظباؤه محجوبة بظبانا
نحن الأحبّة من يلذ بفنائنا
…
نجمع له مع حسننا إحسانا
نحن الموالي فاخضعنّ لعزّنا «1»
…
إنّا لندفع في الهوى من هانا
إنّ التّذلّل للتّدلّل سحر
…
فاخلد إلينا عاشقا ومهانا
واصبر على ذلّ المحبّة والهوى
…
واسمع مقالة هائم قد لانا
نون الهوان من الهوى مسروقة
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ومن لطيف كلامه ورقيق شعره: [الرمل]
لو خيال من حبيبي طرقا
…
لم يدع دمعي بخدّي طرفا
ونسيم الريح منه لو سرى
…
بشذاه لأزال الحرقا
ومتى هبّت عليلات الصّبا
…
صحّ جسمي فهي «2» لي نفث رقا
عجبا يشكو فؤادي في الهوى
…
لهب النار وجفني الفرقا
يا أهيل «3» الحيّ، لي فيكم رشا
…
لم يدع لي رمقا مذ رمقا
بدر تمّ طالع أثمره
…
غصن بان تحته دعص نقا
راق حسنا وجمالا مثلما
…
رقّ قلبي في هواه ورقا
أنّس «4» الشمس ضياه ذهبا
…
وكسا البدر سناه ورقا
حلل الحسن عليه خلعت
…
فارتداها ولها قد خلقا
ومن شعره: [البسيط]
دعوت من شفتي رفقا على كبدي
…
فقال لي: خلق الإنسان في كبد
قلت الخيال ولو في النّوم يقنعني
…
فقال: قد كحلت عيناك بالسّهد
فقلت: حسبي بقلبي في تذكّره
…
فقال: لي القلب والأفكار ملك يدي
قلت الوصال حياتي منك يا أملي
…
قال الوصال فراق الروح للجسد
فقلت: أهلا بما يرضى الحبيب به
…
فإنّ قلبي لا يلوى على أحد
ومن أقواله الصّوفية، وكلها تشير إلى ذلك المعنى:[الطويل]
ركبنا مطايا شوقنا نبتغي السّرى
…
وللنّجم قنديل يضيء لمن سرى
وعين الدّجى قد نام لم يدر ما بنا
…
وأجفاننا بالسّهد لم تطعم الكرى
إلى أن رأينا اللّيل شاب قذاله
…
ولاح عمود الفجر غصنا منوّرا
لمحنا برأس البعد نارا منيرة
…
فسرنا لها نبغي الكرامة والقرا
وأفضى بنا السير الحثيث بسحرة
…
لحانة دير بالنواقس دورا
فلمّا حللنا حبوة السير عنده
…
وأبصرنا القسّيس قام مكبّرا
وحرّك ناقوسا له أعجم الصّدا
…
فأفصح بالسّر الذي شاء مخبرا
وقال لنا: حطّوا حمدتم مسيركم
…
وعند الصّباح يحمد القوم السرى «1»
نعمتم صباحا ما الذي قد أتى بكم
…
فقلنا له: إنا أتيناك زوّرا
وراحتنا في الرّاح إن كنت بائعا
…
فإنّ لدينا فيه أربح مشترى
فقال لكم: عندي مدام عتيقة
…
مخلّدة من قبل آدم أعصرا
مشعشعة كالشمس لكن تروحنت
…
وجلّت عن التجسيم قدما فلا ترى
وحلّ لنا في الحين ختم فدامها
…
فأسدى لنا مسكا فتيقا وعنبرا
وقلنا: من السّاقي فلاح بوجهه
…
فأدهش ألباب الأنام وحيّرا
وأشغلنا عن خمره بجماله
…
وغيّبنا سكرا فلم ندر ما جرى
ومن شعره في المعنى: [البسيط]
يا نائما يطلب الأسرار إسرارا
…
فيك العيان ونبغي بعد آثارا
أرجع إليك ففيك الملك مجتمع
…
والفلك والفلك العلوي قد دارا
أنت المثال وكرسي الصّفات فته
…
على العوالم إعلانا وإسرارا
والطّور والدّرّ منثورا وقد كتبت
…
أقلام قدرته في اللّوح آثارا
والبيت يعمره سرّ الملائك في
…
مشكاة قلبك قد أسرجن أنوارا
ورفع الله سقفا أنت تسكنه
…
سماؤه أطلعت شهبا وأقمارا
وبحر فكرك مسجور بجوهره
…
فغص به مخرجا للدّرّ أسرارا
فإن رأيت بوادي القدس نار هدى
…
فاثبت فنورك فيها مازج النّارا
واخلع لسمع النّدا نعليك مفتقرا
…
إلى المنادي تنل عزّا وإكبارا
وغب عن الكون بالأسماء متّصفا
…
واطلب من الكلّ ربّ الدار لا الدّارا
ومن ذلك في هذا المعنى: [الطويل]
أطالب ما في الرّوح من غامض السّرّ
…
وقارع باب العلم من عالم الأمر
عرضت لعلم أبهم الشّرع بابه
…
لكلّ جهول للحقائق لا يدري
ولكنّ خبيرا قد سألت محقّقا
…
فدونك فانظم ما نثرت من الدّرّ
وبين يدي نجواك قدّم وسيلة
…
تقى الله واكتم ما فهمت من السّرّ
ولا تلتفت جسما ولا ما يخصّه
…
من الحسّ والتخييل والوهم والفكر
وخذ صورة كلّية جوهريّة
