الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالحمّة المذكورة، فقرّب النّجعة على أهل الحصون والقرى الشّرقية، فصار مجتمعا لأرباب الطّلب من أهل تلك الجهات ومرتفقاتهم. وكان رجلا صالحا، مبارك النيّة، حسن التّعليم، نفع الله به من هنالك، وتخرّج على يديه جمع وافر من الطّلبة، عمرت بهم سائر الحصون. وكان له منزل رحب للقاصدين، ومنتدى عذب للواردين. تجول في آخرة بالأندلس والعدوة «1» ، وأخذ عمن لقي بها من العلماء، وأقام مدّة بسبتة مكبّا على قراءة القرآن والعربية. وبعد عوده من تجواله لزم التصدّر للإقراء بحيث ذكر، وقد كانت الحواضر فقيرة لمثله، غير أنه آثر الوطن، واختار الاقتصاد.
مشيخته: أخذ بألمريّة عن شيخها أبي الحسن بن أبي العيش، وبغرناطة عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، والعدل أبي الحسن بن مستقور. وببلّش عن الأستاذ أبي عبد الله بن الكمّاد، والخطيب أبي جعفر بن الزيات. وبمالقة عن الأستاذ أبي عبد الله بن الفخّار، والشّيخ أبي عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري.
وبالجزيرة عن خطيبها أبي العبّاس بن خميس. وبسبتة عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والإمام الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والزّاهد أبي عبد الله بن معلّى، والشيخ الخطيب أبي عبد الله الغماري. وبمكناسة من القاضي وارياش. وبفاس من الحاج الخطيب أبي الربيع سليمان بن مفتاح اللجّائي، والأستاذ أبي الحسن بن سليمان، والأستاذ أبي عبد الله بن أجروم الصّنهاجي، والحاج أبي القاسم بن رجا بن محمد بن علي وغيرهم، وكل من ذكر أجاز له عامة، إلّا قاضي مكناسة أبي عبد الله محمد بن علي الكلبي الشهير بوارياش.
مولده: في أول عام اثنين وثمانين وستمائة.
وفاته: توفي بالحمّة ليلة الاثنين الثامن عشر لشهر محرّم عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
محمد بن علي بن محمد العبدري
«2»
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باليتيم.
حاله: كان، رحمه الله، أحد الظرفاء من أهل بلده، مليح الشكل، حسن الشّيبة، لوذعيا في وقار، رشيق النظم والنثر، غزلا مع الصّون، كثير الدّعابة من غير إفحاش، غزير الأدب، حسن الصّوت، رائق الخطّ، بديع الوراقة، معسول الألفاظ، ممتع المجالسة، طيّب العشرة، أدّب الصّبيان مدة، وعقد الشروط أخرى، وكان يقرأ كتب الحديث والتفسير والرّقائق للعامة بالمسجد الأعظم، بأعذب نغمة، وأمثل طريقة، مذ أزيد من ثلاثين سنة، لم يخل منها وقتا إلّا ليلتين، إحداهما بسبب امتساكنا به في نزهة برياض بعض الطلبة، لم يخلف مثله بعده. وخطب بقصبة مالقة، ومال أخيرا إلى نظر الطّب، فكان الناس يميلون إليه، وينتفعون به لسياغ مشاركته، وعموم انقياده، وبرّه، وعمله على التّودّد والتّجمّل.
وجرى ذكره في «التّاج المحلّى» بما نصّه «1» : مجموع أدوات حسان، من خطّ ونغمة ولسان، أوراقه «2» روض تتضوّع نسماته، وبشره صبح تتألّق قسماته، ولا تخفى «3» سماته. يقرطس أغراض الدّعابة ويصميها، ويفوّق سهام الفكاهة إلى مراميها، فكلّما صدرت في عصره قصيدة هازلة، أو أبيات منحطّة عن الإجادة نازلة، خمّس أبياتها وذيّلها، وصرف معانيها وسهّلها «4» ، وتركها سمر النّدمان، وأضحوكة الزمان «5» . وهو الآن خطيب المسجد الأعلى من مالقة «6» ، متحلّ بوقار وسكينة، حالّ من أهلها بمكانة مكينة، لسهولة جانبه، واتّضاح مقاصده في الخير ومذاهبه. واشتغل لأوّل أمره بالتّعليم «7» والتّكتيب، وبلغ الغاية في الوقار «8» والتّرتيب، والشّباب «9» لم ينصل خضابه، ولا سلّت للمشيب عضابه، ونفسه بالمحاسن كلفة صبّة «10» ، وشأنه كله هوى ومحبّة، ولذلك ما خاطبه به بعض أودّائه «11» ، وكلاهما رمى أهله بدائه، حسبما يأتي خلال هذا القول «12» وفي أثنائه، بحول الله.
