الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن طارئي المقرئين والعلماء
منصور بن علي بن عبد الله الزواوي
صاحبنا، يكنى أبا علي.
حاله: هذا الرجل طرف في الخير والسلامة، وحسن العهد، والصّون والطهارة والعفّة، قليل التصنّع، مؤثر للاقتصاد، منقبض عن الناس، مكفوف اللسان واليد، مشتغل بشأنه، عاكف على ما يعنيه، مستقيم الظاهر، ساذج الباطن، منصف في المذاكرة، موجب لحقّ الخصم، حريص على الإفادة والاستفادة، مثابر على تعلّم العلم وتعليمه، غير أنف عن حمله عمّن دونه، جملة من جمل السّذاجة والرّجولة وحسن المعاملة، صدر من صدور الطّلبة، له مشاركة حسنة في كثير من العلوم العقلية والنّقلية، واطّلاع وتقييد، ونظر في الأصول والمنطق وعلم الكلام، ودعوى في الحساب والهندسة والآلات. يكتب الشّعر فلا يعدو الإجادة والسّداد.
قدم الأندلس في عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فلقي رحبا، وعرف قدره، فتقدم مقرئا بالمدرسة «1» تحت جراية نبيهة، وحلّق للناس متكلّما على الفروع الفقهية والتفسير، وتصدّر للفتيا، وحضر بالدار السلطانية مع مثله. جرّبته وصحبته، فبلوت منه دينا ونصفة، وحسن عشرة.
محنته: امتحن في هذا العهد الأخير بمطالبة شرعيّة، لمتوقّف صدر عنه لما جمع الفقهاء للنّظر في ثبوت عقد على رجل نال من جانب الله والنّبوّة، وشكّ في القول بتكفيره، فقال القوم بإشراكه في التكفير ولطخه بالعاب الكبير، إذ كان كثير المشاحّة لجماعتهم، فأجلت الحال عن صرفه عن الأندلس في أواخر شعبان عام خمسة وستين وسبعمائة.
مشيخته: طلبت منه تقييد مشيخته، فكتب مما يدل على جودة القريحة ما نصه:
«يتفضّل سيدي الأعلى الذي أهتدي بمصباحه، وأعشو إلى غرره وأوضاحه، جامع أشتات العلوم، وفاتق رتق الفهوم، حامل راية البديع، وصاحب آيات التّورية فيه
والتّرصيع، نخبة البلغاء، وفخر الجهابذة العلماء، قائد جياد البلاغة من نواصيها، وسائق شوارد الحكم من أقاصيها، أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله للقريض يقطف زهره، ويجتني غرره، وللبديع يطلع قمره، وينظم درره، وللأدب يحوك حلله، ويجمع تفاصيله وجمله، وللمعاني يجوس بجيوش البراعة خلالها، ويفتتح بعوامل اليراعة أقفالها، وللأسجاع يقرّط الأسماع بفرائدها، ويحلّي النحور بقلائدها، وللنّظم يورد جياده أحلى الموارد، ويجيلها في مضمار البلاغة من غير معاند، وللنّثر يفترع أبكاره، ويودعها أسراره، ولسائر العلوم يصوغها في مفرق الآداب تاجا، ويضعها في أسطر الطّروس سراجا، ولا زال ذا القلم الأعلى، وبدر الوزارة الأوضح الأجلى، ببقاء هذه الدولة المولوية والإمامة المحمدية كعبة لملوك الإسلام، ومقصدا للعلماء الأعلام، ورضى عنهم خلفا وسلفا، وبورك لنا فيهم وسطا وطرفا، ولا زالت آمالنا بعلائهم منوطة، وفي جاههم العريض مبسوطة، بقبول ما نبّه عليه، من كتب شيوخي المشاهير إليه، فها أنا أذكر ما تيسّر لي من ذلك بالاختصار، إذ لا تفي بذكرهم وحلاهم المجلّدات الكبار.
