الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن يوسف بن رضوان بن يوسف ابن رضوان النّجاري
«1»
يكنى أبا القاسم، ويعرف باسم جدّه، من أهل مالقة، وصاحب القلم الأعلى لهذا العهد بالمغرب.
حاله: هذا الفاضل نسيج وحده، فهما وانطباعا، ولوذعيّة، مع الدّين والصّون، معمّ، مخول في الخير، مستول على خصال حميدة، من خطّ وأدب وحفظ، مشارك في معارف جملة. كتب ببلده عدلا رضى، وأنشد السلطان عند حلوله ببلده. ورحل عن بلده إلى المغرب، فارتسم في كتابة الإنشاء بالباب السلطاني، ثم بان فضله، ونبه قدره، ولطف محلّه، وعاد إلى الأندلس، لما جرت على سلطانه الهزيمة بالقيروان، ولم ينتشله الدهر بعدها مع جملة من خواصّه. فلمّا استأثر الله بالسلطان المذكور، موسوم التّمحيص، وصيّر أمره إلى ولده بعده، جنح إليه، ولحق ببابه، مقترن الوفادة، بيمن الطّائر، وسعادة النّصبة، مظنّة الاصطناع، فحصل على الحظوة، وأصبح في الأمد القريب، محلا للبثّ وجليسا في الخلوة، ومؤتمنا على خطّة العلامة «2» ، من رجل ناهض بالكلّ، جلد على العمل، حذر من الذّكر، متقلّص ذيل الجاه، متهيّب، غزير المشاركة، مطفّف في حقوق الدّول عند انخفاض الأسعار، جالب لسوق الملك ما ينفق فيها، حارّ النّادرة، مليح التّندير، حلو الفكاهة، غزل مع العفة، حافظ للعيون، مقدّم في باب التّحسين والتنقيح، لم ينشب الملك أن أنس منه بهذه الحال، فشدّ عليه يد الغبطة، وأنشب فيه براثن الأثرة، ورمى إليه بمقاليد الخدمة، فسما مكانه، وعلا كعبه، ونما عشّه. وهو الآن بحاله الموصوفة، من مفاخر قطره، ومناقب وطنه، كثّر الله مثله.
مشيخته: قرأ ببلده على المقرئ أبي محمد بن أيوب، والمقرئ الصالح أبي عبد الله المهندس، والأستاذ أبي عبد الله بن أبي الجيش، والقاضي أبي جعفر بن عبد الحق. وروى عن الخطيب المحدّث أبي جعفر الطّنجالي، والقاضي أبي
بكر بن منظور. وبغرناطة عن جلّة؛ منهم شيخنا رئيس الكتاب أبو الحسن ابن الجيّاب، وقاضي الجماعة أبو القاسم بن أحمد الحسني، ولازم بالمغرب الرئيس أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والقاضي أبا إسحاق إبراهيم بن أبي يحيى، وأبا العباس بن يربوع السّبتي. وبتلمسان عن أبي عبد الله الآبلي، وأبي عبد الله بن النّجار، وغيرهما. وبتونس عن قاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد السلام، وعن جماعة غيرهم.
شعره: ونظمه ونثره متجاريان لهذا العهد في ميدان الإجادة. أما شعره، فمتناسب الوضع، سهل المأخذ، ظاهر الرّواء، محكم الإمرة للتّنقيح. وأما نثره، فطريف السّجع، كثير الدّالة، مطيع لدعوة البديهة، وربما استعمل الكلام المرسل، فجرى يراعه في ميدانه ملء عنانه.