شعره: كتبت إليه أسأل منه ما أثبت في كتاب «التّاج» من شعره، فكتب إليّ «1» :[البسيط]
أمّا الغرام فلم أخلل بمذهبه
…
فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه؟
يا معرضا عن فؤاد لم يزل كلفا
…
بحبّه ذا حذار من تجنّبه
قطعت عنه الذي عوّدته فغدا
…
وحظّه من رضاه برق خلّبه «2»
أيام وصلك مبذول، وبرّك بي
…
مجدّد، قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودّك عن إفك العواذل في
…
شغل وبدر الدّجى ناس لمغربه
لا أنت «3» تمنعني نيل الرّضا كرما
…
ولا فؤادي بوان في تطلّبه
لله عرفك ما أذكى تنسّمه
…
لو كنت تمنحني استنشاق طيّبه
أنت الحبيب الذي لم أتّخذ بدلا
…
منه وحاش لقلبي من تقلّبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كلّ سنا
…
أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلق وفي خلق
…
أكملت «4» باسمك معنى الحسن فازه به
نأيت «5» أو غبت ما لي عن هواك غنى
…
لا ينقص البدر حسنا في تغيّبه
سيّان حال التّداني والبعاد، وهل
…
لمبصر البدر نيل في ترقّبه؟
يا من أحسن «6» ظنّي في رضاه وما
…
ينفكّ يبدي قبيحا من تغضّبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب منّي لا
…
يصغي لسمع ملام من مؤنّبه
فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناها «7» :
«يا سيدي الذي إذا رفعت راية ثنائه تلقّيتها باليدين «8» ، وإذا قسّمت سهام وداده
على ذوي اعتقاده كنت صاحب الفريضة «1» والدّين، دام بقاؤك لطرفة «2» تبديها، وغريبة تردفها بأخرى تليها، وعقيلة بيان تجلّيها، ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدّهر بشتّ نظمها، تؤنسها وتسلّيها، لم أزل أعزّك الله، أشدّ على بدائعها «3» يد الضّنين «4» ، وأقتني درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدّرّ الثمين، والأيام بلقياك تعد، ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت عليّ سماوك بعد قحط، وتوالت «5» عليّ آلاوك على شحط «6» ، وزارتني من عقائل بيانك كلّ فاتنة الطّرف، عاطرة العرف، رافلة في حلل البيان والظّرف، لو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرّت لنا العرب العاربة بالإعجاز، ما شئت من رصف المبنى، ومطاوعة اللّفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتّشبّث بالقلوب، غير أن سيّدي أفرط في التّنزّل، وخلط المخاطبة بالتّغزّل، وراجع الالتفات، ورام استدراك ما فات. يرحم «7» الله شاعر المعرّة، فلقد أجاد في قوله، وأنكر مناجاة الشّوق «8» بعد انصرام حوله، فقال «9» :[البسيط]
أبعد حول تناجي الشّوق «10» ناجية
…
هلّا ونحن على عشر من العشر «11»
وقد «12» تجاوزت في الأمد «13» ، وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصّمد، فأقسم بألفات القدود، وهمزات الجفون السّود، وحاملي «14» الأرواح مع الألواح، بالغدوّ والرّواح، لولا بعد مزارك، ما أمنت غائلة ما تحت إزارك. ثمّ إنّي حقّقت الغرض، وبحثت عن المشكل الذي عرض، فقلت: للخواطر انتقال، ولكلّ مقام مقال، وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات، ثم رفع اللّبس خبر الثّقات.