…
تجلّ عن التمييز بالعكس والسّبر
ولكن بمرآة اليقين تولّدت
…
وليست بذاتي إن سألت ولا غير
كذلك لم تحدث وليست قديمة
…
وما وصفت يوما بشفع ولا وتر
ولكن بذات الذّات كان ظهورها
…
إذا ما تبدّت في الدّجى غرّة الفجر
ومن هذا الغرض قوله: [الطويل]
مشاهدتي مغناك، يا غايتي، وقت
…
فما أشتكي بعدا وحبّك لي نعت
مقامي بقائي عاكفا بجمالكم
…
فكلّ مقام في الحقيقة لي تحت
لئن حالت الأحوال دون لقائكم
…
فإنّي على حكم المحبّة ما حلت
وإن كان غيري في الهوى خان عهده
…
فإني وأيم الله عهدي ما خنت
وما لي رجاء غير نيل وصالكم
…
ولا خوف إلّا أن يكون له فوت
نعم إن بدا من جانب الأنس بارق
…
يحرّكني بسط به نحوكم طرت
ومهما تذكّرت العتاب يهزّني
…
لهيبتكم قبض يغيب به النّعت
تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا
…
ولاح وجود للحقيقة إذ غبت
فها أنا بين الصّحو والمحو دائر
…
أقول: فلا حرف هناك ولا صوت
قصودي إليكم والورود عليكم
…
ومنكم سهودي والوجود إذا عدت «1»
وفي غيبتي عنّي حضوري لديكم
…
وعند امتحان الرّسم والمحو أثبتّ
وفي فرقتي الباني بحقّ جمعتني
…
وفي جمع جمعي في الحقيقة فرّقت
تجلّيت «2» لي حتى دهشت مهابة
…
ولما رددت اللّحظ بالسّرّ لي عشت
موارد حقّ بل مواهب غاية
…
إذا ما بدت تلك البداءة لي تهت
لوائح أنوار تلوح وتختفي
…
ولكن وميض البرق ليس له ثبت
ومهما بدت تلك الطّوالع أدهشت
…
وإن غيّبت تلك اللّوامع أظلمت
وهيهات هيبات الجلال تردّني
…
وعند التجلّي لا محالة دكدكت
نسفن جبالي فهي قاع وصفصف «3»
…
وليس يرى فيهنّ زيغ ولا أمت
ولي أدمع أجّجن نار جوانحي
…
ولي نفس لولاه من حبّكم ذبت
ألا فانظروا قلب العيان حقيقة
…
فنائي وجودي «4» والحياة إذا متّ
مراتب في التّلوين نلت جميعها
…
وفي عالم التّمكين عن كلّها بنت
وعند قيامي عن فنائي وجدتكم
…
فلا رتبة علويّة فوق ما نلت
ورود وشرب ثم لا ريّ بعده
…
لئن كنت أروى من شرابك لا كنت
شربت كئاس «5» الوجود مدامة
…
فلست أجلّي عن ورود متى شئت
وكيف وأقداح العوالم كلّها
…
ولكنني «6» من صاحب الدّير أسكرت
تعلّق قوم بالأواني وإنّني
…
جمال المعاني لا المغاني علّمت
وأرضعت كأسا لم تدنّس بمزجها
…
وقد نلتها صرفا لعمري «7» ما ضعت
شراب بها الأبرار طاب مزاجهم
…
وأرضعتها صرفا لأنّي قرّبت
بها آدم نال الخلافة عندما
…
تبدّت له شمسا لها نحوه سمت
ونجت لنوح حين فرّ لفلكه
…
ومن بان عن أسرارها لي «8» عمد الموت
وقد أخمدت نار الخليل بنورها
…
وكان لموسى عن أشعّتها بهت
وهبّت لروح الله روح نسيمها
…
فأبصره الأعمى وكلّمه الميت
وسار بها المختار سيري لربّه
…
إلى حيث لا فوق هناك ولا تحت
هنيئا لمن قد أسكرته بعرفها
…
لقد نال ما يبغي وساعده البخت
ومن نثر الأستاذ الجليل أبي القاسم بن خلصون المترجم به، قوله من رسالة:
وصلني أيها الابن النّجيب، المخلص الحبيب، كتابك الناطق بخلوص ودّك، ورسوخ عهدك، وتلك سجيّة لائقة بمجدك، وشنشنة تعرف من والدك وجدّك، وصل الله أسباب سعدك، وأنهض عزم جدّك، بتوفيق جدّك، وبلّغك من مأمولك أقصى قصدك. فلتعلم أيها الحبيب أن جناني، ينطوي لكم أكثر مما ينشره لساني، فإني مغرى بشكركم وإن أعجمت، ومفصح بجميل ذكركم وإن جمجمت، لا جرم أنّ الوقت حكم بما حكم، واستولى الهرج فاستحكم، حتى انقطعت المسالك، وعدم الوارد والسّالك، وذلك تمحيص من الله جار على قضيّة قسطه، وتقليب لقلوب عباده بين إصبعي قبضه وبسطه، حين مدّ على الخليقة ظلّ التّلوين، ولو شاء لجعله ساكنا، ثم جعل شمس المعرفة لأهل التّمكين، عليه دليلا باطنا، ثم قبض كل الفرق عن خاصيته قبضا يسيرا، حتى أطلع عليهم من الأنس بدرا منيرا. وإلى ذلك يا