وجرى ذكره في «التاج» أيام لم يفهق «1» حوضه، ولا أزهر روضه، ولا تباينت سماؤه ولا أرضه، بما نصه «2» : أديب أحسن ما شاء، وفتح قليبه «3» فملأ الدّلو وبلّ الرّشاء «4» ، وعانى على حداثته الشعر والإنشاء، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة. ونشأ هذا الفاضل على أتمّ العفاف والصّون، فما مال إلى فساد بعد الكون. وله خطّ بارع، وفهم إلى الغوامض مسارع. وقد أثبتّ من كلامه، ونفثات أقلامه، كلّ محكم العقود، زاريا «5» بنت العنقود. فمن ذلك قصيدة «6» أنشدها للسلطان أمير المسلمين «7» ، مهنّئا بهلاك الأسطول الحربي بالزّقاق الغربي «8» ، أجاد أغراضها، وسبك المعاني وراضها، وهي قوله «9» :[الطويل]
لعلّكما أن ترعيا لي وسائلا
…
فبالله عوجا بالرّكاب وسائلا
بأوطان أوطار قفا ومآربي
…
وبالحبّ خصّا بالسّلام المنازلا
ألا فانشدا بين القباب من الحمى
…
فؤاد شج أضحى عن الجسم راحلا
وبثّا صبّا بات هنالك واشرحا
…
لهم من أحاديثي عريضا وطائلا
رعى الله مثواكم على القرب والنّوى
…
ولا زال هامي السّحب في الرّبع هاملا
وهل لزمان باللّوى قد «1» سقى اللّوى
…
مآرب فما ألقى مدى الدّهر حائلا؟
فحظّي بعيد الدّار منه بقربه
…
ويورد فيه من مناه مناهلا
لقد جار دهري أن «2» نأى بمطالبي
…
وظلّ بما أبقى «3» من القرب ماطلا
وحمّلني من صرفه ما يؤدني
…
ومكّن منّي الخطوب شواغلا
عتبت عليه فاغتدى لي عاتبا
…
وقال: أصخ لي لا تكن لي «4» عاذلا
أتعتبني إذ «5» قد أفدتك موقفا
…
لدى أعظم الأملاك حلما ونائلا؟
مليك حباه الله بالخلق الرّضا
…
وأعلى له في المكرمات المنازلا
مليك علا فوق السّماك فطرفه
…
غدا كهلال الأفق يبصرنا علا
إذا ما دجا ليل الخطوب فبشره
…
صباح وبدر لا يرى الدهر آفلا
نماه من الأنصار غرّ أكابر
…
لهم شيم ملء الفضاء فضائلا
تلوا سور النّعماء في حزبهم كما
…
جلوا صور الأيام غرّا جلائلا
تسامت لهم في المعلوات مراتب
…
يرى زحل دون المراتب زاحلا
عصابة نصر الله طابت أواخرا
…
كما قد زكت أصلا وطابت أوائلا
لقد كان ربع المجد من قبل خاليا
…
ومن آل نصر عاد يبصر آهلا
إذا يوسف منهم تلوح يمينه
…
تقول سحاب الجود والبأس هاطلا
كتائبه في الفتح تكتب أسطرا
…
تبين من الأنفال فيها المسائلا
عوامله بالحذف تحكم في العدا
…
كما حكموا في حذف جزم عواملا
يبدّد جمع الكفر رعبا وهيبة
…
كما بدّدت منه اليمين النّوافلا
ومنها في وصفه الأسطول واللقاء:
ولمّا استقامت بالزّقاق أساطي
…
ل ثم «6» استقلّت للسّعود محافلا
رآها عدوّ الله فانفضّ جمعه
…
وأبصر أمواج البحار أساطلا
ومن دهش ظنّ السّواحل أبحرا
…
ومن رعب خال البحار سواحلا
ومن جندكم هبّت عليه عواصف
…
تدمّر أدناها الصّلاب الجنادلا
تفرّقهم أيدي سبا وتبيدهم
…
فقد خلّفت فيهم حساما وذابلا
وعهدي بمرّ الريح للنار موقدا
…
فقد أطفأت تلك الحروب المشاعلا
وكان لهم برد العذاب ولم يكن
…
سلاما وما كادوه قد عاد باطلا
حداهم هواهم للإسار وللفنا
…
فما أفلتوا من ذا وذاك حبائلا
فهم بين عان في القيود مصفّد
…
وفان عليه السّيف أصبح صائلا
ستهلك ما بالبرّ منهم جنودكم
…
كما أهلكت من كان بالبحر عاجلا
وقال أيضا يمدحه: [الطويل]
نشرت لواء النّصر واليمن والسّعد
…
وأطلعت وجه اليسر والأمن والرّفد
أعدت لنا الدّنيا نعيما ولذّة
…
ألا للمعالي ما تعيد وما تبدي
بنوركم والله يكلأ نوركم
…
تبدّت لنا سبل السعادة والرّشد
تحلّى لكم بالملك نحر ولبّة
…
فراق كذاك الجيد يزدان بالعقد
مآثركم قد سطّرتها يد العلا