ومنها «1» : وتعرّفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التّكتيب والتّعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لا حظ الملاحظ «2» ، ما قال الجاحظ «3» ، فاعتراض لا يردّ، وقياس لا يضطرد «4» ، حبّذا والله عيش أهل «5» التّأديب، فلا بالضّنك ولا بالجديب «6» ، معاهدة الإحسان، ومشاهدة الصّور الحسان، يمينا إنّ المعلّمين، لسادة المسلمين، وإنّي لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب، أمراء «7» فوق المراتب، من كل مسيطر الدّرّة، متقطّب الأسرّة، متنمّر للوارد تنمّر الهرّة، يغدو إلى مكتبه، كالأمير»
في موكبه، حتى إذا استقلّ في فرشه، واستولى على عرشه، وترنّم بتلاوة قالونه «9» وورشه، أظهر للخلق احتقارا، وأزرى «10» بالجبال وقارا، ورفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظّالم والمظلوم، فتقول: كسرى في إيوانه، والرّشيد في زمانه «11» ، والحجّاج بين أعوانه. وإذا «12» استولى على البدر السّرار، وتبيّن للشهر الغرار «13» ، تحرّك «14» إلى الخرج «15» ، تحرّك العود «16» إلى الفرج، أستغفر الله مما يشقّ على سيدي سماعه، وتشمئزّ من ذكره «17» طباعه، شيم اللّسان، خلط الإساءة بالإحسان، والغفلة من صفات الإنسان. فأيّ عيش هذا «18» العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش؟ طاعة معروفة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، تتحقق الغصّات «19» ، فكأنّما طمس الأفواه «20» ، ولأم بين الشّفاه، وإن أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضّجيج والعجيج، وحفّ به كما حفّ بالبيت الحجيج. وكم بين ذلك من رشوة تدسّ، وغمزة لا تحسّ، ووعد يستنجز، وحاجة تستعجل وتحفز. هنّأ الله سيدي ما خوّله، وأنساه بطيب آخره أوّله. وقد بعثت
بدعابتي هذه مع إجلال قدره، والثّقة بسعة صدره، فليتلقّها بيمينه، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه «1» ، ويفرغ لمراجعتها وقتا من أوقاته عملا «2» بمقتضى دينه، وفضل يقينه، والسّلام.
ومن شعره ما كتب به إليّ «3» : [الكامل]
آيات حسنك حجّة للقال «4»
…
في الحبّ قائمة على العذّال
يا من سبى طوعا عقول ذوي النّهى
…
ببلاغة قد أيّدت بجمال
يستعبد الأبصار والأسماع ما
…
يجلو ويتلو من سنيّ مقال
وعليك أهواء النفوس بأسرها
…
وقفت فغيرك «5» لا يمرّ ببال
رفعت لديك «6» في البلاغة راية
…
لمّا احتللت بها وحيد كمال
وغدت تباهي منك بالبدر الذي
…
تعنو البدور لنوره المتلالي
ماذا ترى يا ابن الخطيب لخاطب «7»
…
ودّا ينافس فيك كلّ مغال «8» ؟
جذبته نحو هواك غرّ محاسن
…
مشفوعة أفرادها بمعال
وشمائل رقّت لرقّة طبعها
…
فزلالها يزري بكل زلال
وحليّ آداب بمثل نفيسها
…
تزهو الحلى ويجلّ قدر الحالي
تستخدم «9» الياقوت عند نظامها
…
فمقصّر من قاسها بلآل
سبق الأخير الأوّلين بفضلها
…
فغدا المقدّم تابعا للتّالي
شغفي ببكر «10» من عقائلها إذا
…
تبدو تصان من الحجى بحجال
فابعث بها بنت «11» المنى ممهورة
…
طيب الثّناء لنقدها والكالي
لا زلت شمسا في الفضائل يهتدى
…
بسناك في الأفعال والأقوال «12»
ثم السّلام عليك يترى ما تلت
…
بكر الزّمان روادف الآصال
ومن الدّعابة، وقد وقعت إليها الإشارة من قبل، ما كتب به إليه صديقه الملاطف أبو علي بن عبد السّلام «1» :[الوافر]
أبا عبد الله نداء خلّ
…
وفيّ جاء يمنحك النّصيحه
إلى كم تألف الشّبان غيّا
…
وخذلانا، أما تخشى الفضيحة؟
فأجابه رحمه الله: [الوافر]
فديتك، صاحب السّمة المليحه
…
ومن طابت أرومته الصّريحه
ومن قلبي وضعت له محلّا
…
فما عنه يحلّ بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب
…
وأكباد «2» لفرقتكم قريحه
وطرفي لا يتاح له رقاد
…
وهل نوم لأجفان جريحه؟
وزاد تشوّقي أبيات شعر
…
أتت منكم بألفاظ فصيحه
ولم تقصد بها جدّا، ولكن
…
قصدت بها مداعبة قبيحه «3»
فقلت: أتألف الشبّان غيّا
…
وخذلانا، أما تخشى الفضيحه؟
وفيهم «4» حرفتي وقوام عيشي
…
وأحوالي بخلطتهم نجيحه
وأمري فيهم أمر مطاع
…
وأوجههم مصابيح صبيحه
وتعلم أنّني رجل حصور «5»
…
وتعرف ذاك معرفة صحيحه
قال في «التّاج» : ولمّا «6» اشتهر المشيب بعارضه ولمّته، وخفر الدهر لعمود «7» صباه وأذمّته، أقلع واسترجع، وتألّم لما فرط وتوجّع، وهو الآن من جلّة الخطباء طاهر العرض والثّوب، خالص من الشّوب، باد عليه قبول قابل التوب.
وفاته رحمه الله: في آخر صفر من عام خمسين وسبعمائة في وقيعة الطاعون العام، ودخل غرناطة.