فمنهم مولاي الوالد علي بن عبد الله لقاه الله الرّوح والريحان، وأوسعه الرّضا والغفران. قرأت عليه القرآن وبعض ما يتعلق به من الإعراب والضبط. ثم بعثني إلى شيخنا المجتهد الإمام علم العلماء، وقطب الفقهاء، قدوة النّظار، وإمام الأمصار، منصور بن أحمد المشدالي، رحمه الله وقدّس روحه، فوجدته قد بلغ السّنّ به غاية أوجبت جلوسه في داره، إلّا أنه يفيد بفوائده بعض زوّاره، فقرأت من أوائل ابن الحاجب «1» عليه لإشارة والدي بذلك إليه، وذلك أول محرم عام سبعة وعشرين وسبعمائة. واشتدّ الحصار ببجاية لسماعنا أنّ السلطان العبد الوادي «2» ينزل علينا بنفسه، فأمرني بالخروج، رحمه الله، فعاقني عائق عن الرجوع إليه؛ لأتمم قراءة ابن الحاجب عليه. ثم مات، رحمه الله، عام أحد وثلاثين وسبعمائة، فخصّ مصابه البلاد وعمّ، ولفّ سائر الطلبة وضمّ، إلّا أنه ملأ بجاية وأنظارها بالعلوم النظرية وقساها، وأنظارها بالفهوم النقلية والعقلية فصار من طلبته شيخنا المعظم، ومفيدنا المقدّم، أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي المعروف بالمفسّر، رحمه الله، بالطريقة الحاجبية، والكتابة الشرعية والأدبية، مع فضل السّنّ وتقرير حسن، إلى معارف تحلّاها،
ومحاسن اشتمل حلاها. واستمرّ في ذكر شيوخه على هذه الوتيرة من التزام السّجع، وتقرير الحلي، فأجاد، وتجاوز المعتاد، فذكر منهم محمد بن يحيى الباهلي المذكور، وأنه أخذ عنه جملة من العلوم، فأفرده بقراءة الإرشاد؛ والأستاذ أبا علي بن حسن البجلي، وقرأ عليه جملة من الحاصل، وجملة من المعالم الدينية والفقهية، والكتب المنطقية، كالخونجي، والآيات البيّنات؛ والقاضي أبا عبد الله محمد بن أبي يوسف، قاضي الجماعة ببجاية؛ وأبا العباس أحمد بن عمران الساوي اليانيولي. قال:
ثم ثنيت العنان بتوجّهي إلى تلمسان، راغبا في علوم العربية، والفهوم الهندسية والحسابية، فأول من لقيت شيخنا الذي علمت في الدنيا جلالته وإمامته، وعرفت في أقاصي البلاد سيادته وزعامته، وذكر رئيس الكتّاب العالم الفاضل أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والمحدّث البقيّة أبا العباس بن يربوع، والقاضي أبا إسحاق بن أبي يحيى، وقرأ شيئا من مبادئ العربية على الأستاذ أبي عبد الله الرّندي. ولقي بالأندلس جلّة؛ فممّن قرأ عليه إمام الصنعة العربية شيخنا أبو عبد الله بن الفخّار الشهير بالبيري، ولازمه إلى حين وفاته، وكتب له بالإجازة والإذن له في التّحليق بموضع قعوده من المدرسة بعده. وقاضي الجماعة الشريف أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني، نسيج وحده، ولازمه، وأخذ عنه تواليفه، وقرأ عليه تسهيل الفوائد لابن مالك، وقيّد عليه، وروى عن شيخنا إمام البقية أبي البركات ابن الحاج، وعن الخطيب المحدّث أبي جعفر الطّنجالي، وهو الآن بالحال الموصوفة.
أعانه الله وأمتع به.
شعره: زرنا معا والشيخ القاضي المتفنّن أبو عبد الله المقرئ، عند قدومه إلى الأندلس، رباط العقاب «1» . واستنشدت القاضي، وكتب لي يومئذ بخطّه: استنشدني الفقيه الوجيه الكامل ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب، أطال الله بقاه كما أطال ثناه، وحفظ مهجته، كما أحسن بهجته، فأنشدته لنفسي:[البسيط]
لمّا رأيناك بعد الشّيب يا رجل
…
لا تستقيم وأمر النفس تمتثل
زدنا يقينا بما كنّا نصدّقه
…
عند المشيب يشبّ الحرص والأمل
وكان ذلك بمسجد رابطة العقاب، عقب صلاة الظهر من يوم الأحد التاسع والعشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة. وكتب الشيخ الأستاذ أبو علي يقول: منصور بن علي الزّواوي، في رابطة العقاب في كذا، أجزت صاحبنا