…
على صفحات الفخر أو مفرق الحمد
بمدحكم القرآن «1» أثنى منزّلا
…
وقد حزتم مجدا بجدّكم سعد
كفاكم فخارا أنه لكم أب
…
ومن فخره إن أنت تدعوه بالجدّ
ثناؤكم هذا أم المسك نافح؟
…
وذكركم أم عاطر العنبر الورد؟
أجل ذكركم أزكى وأذكى لناشق
…
كما أنكم أجلى وأعلى لمشهد
طلعت على الآفاق نورا وبهجة
…
فما أنت إلّا البدر في طالع السّعد
وفي جملة الأملاك عزّ ورفعة
…
ودم في خلود الملك والنصر والسعد
ولو أنني فقت سحبان وائل
…
وأربيت في شعري على الشاعر الكندي
لما قمت بالمعشار من بعض ما لكم
…
من الجود والأفضال والبذل والرّفد
وقال في شيخه أبي بكر بن منظور، رحمه الله:[الطويل]
جلالك أولى بالعلا للمخلّد «2»
…
وذكرك أعلى الذّكر في كلّ مشهد
لمجدك كان العزّ يذخر والعلى
…
وأنّك للأولى بأرفع سؤدد
أبى الله إلّا أن تكون مشرّفا
…
بمقعد خير العالمين محمد
فهنّئت بالفخر السّنيّ محلّه
…
وهنّئت بالمجد الرّفيع المجدّد
شهدت بما أوليتني من عوارف
…
وخوّلت من نعمى وأسديت من يد
وما حزت من مجد كريم نجاره
…
وما لك من مجد ورفعة محتد
لقد نبّأتني بالرّواح لعزّكم
…
مخايل إسعاد تروح وتغتدي «1»
تحدّثني نفسي وإنّي لصادق
…
بأن سوف تلقى كاملا كلّ مقصد
دليلي بهذا أنّك الماجد الذي
…
تسامى علوّا فوق كلّ ممجّد
ليفخر أولو الفخر المنيف بأنّكم
…
لهم علم أعلى، به الكلّ مقتدي
إمام علوم معتلي القدر لم يزل
…
رداء المعالي والعوارف يرتدي «2»
وقاض إذا الأحكام أشكل أمرها
…
جلا لي «3» برأي الحقيقة مرشدي «4»
إذا الحقّ أبدى نوره عند حكمه
…
رأيت له حدّ الحسام المهنّد
وإنّ جميع الخلق في الحقّ عنده
…
سواسية ما بين دان وسيّد
هنيّا لنا بل للقضاء وفضله
…
بقاض حليم في القضاء مسدّد
أمات به الرحمن كلّ ضلالة
…
وأحيا بما أولاه شرعة أحمد
وكائن تراه لا يزال ملازما
…
لأمر بعرف أو لزام بمسجد
وما زال قدما للحقيقة حاميا
…
وللشّرعة البيضاء يهدى ويهتدي
ويمنح أفضالا ويولي أياديا
…
وإحسانه للمعتفين بمرصد
يقيّد أحرارا بمنطق جوده
…
فما إن يني عن مطلق أو مقيّد
نعم إن يكن للفضل شخص فإنما
…
بشيمته الغرّاء في الفضل يبتدي
أيا ناثرا أسنى المعارف والغنا
…
ويا طارقا يطوي السّرى كلّ فدفد
ألا الق عصا التّسيار واعش لناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد
ومن مقطوعاته قوله «5» : [الطويل]
تبرّأت من حولي إليك وأيقنت
…
برحماك آمالي فصحّ «6» يقيني
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأي «7»
…
وحسبي يقيني باليقين «8» يقيني
ومن شعره لهذا العهد منقولا من خطّه، قال مما نظمه فلان، يعني نفسه في كتاب الشّفا، نفع الله به:[الكامل]
سل بالعلى وسنى المعارف يبهر
…
هل زانها إلّا الأئمّة معشر؟
وهل المفاخر «1» غير ما شهدت به
…
آي الكتاب وخارتها الأعصر؟
هم ما هم شرفا ونيل مراتب
…
يوم القيام إذا يهول المحشر
ورثوا الهدى عن خير مبعوث به
…
فخرا هديّهم النعيم «2» الأكبر
وعياض «3» الأعلى قداحا في العلى
…
منهم وحوّله الفخار الأظهر
بشفائه «4» تشفى الصدور وإنه
…
لرشاد نار بالشّهاب «5» النّيّر
هو للتّوالف روح صورتها وقل
…
هو تاج مفرقها البهيّ الأنور
أفنت محاسنه المدائح مثل ما
…
لمعيده بعد الثناء الأعطر
وله اليد البيضاء في تأليفه
…
عند الجميع ففضلها لا ينكر
هو مورد الهيم العطاش هفت
…
بهم أشواقهم فاعتاض منه المصدر
فبه ننال من الرضى ما نبتغي
…
وبكونه فينا نغاث ونمطر
انظر إليه تميمة من كل ما
…
تخشى من الخطب المهول وتحذر