بنيّ، فإني أحمد الله تعالى إليك على تشويقه إيّاك إلى مطالعة كتب المعارف، وتعطّشك للورود على بحر اللّطائف. وإنّ الإمام أبا حامد «1» ، رحمه الله، لممن أحرز خصلها، وأحكم فرعها وأصلها، لا ينكر ذلك إلّا حاسد، ولا يأباه إلّا متعسّف جاحد. هذا وصفه، رحمه الله، فيما يخصّه في ذاته. وأما تعليمه في تواليفه، وطريقه التي سلكها في كافّة تصانيفه؛ فمن علمائنا، رضي الله عنهم، من قال: إنه خلط النّهاية بالبداية، فصارت كتبه أقرب إلى التّضليل منها إلى الهداية، وإن كان لم يقصد فيها إلّا النّفع فيما أمّه من الغرض، فوجد في كتبه الضّرر بالعرض، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطّفيل «2» ، قال: وأما أبو حامد، فإنه مضطرب التأليف، يربط في موضع، ويحلّ في آخر، ويتمذهب بأشياء، ويكفر بها، مثل أنه كفّر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد
روحاني، وإنكار هم حشر الأجساد. وقد لوّح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب «الجواهر والأربعين» ، وخرّج بأنه معتقد كبار الصّوفية، في كتاب آخر، وقال: إن معتقده كمعتقدهم، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد. قال: وإنما كلامه في كتبه على نحو تعليم الجمهور. وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب «ميزان العمل» ، على أغلب ظنّي، فإن لي من مطالعة الكتب مدّة. قال: ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلّا ما يشكّك في اعتقادك الموروث، يعني التّقليد، فإنه من لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثّل بقول الشاعر:[البسيط]
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
…
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وذلك أنه قسّم آراءه إلى ثلاثة: رأي يجاب به كلّ مسترشد سائل بحسب سؤاله وعلى مقدار فهمه. ورأي يجاب به الخاصّة ولا يصرّح به للعامّة. ورأي بين الإنسان وبين نفسه، لا يطّلع عليه إلّا من شريكه في اعتقاده. وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد، رحمه الله، فإنّه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلّة المتكلّمين، فإنه لما تكلّم على طرق الأشعريّة والمعتزلة والفلاسفة والصّوفية والحشويّة وما أحدثه المتكلّمون من الضّرر في الشّريعة بتواليفهم، انعطف فقال: وأما أبو حامد، فإنه طمّ الوادي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعريّا، ومع المعتزلة معتزليّا، ومع الفلاسفة فيلسوفا، ومع الصّوفية صوفيّا، حتى كأني به:[البسيط]
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن
…
وإن لقيت معدّيا فعدنان
ثم قال: والذي يجب على أهل العلم، أن ينهوا الجمهور عن كتبه، فإن الضّرر فيها بالذات، والمنفعة بالعرض. قال: وإنما ذلك لأنه صرّح في كتبه بنتائج الحكمة دون مقدّماتها، وأفصح بالتّأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء الرّاسخون في العلم، وهي التي لا يجوز أن تؤوّل للجمهور، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان. وأنا أقول: إن كتبه في الأصلين، أعني أصول الدين وأصول الفقه، في غاية النّبل والنّباهة، وبسط اللفظ، وحسن التّرتيب والتّقسيم، وقرب المسائل.
وكذلك كتبه الفقهية والخلافية والمذهبيّة، التي ألّفها على مذهب الشّافعي، فإنه كان شافعيّ المذهب في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوّف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضّرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدّى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوّفة. وقد نبّه على