لكأنّني بك يا عياض مهنأ
…
بالفوز والملأ العليّ مبشّر
لكأنّني بك يا عياض منعّما
…
بجوار أحمد يعتلي بك مظهر
لكأنّني بك يا عياض متوّجا
…
تاج الكرامة عند ربّك تخبر
لكأنّني بك راويا من حوضه
…
إذ لا صدى ترويه إلّا الكوثر
فعلى محبّته طويت ضمائرا
…
وضحت شواهدها بكتبك تؤثر
ها إنّهن لشرعة الهادي الرّضا
…
صدف يصان بهن منها جوهر
فجزاك ربّ العالمين تحية
…
يهب النعيم سريرها والمنبر
وسقى هزيم الودق مضجعك الذي
…
ما زال بالرّحمى يؤمّ ويعمر
وقال في محمل الكتب: [الطويل]
أنا الحبر في حمل العلوم وإن تقل
…
بأني حليّ عن حلاهنّ تعدل
أقيّد ضروب العلم ما دمت قائما
…
وإن لم أقم فالعلم عنّي بمعزل
خدمت بتقوى الله خير خليفة
…
فبوّأني من قربه خير منزل
أبا سالم لا زال في الدهر سالما
…
يسوّغ من شرب المنى كلّ منهل
وكان قد رأى ليلة الاثنين الثانية لجمادى الأولى عام ستين وسبعمائة في النوم، كأنّ الوزير أبا علي بن عمر بن يخلف بن عمران الفدودي، يأمره أن يجيب عن كلام من كتب إليه، فأجاب عنه بأبيات نظمها في النوم، ولم يحفظ منها غير هذين البيتين:
[المتقارب]
وإني لأجزي بما قد أتاه
…
صديقي احتمالا لفعل الحفاء «1»
بتمكين ودّ وإثبات عهد
…
وإجزال حمد وبذل حياء
ومن نظمه في التورية «2» : [الخفيف]
وبخيل لمّا دعوه لسكنى
…
منزل بالجنان ضنّ بذلك
قال لي مخزن بداري فيه
…
جلّ «3» مالي فلست للدار تارك «4»
لا تعرّج على الجنان بسكنى
…
ولتكن ساكنا بمخزن مالك «5»
ومن ذلك أيضا «6» : [الكامل]
يا ربّ منشأة عجبت لشأنها
…
وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبيها «7» عصابة شدّة
…
حلّت محلّ الروح في الجثمان
فتحرّكت بإرادة مع أنها
…
في جنسها «8» ليست من الحيوان
وجرت كما قد شاءه «1» سكّانها
…
فعلمت أنّ السّر في السّكان «2»
ومن ذلك أيضا قوله «3» : [الوافر]
وذي خدع دعوه لاشتغال
…
وما عرفوه غثّا من سمين
فأظهر «4» زهده وغنى بمال
…
وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت «5» يمين «6» خبّ
…
فيا عجبا لحلاف «7» مهين
يقدّ بسيره ويمين حلف «8»
…
ليأكل باليسار وباليمين
شيء من نثره خاطبته من مدينة سلا بما نصه، حسبما يظهر من غرضه:[الطويل]
مرضت فأيّامي لذاك مريضة
…
وبرؤك مقرون ببرئي اعتلالها
فما راع ذاك الذّات للضّرّ رائع
…
ولا وسمت بالسّقم غرّ خلالها
وينظر باقي الرسالة في خبر التّعريف بمؤلّف الكتاب.
فراجعني عن ذلك بما نصّه: [الطويل]
متى شئت ألقى من علائك كل ما
…
ينيل من الآمال خير منالها
كبر اعتلال من دعائك زارني
…
وعادات برّ لم ترم عن وصالها
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطوّلا بتأكيد البرّ، متفضّلا بموجبات الحمد والشكر. وردتني سمات سيدي المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغنيّ عن تعريفه، متحفّيا في السؤال عن شرح الحال، ومعلنا ما تحلّى به من كرم الخلال، والشّرف العال، والمعظّم على ما يسرّ ذلك الجلال، الوزاري، الرئاسي، أجراه الله على أفضل ما عوّده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعائه الصالح، وحبّه
المخيّم بين الجوانح. والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهو سبحانه المسؤول أن يسنى لسيدي قرار الخاطر، على ما يسرّه في الباطن والظاهر، بمنّ الله وفضله، والسلام على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته. كتبه المعظّم الشاكر، الداعي المحبّ، ابن رضوان وفّقه الله.
ومما خاطبني به، وقد جرت بيني وبين المتغلب على دولتهم، رقاع، فيها سلم وإيقاع، ما نصه:
يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا، وسما فخره في المراتب الدينيّة والدنيوية حمدا وأجرا، أبقاك الله جميل السّعي، أصيل الرأي، سديد الرمي، رشيد الأمر والنّهي، ممدوحا من بلغاء زمانك، بما يقصر بالنّوابغ والعشي، مفتوحا لك باب القبول، عند الواحد الحقّ. وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية، وللإحسان غاية، ولشاهد الحسن تبريز، ولثوب الأدب تطريز، وفي النّقد إبريز، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجائبه، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه، من كل أسلوب طار في الجو إعرابا وإغرابا، وملك من سحر البيان خطابا، وحمد ثناه مطالا وحديثا مطابا، شأن من قصر عن شأو البلغاء، بعد الإغياء، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء، فلم يشقّ غباره، ولا اقتفيت إلّا بالوهم آثاره، فلله من سيدي إتحاف سرّ ما شاء، وأحكم الإنشاء، وبرّ الأكابر والإنشاء، فما شئت من إفصاح وكتابة، وبرّ ورعاية، وفهم وإفهام، وتخصيص وإبهام، وكبح لطرف النّفس وقمع، وحفض في الجواب ورفع، وتحرّج وتورّع، وترقّص وتوسّع، وجماع وأصحاب، وعتب وإعتاب، وإدلال على أحباب، إلى غير ذلك من أنواع الأغراض، والمقاصد السّالمة جواهرها من الأعراض، جملة جمعت المحاسن، وأمتعت السامع والمعاين، وحلّت من امتناعها مع السهولة الحرم، إلّا من زاد الله تلك المعارف ظهورا، وجعلها في شرع المكارم هدى ونورا. وأما شكر الجناب الوزاري، أسماه الله، بحكم النّيابة عن جلالكم، فقد أبلغت فيه حمدي، وبذلت ما عندي، وودّي لكم ودي، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي، وكل حالات ذلك الكمال، مجمع على تفضيله، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله. وأما مؤدّيه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم، قاضي الحضرة وخطيبها، أبو الحسن، أدام الله عزّته، وحفظ أخوّته، فقد قرّر من أوصاف كمالاتكم، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولي العلم بتلك السّجايا الغرّ، والشّيم الزّهر، وما تحلّيتم به من التقوى والبرّ، والعدل والفضل، والصبر والشكر، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد، وترك الملاذ والدّعة في مرضاة
ربّ العباد، والإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها، وأجزلت عوارفها، وجمعت لكم تالدها وطارفها، زكّى الله ثوابها وجدّد أثوابها، ووصل بالقبول أسبابها. وذكر لي أيضا من حسناتكم، المنقبة الكبيرة، والقربة الأثيرة، في إقامة المارستان «1» بالحضرة، والتّسبّب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة، التي هي من مهمّات المسلمين بالمحلّ الأعلى، ومن ضروريات الدين بالمزيّة الفضلى، وما ذخره القدر لكم من الأجر في ذلك السعي المشكور، والعمل المبرور، فسرّني لتلك المجادة إحراز ذلك الفضل العظيم، والفوز بثوابه الكريم، وفخره العميم. ومعلوم، أبقاكم الله، ما تقدّم من ضياع الغرباء والضعفاء من المضي فيما سلف هنالك، وقبل ما قدّر لهم من المرتفق العظيم وبذلك، حتى أن من حفظ قول عمر، رضي الله عنه، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات لخفت أن يسأل الله عنها عمر. لا شك في أن من تقدّم من أهل الأمر هنالكم، لا بدّ من سؤاله عمّن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل. والحمد لله على ما خصّكم به من مزية قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بخليفة خيرا، جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه.
وأما «كتاب المحبة» «2» ، فقد وقف المعظّم على ما وجّهتهم منه، وقوفا ظهر بمزية التّأمل، وعلم منه ما ترك للآخر الأول، ولم يشكّ في أنّ الفضل للحاكي، وشتّان بين الباكي والمتباكي. حقّا لقد فاق التأليف جمعا وترتيبا، وذهب في الطّرق الصوفية مذهبا عجيبا. ولقد بهرت معانيه كالعرائس المجلوّة حسنا ونضارة، وبرعت بدائعه وروائعه سنى وإنارة، وألفاظا مختارة، وكؤوسا مدارة، وغيوثا من البركات مدرارة، أحسن بما أدّته تلك الغرر السّافرة، والأمثال السائرة، والخمائل النّاظرة، واللآلئ المفاخرة، والنجوم الزّاهرة. أما إنه لكتاب تضمّن زبدة العلوم، وثمرة الفهوم، وإن موضوعه للباب اللّباب، وخلاصة الألباب، وفذلكة الحساب، وفتح الملك الوهّاب، سنى الله لكم ولنا كماله، وبلّغ الجميع منّا آماله، وجعل السّعي فيه